رفعت عودة المفاوضات بين سورية واسرائيل سحابة التشاؤم التي غطت أجواء عملية السلام بعد مرور أسابيع قليلة على تسلم رئيس الوزراء ايهود باراك السلطة. وتوقفت في وسائل الاعلام الرئيسية في اسرائيل موجة التساؤلات والتكهنات حول صحة الرئيس حافظ الأسد واحتمالات انتقال السلطة وغير ذلك من القضايا السياسية في دمشق، ونقلت الوسائل اهتمامها الى الدعوة التي اطلقها باراك ل"التضحية" من أجل السلام. لكن على الكل الاعتراف بالدور الذي لعبته ادارة الرئيس بيل كلينتون في عودة المفاوضات. ولا يقتصر الانجاز هنا على المثابرة التي أدت الى ردم الهوة العميقة بين الطرفين حول الناحية الاجرائية، بل أيضاً المحافظة على سرية التحرك. وهذا الأخير أمر خارج على المألوف، لأن كبار المسؤولين لا يستطيعون عادةً مقاومة اغراء التحدث الى اصدقائهم من الصحافيين عن لنجازاتهم وراء الكواليس، وهو بالضبط ما يعرض هذا النوع من الديبلوماسية الهادئة للخطر. بدل ذلك تحمل "فريق عملية السلام" الأميركي بصمت الكثير من الاتهامات اليه بالسلبية واللامبالاة من جانب من يعتبرون انفسهم "خبراء" في شؤون الشرق الأوسط، بل شجع عليها ضمناً من اجل المزيد من التغطية وابعاد كل ما شأنه تخريب تلك المبادرة الحساسة. والمرجح ان المراسلين والخبراء سيجدون صعوبة كبيرة في الحصول على معلومات عن سير المحادثات، بسبب ما يبدو من حرص الطرفين السوري والاسرائيلي، وأيضاً الأميركي، على ممارسة الحد الاقصى من الانضباط المهني. واذا كان من المؤكد ان الصحافة الاسرائيلية ستكون اكثر من يكتب عن مجرى المحادثات خلال الشهور المقبلة فان من الضروري معاملة ما تقوله بالكثير من الحذر. ذلك ان رئيس الوزراء باراك يحرص على التكتم على آرائه، خصوصاً تجاه وسائل الاعلام الاسرائيلية المنفلتة. قد يسمح لنفسه باستعمال التسريبات الاعلامية للتضليل والتغطية، لكن من المستبعد انه او مساعديه سيكشفون للصحافة عن قائمة أولوياتهم الحقيقية. تحدثت وسائل الاعلام الأميركية كثيراً عن "الغموض البنّاء" الذي مكّن من العودة الى التفاوض. إذ أعطت الوصفة التي قامت عليها المحادثات كلاً من الطرفين ما يريد في ما يخص القضية التي تندرج تحت عنوان "وديعة رابين". وعلى رغم أن أي اتفاق يتوصلان اليه سيكون على اقصى ما يمكن من التفصيل والتحديد، تجنباً لخلافات تنشب بعد التوقيع النهائي من نوع قضية طابا بين مصر واسرائيل فقد يجدان فائدة في العودة الى قسط من الغموض البنّاء. تمكن الاشارة هنا الى الأهمية الخاصة لهذا الموضوع بالنسبة الي، بعدما نشرتُ أخيراً مقالة في مجلة متخصصة عن "خط 4 حزيران يونيو 1976"، وأصدرت في 15 كانون الأول ديسمبر كتاباً بعنوان "خط 4 حزيران 1967: خط المعركة ام حدود للسلام؟". وكنت في آب أغسطس 1998، قبل بروز أي مؤشر الى عودة السوريين والاسرائيليين الى التفاوض، بدأت بحثاً على المستوى الشخصي لتحديد ذلك الخط بأقصى ما يمكن من الدقة. وعندما تطور البحث ليأخذ شكلاً اكثر نظامية بدا لي ان نتائجه قد تستحق النشر في مجلة أكاديمية متخصصة بدراسات الشرق الأوسط. وعندما سلمت المقالة، مرفقة بخرائط، الى مجلة "ميدل ايست انسايت" في حزيران يونيو 1997 كان احتمال عودة التفاوض بين سورية واسرائيل لا يزال بعيداً. على رغم ذلك تنامت لديّ في حينه فكرة الغموض كعنصر ايجابي في التفاوض، واحتمال ان خريطة توضح الخط الفاصل بين السوريين والاسرائيليين في اوائل حزيران 1996 قد تحرم المفاوضين من هامش الغموض الذي لا غنى عنه اذا ارادوا حلولاً وسطاً تكفل النجاح. وتعمقت الفكرة مع انتصار باراك في الانتخابات الاسرائيلية وتزايد احتمال العودة الى التفاوض. والآن، مع نشر الخرائط وعودة محادثات السلام، ها هو الموضوع يطرح نفسه في شكل مباشر. وكانت سورية في السنوات الأخيرة أكدت وجوب انسحاب اسرائيل الى خط الرابع من حزيران 1967، فيما عبرت اسرائيل عن مخاوفها من ان ذلك يعني تقدم السوريين الى ذلك الخط الذي يلامس بحيرة طبريا ونهر الأردن، وما يعنيه ذلك بالنسبة الى مشكلة المياه، التي تفاقمها موجة الجفاف التي تشهدها المنطقة والتراجع الخطير في منسوب مياه البحيرة. اذن فالقضية على الأرض كما سيتناولها الطرفان السوري والاسرائيلي واضحة تماماً: فسورية تطالب بعودة اسرائيل الى الخط السابق لحرب حزيران، وهو ما حصلت عليه مصر لقاء معاهدتها للسلام مع اسرائيل. بالمقابل فإن اسرائيل تريد ابقاء سيطرتها على مياه اعالي وادي الأردن وتخشى ان العودة الى خطوط الرابع من حزيران ستعطي سورية كامل حقوق الدولة المشاطئة. هل نحن امام معضلة لا تعرف الحل؟ أم هل ان تحديد خط 4 حزيران يضع الطرفين فوراً في طريق مسدود؟ ليس لي بالطبع التطوع باسداء النصح الى الطرفين، لكن "لا"، كما أرى، هي الجواب الصحيح في الحالتين. اذ ليس للتحديد الدقيق لخط 4 حزيران 1967 أن ينفي في اي شكل من الأشكال الاعتبارات الآتية: اذا اخذنا الموقف الاسرائيلي المرجح، وهو ان على حدود السلام بين الطرفين ان تطابق الحدود الدولية القديمة التي رسمت في 1923، فإن اقامة منطقة منزوعة السلاح الى الغرب من الخط ستعني تلقائياً انسحاباً اسرائيلياً ليس الى حدود 4 حزيران فحسب بل أبعد. بالمقابل، اذا رسمت الحدود على الشاطيء الشمالي الشرقي لبحيرة طبريا والضفة الشرقية لنهر الأردن فلا يعني ذلك بالضرورة ان الانسحاب الاسرائيلي الى ما وراء ذلك الخط سيقابله تقدم سوري اليه. وكما نعلم فإن الاردن يتسلم حالياً قسماً من مياه طبريا، والمرجح ان الكيان الفلسطيني سيتسلم قسطه من تلك المياه مستقبلاً. ازاء ذلك نجد ان تضاريس المنطقة تعني أن مياه وادي الاردن ليست مهمة كثيراً بالنسبة الى التوازن المائي لعموم سورية. من هنا فإن اقامة "منطقة حفظ المياه في وادي الاردن" خالية من السكان تحت سيادة سورية، فيما تخضع المياه نفسها للقانون الاسرائيلي، ستحفظ مصالح جاري سورية العربيين من دون ان يكلفها ذلك شيئاً يذكر، ويعطيها في الوقت نفسه الحدود التي تريد. الخيار الآخر هو استيطان عربي محدود في وادي الأردن يؤدي الى زيادة طفيفة في احتياجات سورية من تلك المياه. هنا ايضاً، في حال بقاء سيادة القانون الاسرائيلي على تلك المياه، يمكن التوصل الى اتفاق على استعمال المياه مشابه لذلك الذي توصلت اليه بريطانيا وفرنسا في 1926. ما اريد قوله هو ان هناك الكثير من الحلول الممكنة اذا اراد الطرفان فعلاً التوفيق بين مطالبة سورية بالأرض من جهة ومخاوف اسرائيل والطرفين العربيين المشاطئين على المياه، وان الخرائط التي تحدد خط الأمر الواقع كما كان في 4 حزيران 1967 لا تشكل عائقاً أمام هذا النوع من الحلول المبتكرة. * باحث من مؤسسة ارميتاج، فرجينيا، الولايات المتحدة