على مدى ثلاثين عاماً ادلت الفنانة منى اصف بحوالى ثلاثمئة حديث وتصريح حول مسيرتها الفنية الحافلة وكانت كل مرة تجد شيئاً جديداً تقوله، واضافة مهمة تغني بها هذا السجل الفضي المتميز. وهي تنطلق في هذا من طموحها الذي ليس له حدود حتى حديثها عن استحقاقها جائزة الاوسكار، والذي اثير حوله بعض الجدل كان في سياق هذا الطموح المشروع، ومن هنا قالت في احد الحوارات معها رداً على سؤال حول تقويم مسيرتها: "لست راضية تمام الرضى، ولكن المكانة التي وصلت اليها تجعلني مطمئنة، واتمنى ان يكون لدي بقية من عمر كي استطيع تقديم المزيد من الاعمال الفنية المتطورة… اما اين اقف فلا اتصور انني سألت نفسي هذا السؤال… المهم انني اسير والى الامام". وعن الشروط التي تفرضها للموافقة على المشاركة في عمل فني تقول: "شرطي ان يكون للدور الذي تلعبه المرأة هدف وهوية، ويحمل مضامين قضية انسانية، وليس مجرد دور انثوي… والناحية الثانية والتي اعتبرها الاساس هي المخرج الذي اتعامل معه إما ان يكون مخرجاً متميزاً لديه خبرة في مجال الاخراج او مخرجاً جديداً". وقد سبق للناقد جان الكسان ان تابع مسيرة الفنانة منى واصف ونشر اوراقاً ملونة من هذه المسيرة على حلقات نشرت في مجلة TV. تكثف مسيرة هذه الفنانة التي تابعها معها في الصحافة السورية منذ الستين. ولعل كثيرين لا يعرفون ان الكسان نشر في بداية الستينات، في جريدة "النصر" التي كان يعمل فيها صورة لمنى واصف بعد ان قدمت اول اعمالها على المسرح العسكري والى جانبها التعليق التالي: "منى واصف… احفظوا هذا الاسم سيكون له شأن كبير في عالم الفن". وبعد ثلاثين سنة كتب: تجاوزت منى واصف كل التعريفات التي سبق ان اطلقت عليها خلال مسيرتها الفنية الطويلة مع المسرح والاذاعة والسينما والتلفزيون ومن هذه التعريفات انها: "فنانة سورية الاولى، وسيدة المسرح السوري، ونجمة الشاشتين في سورية، والفنانة التي تجاوزت حدود القطرية الى اتساع الوطن العربي الكبير، وخاصة في فيلم "الرسالة". وعندما نسألها: من أنت بين هذه التعريفات؟ تجيب ببساطة: انا منى واصف. وفي حوارات منى واصف اسئلة كثرة منها: يطلقون في المجلات الفنية على امثالك من الفنانين الرواد ما يسمى "حوار القمة"… هل توافين على حوار بهذه الصفة؟ - لا اميل الى التعريفات الاستعراضية والالقاب التفخيمية، ذلك لان محبة الجمهور للفنان هي ارفع وسام يمكن ان يتشح به، اما موضوع القمة، فأنا لا ارى فناناً عربياً على القمة لأن الوصول الافتراضي الى القمة يعني ان هذا الفنان قد "ختم"… والفنان الاصيل الحقيقي هو الذي يظل يتعلم، ويبدع، ويعطي حتى الرمق الاخير. وماذا نقول اذن عن الذين قدموا ابداعات كبيرة؟ - هؤلاء نجوم مضيئة… تشع… وتنير…، وتهدي، وقد سبق ان قلت ان نجومية الفنان لا تتحقق الا بالعصامية والجهد الشخصي. ماذا تقولن بعد هذه المسيرة الطويلة مع الفن؟ - اتمنى ان اكون قد ارضيت جمهوري واسعدته… واذا كانت امارس الاختيار القاسي والدقيق بين النصوص التي تقدم لي انطلاقاً من احترامي لنفسي ولجمهوري، الا انني لا ازال اتعامل مع النص الذي اختاره بالحماسة نفسها التي كانت امارسها في البدايات… فالفن ليس ترفاً… بل هو مسؤولية حقيقية. كيف تنظرين الى تجربتك الطويلة مع المسرح القومي؟ - المسرح القومي كان مدرستي الاولى… وكانت مرحلة الستينات التي بدأت فيها العمل مع المسرح القومي نقلة نوعية في تاريخ المسرح السوري، ومرحلة متطورة يمكن ان نسميها الولادة الثانية للمسرح العربي في سورية اذا تجاوز فيها مفهوم الفن التجاري، الى واقع الفرق المسرحية التي تتبع المؤسسات الثقافية والتربوية والجامعية والمنظمات الشعبية، وكانت تجربتي في المسرح القومي اغنى التجارب في مسيرتي الفنية. واحب ان استدرك هنا لأقول ان المسرح القومي في سورية كان ضابط ايقاع الحركة الفنية، وكنت بطلته على مدى عشرين عاماً، قدمت خلالها ثماني وعشرين مسرحية باللغة الفصحى… وليس من قبيل القول المستدرك التأكيد ان المسرح ابو الفنون، فهو لدي اكثر اهمية من السينما ومن التلفزيون لانه يحقق التواصل المباشر بين المنصة والصالة… بين الفنان والجمهور المتلقي. ألا ترين ان الفضائيات اليوم تلعب دوراً كبيراً - سلباً ام ايجاباً - في تلميع الفنان، وفي تسويقه، وفي تحقيق شهرة واسعة له… او في تناسيه حيث يقبع في الظل محبطاً… وبصيغة اخرى، الا ترين ان جهد الفنان وحده لم يعد يكفي لاطلاقه او لشهرته او لفتح آفاق الفرص والتألق امامه. هذا صحيح الى حد كبير… وهو يعىدنا الى موضوع النجومية والقمة. وفي هذا المجال اقول ان الفنان العربي لا يزال تحت واقع الاجحاف مهما هيأت له من اسباب الظهور والشهرة… فصناعة النجم هنا تختلف عن صناعة النجم في الغرب مثلاً والتي وراءها شركات ضخمة وثروات طائلة، ونقاد مأجورون… اما عندنا فالنجومية لا تتحقق في اغلب الحالات الا باجتهاد شخصي، وعطاء مستمر، وتضحيات، اي ان الامر يتطلب نوعاً من الكفاح الدؤوب. في جميع الحوارات التي عقدت معك في الصحافة وفي مختلف اجهزة الاعلام كانت اجوبتك توحي دائماً بأنك لا تقبلين اية تنازلات في الفن، ولو كان ذلك على حساب ادوار مهمة تخسرينها… هل الامر موقف، ام نوع من العناد؟ - لا شك انه موقف… ويمكن ان الخص لك بعض المواقف التي لا اقبل فيها التنازلات، وهي كثيرة، ولكنني سأذكر بعضها: - انا لا اقبل ان اكون ضيفة شرف في اي عمل فني… لأنني اشعر في هذا نوع من الاستغلال لإسمي وشهرتي… - لا أدخل المال كشرط اول في حساباتي، والا هبط الفن الى نوع من المتاجرة والمساومة. - لا اقبل ان اكتب "مذكراتي"، لان كتابة المذكرات للمتقاعدين، والفنان لا يتقاعد. - أرفض ان اكون فنانة "شباك تذاكر" تساعد على ترويج العمل الفني. - عندما استرجع اعمالي لا اهتم بالكمّ اذا لم يكن متوازياً مع النوع. - لست مغرورة، ولكني اعرف الحدود التي يجب ان اقف عندها. - لا اقبل ان تكون انوثة المرأة اغراء، بل حضوراً، وثقافتها اغواء بل شعلة. - لا اقبل الضيم، ولكني لا اؤمن بالحقد او الانتقام. - اعتبر نفسي من الفنانين العرب الذين حققوا عطاءات لا تقل اهمية عن التي قدمها فنانو الغرب ونالوا عنها الاوسكارات. - احب الادوار الصعبة والمركّبة والاستثنائية ولو كانت لشخصيات سلبية. - لا اتدخل في عمل المخرج، ولكني اناقشه في مفهوم الدور. - التنازل الوحيد الذي اقدمه هو تنفيذ طلبات ابني عمار. انت من الفنانين الذين سرقتهم الشاسة الصغيرة او الكبيرة من المسرح… بماذا تفسرين هذه الظاهرة؟ - مع اتساع نطاق الفضائيات، كان لا بد من مثل هذه الهجرة من المنصة الى الشاشة… انها لغة العصر… هناك مغريات كثيرة للشاشة التي تحقق للفنان الانتشار والمردود المادي الاكبر، على الرغم من ان الفنون متكاملة الا ان البث التلفزيوني الذي يأتي من مكان القنوات دخل حياة الانسان بصورة كاسحة بعد ان تجاوز الخطوط والحدود، حتى بالنسبة لنا، نحن الفنانين الذين عرفنا الشهرة على المسرح، نقلنا التلفزيون الى الوطن العربي من خلال هذا الانتشار الواسع… ومع هذا تظل للمسرح ريادته التاريخية وتأثيره المباشر على المتلقي، وقيمته الفنية الكبرى لا تزال قائمة منذ خمسة وعشرين قرناً حتى الآن… السينما والمعادلة الصعبة فشلت في السينما، اكثر من عشرة افلام روائية طويلة… ماذا عن رحلتك مع السينما؟ - اعترفت غير مرة بأن الافلام التي قدمتها في البدايات كانت تجارية، وكان بعضها رديئاً، ولكنني أعتز بأدواري في الأفلام الأخرى التي قمت ببطولتها ومنها: الرسالة، وجه آخر للحب، اليازرلي، الاتجاه المعاكس، بقايا صور، قتل عن طريق التسلسل، الشمس في يوم غائم، آه يا بحر، التقرير، الطحالب... وهناك أربعة من هذه الأفلام من تأليف الروائي حنا مينة الذي أحب أدبه لأنه يكتب بشفافية وانسانية عن المرأة، وسأعترف بأنه كان للسينما أيضاً دور كبير في تكوين وتكامل شخصيتي الفنية، خصوصاً وأن السينما العربية مطالبة بتحقيق المعادلة الصعبة بين المستوى الفني والجماهيرية. قمت بترشيح نفسك لعضوية مجلس الشعب "البرلمان" ولم تفوزي... بماذا تفسرين هذا؟ - لا اعتبره فشلاً، بل تجربة مهمة... كنت بحاجة الى سبعة آلاف صوت فقط لأنجح، علماً بأنني لم أقم بأية دعاية مسبقة كما يفعل المرشحون عادة... وأنا اعتقد أن العمل السياسي ضروري للفنان، وأن السياسة لا يمكن أن تنفصل عن حياتنا العصرية لأنها جزء منها، والفنان يجب ألا يكون معزولاً عن أحداث الوطن والأمة والعالم... أما عدم النجاح فلم يشكل لي أية عقدة، وقد أعيد الكرة في الانتخابات المقبلة لأنني استطيع من خلال وجودي في المجلس أن أتبنى قضايا كثيرة وأدافع عنها، وخصوصاً قضايا المرأة. أنت متزوجة من المخرج محمد شاهين... ماذا عن النجاح والفشل في زواج الفنانة من فنان؟ - موضوع النجاح أو الفشل في الحياة الزوجية مرتبط بحالات مختلفة ومتباينة وكثيرة، في حياة جميع الناس وليس في حياة الفنانين فقط. ولكن كون الفنانين في دائرة الضوء، فهذا يجعل من زواجهم حدثاً ومن طلاقهم "جرسة" كما نقول في الشام... ان لقاء الزوجين على أرضية من المحبة والتفاهم والاحترام المتبادل يكفل الاستمرار والنجاح لزواجهما، وقد يكون زواج الفنانة من فنان سبباً اضافياً لنجاح هذه التجربة، اذا تفهم كل منهما ظروف عمل الآخر وتعاون معه ليساعده على تحقيق المزيد من العطاء والنجاح. في بعض الأمسيات، نستمع اليك تقرأين مختارات ومقطوعات شعرية من تأليفك... وكل من استمع اليها قال انك أديبة... ماذا عن هوايتك الأدبية؟ - كان الأدب حلماً منذ اليفاع... كنت متفوقة على رفيقاتي في المدرسة في مادة التعبير "الانشاء"، ولكني اعتقد الآن، وبعد هذه السنوات الطويلة من عملي كممثلة، صار لدي كم من القراءات المختلفة، ومن شتى صنوف الآداب العالمية، وقد شعرت أنني لا استطيع ان اكتب كهؤلاء الكتّاب الكبار ولكني استطيع ان امثّل ما كتبوا… وحتى الآن، وبعد هذه الرحلة الطويلة مع الفن لا ازال اعشق حلمي القديم في ان اكون اديبة، ولكن يبدو ان الحلم سيبقى حلماً… فهناك الكثير من الاحلام تراود الانسان سنين طويلة ولكنها لا تتحقق. في اكثر ادوارك التي لعبتها كنت تختارين الادوار النسائية المتميزة… ما اكثر هذه الادوار تأثيراً في نفسك؟ - اقول دائماً انني لا احب الادوار العادية… الادوار الروتينية، او الباردة، او المتشابهة… احب الشخصيات الاستثنائية والمركّبة والصعبة… لا احب الادوار التي لا تشحذ الخيال… احب النموذج الطفرة بين النساء، سلباً كان ام ايجاباً، كنت اريد ان اكون "ملكة" في ادواري، كما في دور الملكة "مهيمنة" في مسرحية "حكاية حب" لناظم حكمت، ودور الملكة جليلة بنت مرة في مسرحية "الزير سالم" ودور هند في فيلم "الرسالة" ودور "جوكاست" في مسرحية "اوديب ملكاً"… ودور الملكة "زمرد خاتون" في مسلسل "الذئاب" ودور جيفيكا في مسرحية "حرم سعادة الوزير"… ولكن الدور الذي أثر في اعماقي كان دور "الخنساء" فقد ذهبت الخنساء مع الدور ولكنها خلفت لي كل ما قالت من المراثي عن اخيها صخر. * مقابلة مأخوذة من كتاب فاطمة حمود "حريم خارج الاسوار".