من المؤكد ان الاقتصادي الكبير طلعت حرب لم يكن حدثاً عابراً وعادياً في الحياة المصرية. فالرجل، الذي من المؤسف ان أحداً لم يدرس تجربته بشكل متكامل حتى اليوم، كان من قلة نادرة من رجالات الاقتصاد العرب الذين آمنوا بأن العمل الاقتصادي الحقيقي لا يمكن ان يكون مكتملاً ان لم يتضافر مع نهضة اجتماعية وثقافية تلازمه وترفده بكل ثرائها. ونحن اذا شئنا ان نورد مثلاً بسيطاً على هذا حسبنا ان نذكر تأسيس طلعت حرب ل "ستوديو مصر"، ذلك الصرح الفني والثقافي الكبير الذي كان افتتحه في مثل هذا اليوم من العام 1935 ايذاناً ببلوغ السينما المصرية سن النضج، هي التي كانت قبل ذلك مجرد خطوات أولية وجهداً فردياً مغامراً. مع طلعت حرب تبدلت الأمور. أدرك الرجل اهمية السينما وعظمتها وأنها لم يعد بأمكانها ان تنتج عن عمل حرفي يتسم بطابع "الفهلوة" الشهير، بل لا بد لها ان تنطبع بعمل ونهج علمي. وهو انطلق من ذلك الادراك ليعطي للسينما المصرية أول اندفاعة حقيقية في تاريخها، اندفاعة كانت هي التي جعلت لمصر سينما وحياة سينمائية تضاهي في بعض الاحيان ما ينتج في اعظم عواصم السينما العالمية، من الناحية الكمية على الأقل. وطلعت حرب، الذي كان منذ بداية سنوات الثلاثين قد ادرك ان السينما يمكنها ان تكون مشروعاً اقتصادياً وثقافياً وحضارياً في الوقت نفسه، سافر الى اوروبا ليطلع عن كثب على حالة الاستوديوهات الالمانية والفرنسية، وهو عاد من هناك مقتنعاً بالفكرة. ومنذ بداية العام 1934 بدأ انشاء استوديو مصر في منطقة الجيزة، وفي الوقت نفسه، ولإيمانه بالعنصر البشري وبالدراسة العلمية، أوفد طلعت حرب بعثتين لدراسة السينما: أرسل احمد بدرخان وموريس كساب لدراسة الاخراج في باريس، ومحمد عبدالعظيم وحسن مراد لدراسة التصوير في المانيا. واضافة لهؤلاء اتصل طلعت حرب خلال وجوده في فرنساوالمانيا بعدد من المصريين الذين كانوا يدرسون السينما هناك، مثل ولي الدين سامح ومصطفى والي ونيازي مصطفى. وهكذا ما ان حلت نهاية العام 1934 حتى كانت الاسس العلمية والبشرية قد ترسخت. وفي العاشر من تشرين الأول اكتوبر من العام التالي 1935 جرى افتتاح استوديو مصر رسمياً في حفل صاخب دعا اليه طلعت حرب ما يزيد عن 500 شخص من وجوه الفن والمجتمع والسياسة والاقتصاد. وكان ذلك الحفل ايذاناً بولادة السينما المصرية حقاً. ولم يكن من قبيل الصدفة، بالطبع، ان يكون فيلم من بطولة وغناء سيدة الغناء أم كلثوم هو أول ما ينتجه استوديو مصر، وكان الفيلم "وداد" الذي حقق نجاحاً ساحقاً اقنع طلعت حرب بصواب نظرته الى السينما. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف استوديو مصر عن الانتاج، وعن لعب دور اساسي في مسيرة وتاريخ السينما المصرية.