لا يزال الاسرائيليون يعتقدون أنهم بمجرد أن يخترعوا كذبة ويروجوها فإن العالم، خصوصاً الغربي، سيصدقها أو انه مضطر لتصديقها والعمل بموجبها بحكم التعاطف التقليدي والتاريخي بين الغرب واسرائيل. فجأة، اخرج الاسرائيليون من الجعبة بضاعة قديمة تمثلت بالقول ان اسرائيل تشعر بأنها محاصرة. قالها المستشار الفهيم للأمن القومي الأميركي ساندي بيرغر، ورددتها الوزيرة العبقرية مادلين اولبرايت، في مقابلتين تلفزيونيتين. لكن الوقائع كذبت الادعاء، فلم تصمد الحجة السخيفة أكثر من لمح البصر. لم يكن ممكناً اقناع أحد بها الا إذا كان مؤهلاً ايديولوجياً، مثل بيرغر واولبرايت، لاحتقار الحقائق. فضلاً عن ذلك، بل الأهم، ان الأميركيين والاسرائيليين رددوا طوال الأيام الماضية ان الأولوية تبقى لاحياء عملية السلام واستئناف التفاوض. والأغرب انهم في البحث عن سبل العودة الى التفاوض فرضوا على الفلسطيني الشروط التي لا يقبلها أي شريك من "شركاء" في "سلام". طلب منه "وقف النار"، و"وقف العنف" و"إعادة الهدوء" ولم يكن مطلوباً من الاسرائيلي أي شيء في المقابل. لماذا؟ لأنه في نظر الأميركيين، كما في نظر نفسه، السلطة التي تواجه أعمال شغب وتقع على عاتقها مهمة الحفاظ على الأمن وفرض النظام. ومن هذا المنطلق لم يكن في الكلام الرسمي الأميركي مجرد لوم أو حتى تساؤل عن سبب سقوط هذا العدد الهائل من القتلى والجرحى. أصبح معروفاً ان الأميركيين والاسرائيليين تضامنوا في رفض تشكيل لجنة تحقيق دولية، على رغم بروز تأييد عالمي بديهي لمثل هذه اللجنة. ففي نظر العالم كان الطرفان في حالة اقامة سلام، وما حصل شكل ضربة لهذا السلام، فهل يعقل ألا يكون هناك تحقيق، وهل يعقل ان يكون التحقيق على أيدي الأميركيين وحدهم وهم يفاخرون بانحيازهم الى وجهة النظر الاسرائيلية. ولقد برهن رفض لجنة التحقيق ان واشنطن كانت ولا تزال تعتبر حليفتها فوق الشبهات والادانات، وفوق القانون الدولي. ثم جاءت انذارات باراك والمهل الزمنية. وفي العادة تأتي مثل هذه المهل من ارهابيين وليس من رجال دولة. وبلغت الحكمة عند الرئيس الأميركي حد الاعتقاد بأن انذار باراك أمر طبيعي ومقبول، بدليل انه برمج قمة في شرم الشيخ آخذاً في الاعتبار ان هذه القمة ستعقد بعد ان يكون الفلسطينيون خضعوا للانذار واستجابوا الاملاءات الاسرائيلية. لم يفطن كلينتون الى أن الانذارات عربدة ارهابية لا يمكن ان يقبلها العالم العربي، وبالتالي مصر الدولة المضيفة المفترضة لقمة كان لا بد أن تنعقد بفضل تهديدات رئيس وزراء اسرائيل. نأتي الى اللعب السياسي المكشوف الذي استهدف الرئيس الفلسطيني شخصياً. تصرف الأميركيون وكأنهم غرباء لا يعرفون ما يجري، بل كأن لا وجود لهم في اللجان الأمنية، وتصرف الاسرائيليون أيضاً كأنهم لا يعرفون. طبعاً أنهم يعرفون تماماً ما حصل ويحصل لكنهم وجدوا مصلحة في التغابي تمهيداً للتذاكي. تأسيساً على ذلك قالوا ان عرفات يستطيع اصدار الأوامر للتهدئة، فإذا انعدم الهدوء فهذا يعني أحد أمرين: إما أنه لا يأمر، وإما أنه يأمر ولا يطاع. فإذا لم يأمر فهذا يعني انه لم يعد "شريكاً في السلام"، وإذا أمر ولم يطع فهذا يعني انه فقد السيطرة وبالتالي، استطراداً، لم يعد يلزم ك"شريك في السلام". وانشغلت التحليلات لإبراز هذه الترهات التي يعلم الأميركيون والاسرائيليون قبل سواهم انها غير واقعية، لكنهم ركزوا عليها لأمرين: الأول لشن حرب نفسية على عرفات، والثاني لإثبات أن جماهير الانتفاضة مجرد قطعان تحبس أو تفلت عند الحاجة. ولا شك ان أحد السيناريوات التي وضعها مجرمو الحرب الاسرائيليون كان يرمي الى اقناع العالم بأن اسرائيل باتت مهددة بحال فوضى تعم المناطق الفلسطينية وطالما ان السلطة عجزت عن إعادة الهدوء فقد اقتضى أن يعيد جيش "الدفاع" الاسرائيلي احتلال "المناطق"... لا بد أن يكون العقل اسرائيلياً ليفكر بهذه الطريقة. والمشكلة ان ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل تعمل في خدمة عقل كهذا.