ضمن الحملة للفوز بترشيح الحزب الجمهوري لمعركة الرئاسة الاميركية وعد جورج بوش الابن، بداية الشهر الماضي، ليس فقط بعدم رفع الضرائب وانما بخفضها. بذلك اتخذ احد اهم المرشحين الجمهوريين موقفاً معتدلاً مقارنةً بمعسكر اكثر جذرية يطالب بتعديل النظام الضريبي ككل. وكانت جريدة "انترناشيونال هيرالد تريبيون" اشارت، اواخر العام الماضي، الى ان فكرة ضريبة ثابتة تشق طريقها وتكسب المزيد من المؤيدين. فلقد انضم اثنان من المتنافسين الجمهوريين الخمسة لتمثيل الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة، الى صاحب الفكرة الأساسي الملياردير المعروف ستيف فوربس الذي سبق وطالب في برنامجه الرئاسي عام 1996 بتسعيرة ثابتة لضريبة الدخل تبلغ 17 في المئة والغاء النظام الحالي للضريبة التصاعدية المتراوحة بين 15 في المئة و39.6 في المئة. يمثل الكلام السابق تياراً ليبرالياً مضاداً للدولة الكبيرة وتكاليفها الباهظة ويقول بتراجع دور الأمة - الدولة في عصر ثورة الاتصالات والتكنولوجيا الحديثة والعولمة، وبالتالي بضرورة تقليص حجمها وبرامجها ونفقاتها. وكان الرئيس كلينتون عبر عن ذلك بقوله: مات عصر الدولة الكبيرة. فضرائب اقل تعني دولة اقل. بالنسبة لكثيرين، هذا الاتجاه التاريخي سيؤدي بالنهاية الى تحرير الفرد على حساب الدولة. وجسد كتاب "الفرد ذو السيادة"، المنشور عام 1997، هذه الافكار. اذ استنبط مؤلفاه، جيمس ديل دافيدسون وويليام ريس موغ، امكانية بلوغ الفرد مستوى من التحرر بحيث نسبا اليه صفة السيادة، المقتصرة حتى الثمانينات من القرن العشرين على الدول. حرية الفرد، بحسب هذا المنطق، تجاوزت الحرية السياسية والحقوق الديموقراطية كما تضمنها الدولة واصبحت تحرراً من الدولة والمواطنية. الكومبيوتر وثورة الاتصالات زودا الفرد أجنحة تمكنه من التحليق بنشاطاته وأمواله عبر الحدود والدول وتتيح له العولمة اختيار مكان اقامته بين كثير من الكيانات المتنافسة على جذب رؤوس الأموال. لقد تراجع الرأي القائل ان الكومبيوتر سيجعل الدولة اقوى من ذي قبل ويسلحها بوسائل سيطرة هائلة على الفرد والمجتمع على شاكلة كابوس رواية "1984" لجورج أورويل. من الواضح استفادة الفرد من الكومبيوتر الشخصي اذ اصبح يتمتع بمزايا الاتصالات والقدرة على معالجة المعلومات بكلفة معقولة جداً بعد ان كانت في الماضي القريب محصورة في أيدي الدول والشركات الكبيرة. في عصر يعتمد انتاج الثروة فيه، بشكل اساسي، على المعلومات، سيبرز الناجحون واللامعون كأفراد ذوي سيادة، ينتجون ويتفاعلون ويتنافسون، اشبه بآلهة الاولمب في الأساطير اليونانية حيث لا دولة رفاه ولا ضرائب ضخمة ولا ساسة في مقدرتهم السيطرة والتدخل في حرية الاقتصاد، ف"تحرير القسم الاكبر من الاقتصاد العالمي من السيطرة السياسية سيجبر ما تبقى من أشكال الحكومات على العمل على اساس معايير السوق". لن يعود الفرد مجبراً على العيش حيث الضرائب عالية، ففي زمن يمكن فيه جني الثروة في اي مكان، يستطيع الفرد اختيار جنته الضريبية في اي بقعة من العالم مناسبة لعمله. اي سيصبح، مثل رأس المال والسوق، فوق الحدود والجغرافيا والدول وساستها وضرائبها وسلطاتها. وسيتمتع الفرد ذو السيادة بقوة مؤثرة تعيد تصميم الحكومات وطرق عملها في الألفية الثالثة. ستسعى الحكومات، كما يقول المؤلفان، لاستخدام سلطاتها، بما فيها العنف، لإيقاف هذا التطور ولإعادة سيطرتها على مواطنيها السابقين ولكن من دون فائدة، ففي فضاء الشبكات الالكترونية يوجد رأس مال ونشاط اقتصادي غير مادي ولا يخضع للعنف والقوة. هناك حالياً نخبة من الافراد في المدن الكبرى، من لندن ونيويورك الى باريس ولوس انجليس، ومن طوكيو الى هونغ كونغ وتورونتو، تتحرك وتنشط بشكل متزايد خارج الحدود السياسية وتزداد عدداً يوماً بعد يوم. وغالباً ستنتهي الحكومات الى التفاوض مع النخبة هذه طالما لا يمكن السيطرة على ثرواتها و"على الحكومة التكيف مع ازدياد استقلالية الفرد". امام حرية حركة رؤوس الاموال والعمالة والعجز عن جمع ضرائب كافية لتمويل حكومة ضخمة، سيتحول المواطن الى زبون بعد العام 2000، والحكومات ستصغر احجامها وبرامجها وتتنافس فيما بينها، تماماً كما يحصل في السوق، بخفض ضرائبها ومصاريفها. وبينما تزداد مصاريف دولة الرفاه سيتراجع دخلها من الضرائب فعبر شبكة الانترنت لا يمكن ملاحقة العمليات المالية كما يمكن نقل الأموال بشكل مُشفر. بالطبع يمكن للدولة حل اي شيفرة، لكن هذا يتطلب زمناً وتكاليف باهظة ومراقبة لمئات الملايين من الرسائل الالكترونية. كما ان اي دولة لا تستطيع اجبار اي بنك في دولة اخرى لا يخضع لسلطتها على تقديم كشف بالعمليات المالية لمواطنيها. لن تخلق الثورة المعلوماتية للدولة ازمة مالية فقط وانما ستدفع في اتجاه حل الهياكل الضخمة. وفي العام 2025، كما يتوقع المؤلفان، سيكون واضحاً عدم امكان بناء او بقاء دولة كبرى، وربما لن توجد اوروبا موحدة، سياسياً واقتصادياً، او روسيا أو الصين أو الولاياتالمتحدة كما نعرفها. ومن ينجو منها سيكون رابطة طوعية لأجزاء اصغر. يحدد جون نيسبت في كتابه "تناقص عالمي" صدر عام 1994 مبدأً عاماً يحكم الدول والشركات والمؤسسات الكبرى في عصر ثورة الاتصالات والعولمة بقوله: كلما كَبُر حجم الاقتصاد العالمي كلما ازدادت قوة لاعبيه الأصغر. فمع نمو هذا الاقتصاد تتقلص حجوم اجزائه لتكون اكثر فاعلية، فالشركات العملاقة تتحول الى كونفيديرالية من شركات صغيرة يناسب حجمها وكفاءتها سرعة متغيرات ومرونة السوق وتكون قادرة على المنافسة. على سبيل المثال اكبر شركة هندسية للطاقة ايه بي بي دخلها السنوي 30 بليون دولار وتتألف من 1200 شركة لا يتجاوز عدد العاملين في احداها 200 شخص. ونسبة 50 في المئة من الصادرات الاميركية تنتجها شركات لا يتجاوز عدد موظفي كل منها 19 شخصاً، وهناك 7 في المئة فقط من تلك الصادرات نتاج شركات يبلغ عدد العاملين في كل منها 500 شخص او اكثر. عن التحالفات والاندماجات بين الشركات الكبيرة يقول نيسبت انها تهدف الى عدم النمو والتضخم لضمان حصة اكبر من السوق العالمية ومن الارباح وليس بقصد الاحتكار، فهذا غير ممكن في عصر المنافسة العالمية والشركات الصغيرة او المتوسطة الحجم. عصر التغير المتسارع، على نبض ثورة التكنولوجيا والاتصالات، هو عصر نهاية الأشياء الكبيرة، من الدولة الى الاحزاب، ف"العالم اليوم يدور حول الفرد وليس حول الدولة"، والسلطة تنتقل من الدولة الى الفرد وتتوزع من شكلها العمودي الهرمي الى المستوى الأفقي، ومن الديموقراطية التمثيلية الى الديموقراطية المباشرة. السيادة تتمزق وتتجزأ، وتنشأ هويات جديدة تشارك الدول بسيادتها، فكلما اندمج العالم كلما نمت وعبرت عن نفسها الهويات الاثنية والثقافية والمحلية واللغوية وحتى المهنية، بشكل اطلقت عليه مجلة "الايكونوميست" فيروس عودة القبلية. ستنمو الحركات الانفصالية، فمزيد من الديموقراطية والانفتاح سيعني مزيداً من البلاد والكيانات الأصغر حجماً، ويعني نهاية الأمة - الدولة ومعها المواطنية بحقوقها وتبعاتها. يدعو نيسبت قارئه الى تصور عالم يحوي 1000 بلد في المستقبل. واللجوء للعنف لن يجدي فتيلاً فلم يعد ممكناً، امام كاميرات التليفزيون ورد فعل العالم والحلفاء الاقتصاديين، قمع مواطنين يطالبون بالحرية وحقوقهم الثقافية او بحكم ذاتي او بالاستقلال. تشبه الأمة - الدولة اليوم الكنيسة في العصور الوسطى، فمع ثورة اختراع البارود والتطورات العلمية والتكنولوجية تراجع دور المؤسسة الكنسية في عصر الاقطاع، ما استدعى تقليصها وتخفيض تكاليفها، وتغير احتكار العنف من مستوى صغير ومتعدد الى مستوى واسع وممركز بيد الدولة القومية. ويستند دافيدسون وموغ الى نظرية تفسر التغييرات التاريخية في المجتمع البشري على شكل احتكار العنف ومردود استعماله. في عصر المعلومات اصبحت ميزة احتكار العنف بيد الدولة وعلى مستوى واسع، اقل بما لا يقارن بعهدها منذ الثورة الفرنسية. ومن نتائج هذا التطور ارتفاع معدل الجريمة، فعندما ينخفض المردود في مستوى كبير يصبح مردود العنف عالياً في المستوى الصغير. ستنخفض الضرائب بحدود 50 الى 70 في المئة من قيمتها الحالية مما يجعل الهياكل الاصغر اكثر نجاحاً ونجاعة. ولا يمكن للحكومة حل ازماتها المالية بفرض المزيد من الضرائب كما حصل، دوماً، خلال القرن العشرين. ففي نهاية القرن المذكور بدأت الحكومات بمعالجة نقص الاموال عبر تخفيض مصاريفها، لا زيادة الضرائب. ودون كيشوت عصر المعلومات سيكون جامع الضرائب. ستتقلص الدولة الى حدودها الدنيا كالدفاع والحفاظ على الأمن والقانون، وسينتهي مبدأ السيادة بالتخصيص، وسيتحرر الفرد قالِباً معادلة الثورة الصناعية وما خلقته من مؤسسات كبيرة ملائمة لنمط الانتاج الجماهيري الواسع ومنها الأمة - الدولة. لقد نمت الدولة بشكل مستمر ومعها برامجها ومصاريفها وبالتالي ضرائبها التي وصلت الى نسبة تتراوح بين 30 في المئة و65 في المئة من الدخل القومي في العالم المتقدم. قد يكون البديل نموذج المدينة - الدولة على نمط البندقية في الماضي وهونغ كونغ وسنغافورة في هذا العصر. سبق لفريدي هينيكين تحديد 75 جزءاً من اوروبا يمكن ان تصبح كيانات مستقلة، فالاتجاه التاريخي استقلال سياسي وحكم ذاتي من جهة وتأليف تحالفات اقتصادية من جهة اخرى. وعلى سبيل المثال يمكن لباريس وضواحيها او لندن التحول لكيان مستقل. لم يتوقف النقاش بشأن العولمة، آثارها ومضارها وفوائدها، سواء في الدول الغنية او الفقيرة. ويتفق معظم الساسة والمفكرين على كونها أمراً واقعاً أو تحولاً تاريخياً، على شاكلة الثورة الزراعية والصناعية، لا يفيد الانعزال عنه ولا مقاومته، لأنه لا يمكن ايقاف ثورة التكنولوجيا والاتصالات، اما كيفية التعامل مع آثارها ومضارها فذلك تحدٍّ مطروح على البشرية باختلاف مجتمعاتها وهياكلها السياسية، ولا يمكن استنتاج حلول بسيطة وتفسيرات احادية الجانب لظاهرة معقدة، يتساوى في ذلك من يعتبرها مؤامرة امبريالية للشركات المتعددة الجنسية ومن يدعو الى الانعزال الوطني او من يسعى الى تحييدها لمصلحة نخبة ضئيلة من سكان العالم. وفي نظر اوساط ليبرالية مؤيدة للعولمة وحرية السوق ومشددة على فوائدها بالدرجة الاولى، فإن المواقف الليبرالية المتطرفة مُبالغة في استنتاجاتها. فتقدم السوق ورأس المال على الدولة لا يعني نهايتها، وعلى رغم الاتجاه الى خفض تكاليفها وبرامجها فهي لا تزال تنمو، في العالم الغربي، وان بنسبة ضئيلة. فالمطلوب ليس الغاء الدولة وانما مراجعة اسباب مردودها الضئيل على رغم ارتفاع حصتها من الدخل الوطني العام ما يؤدي الى تراكم ديونها مع استمرار نموها. العولمة ستروض تنين الدولة ولن تقضي عليها: مزيد من حرية الفرد والانتقال الى الديموقراطية المباشرة سيُخضع الدولة والساسة والبيروقراطية الحكومية لمزيد من الرقابة، ولا بد من البحث عن توازن بين الفرد وحريته وبين الجماعة في موازاة توازن آخر بين المحلية والعالمية. يتحقق التوازن على ارض الواقع وعلى اساس التطور التكنولوجي والاقتصادي. تاريخياً لم يكن للفرد من وجود وأمن وحرية الا ضمن الجماعة وتقاليدها وقيودها، وبدأ يطل برأسه كذات مستقلة تدريجاً منذ بداية القرن السابع عشر في اوروبا حين تهيأت ظروف الواقع لذلك نتيجة تفكك المجتمع المغلق وثقافته الاقتصادية بفعل الثورة العلمية والصناعية وعصر الانوار، وتكرَّس كوحدة وجوهر بانتصار ليبرالية الطبقة الوسطى في نهاية القرن التاسع عشر مع تكريس حرية التفكير ومبدأ التعليم والاقتراع العام. اصبح الفرد مواطناً بين مواطنين احرار ومتساوين امام القانون وحارسته الدولة باحتكارها للعنف بحسب المقولة الشهيرة. الطروحات الليبرالية المتطرفة اليوم تتناقض مع مبدأ الديموقراطية، كونها تجعل قوة الدولار اكبر من قوة الصوت الانتخابي، وتضع الافراد ذوي السيادة في مقابل وعلى حساب تراجع مستوى حياة فئات واسعة من البشرية… وبشكل او بآخر تريد من العولمة ان تكون وريثاً لنظام الاستبداد. تعيش البشرية مرحلة انتقالية تختلط فيها معالم الصورة، ويسود التشوش وآلام التحول والتكيف مع المتغيرات السريعة. الحل ليس بالتخوف من مضار العولمة وبالانغلاق على الذات، انما بالانفتاح والديموقراطية والتفاعل مع حركة تاريخية بهدف جني الفوائد ومعالجة الاضرار بعقلانية وواقعية وليس بالافكار المجردة. والذي يقول بالمؤامرة ويبقى متفرجاً لن ينجو من الاخطار بل يساعد من يريد التآمر والسيطرة ولا يقاومه. اصبح الانسان اكثر ذكاء واصبحت آلاته اكثر كفاءة وذكاء، لكن "هل ستؤدي زيادة الذكاء الى تحسين الحياة؟ يعتمد ذلك على سياسة اجتماعية وسياسية ذكية تقود التطور" كما يقول الفن توفلر. * كاتب فلسطيني.