Ignacio Ramonet. Geopolitique du Chaos. جيوبوليطيقا الفوضى. Gallimard, Paris. 1999. 270 Pages. حينما يكون العالم شاسعاً شساعة عالمنا، ومتنوعاً تنوع عالمنا، ومتناقضاً تناقض عالمنا، فمن الممكن بمنتهى اليسر ان نرى اليه بعين وردية أو بعين سوداء. اغناسيو رامونيه، الذي يبرز احد ألمع الكتاب المتخصصين في جيوبوليطيقا الاعلام والاتصال الجماهيري اختار سلفاً ان ينظر بعين سوداء بالأحرى. فصورة الهوية التي يرسمها للعالم اليوم سالبة الى حد بعيد تحددها ملامح عشرة: 1ً- الهيمنة الاميركية الجديدة. فالقرن العشرون كان قرناً اميركياً، ويبدو ان القرن الحادي والعشرين سيكون اكثر تأمركاً بعد. فالامبراطورية الاميركية هي الامبراطورية الوحيدة في العالم اليوم، وهيمنتها لا ينازعها عليها أحد منذ سقوط الامبراطورية السوفياتية. 2- توزع جيوبوليطيقي جديد للعالم، فالعالم المعاصر هو، من وجهة النظر الجيوبوليطيقية، عالم سديمي، وتماماً كالسديم، فإنه محكوم بجدلية الانشطار والانصهار النووية. فهناك من جهة أولى دينامية الانشطار التي تجزئ العالم اكثر من أي وقت الى عالم قوميات وأديان وطوائف وأصوليات واثنيات وقبائل متناحرة وطالبة للانفصال والسيادة الذاتية على حساب تفجير الأطر القومية والاتحادية للدول. وهذا ما حدث في أوروبا الشرقية في حين انهارت في العقد الأخير الدول الاتحادية الثلاث: الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغوسلافي والاتحاد التشيكوسلوفاكي. وهذا ما يحدث اليوم في البلقان وفي القوقاس بدءاً بالحرب الصربية، ومروراً بالحرب الاذربيجانية، وانتهاء بالحرب الشيشانية. وهذا ما قد يحدث في الغد في اسبانيا تحت الضغط الانفجاري للمسألة الباسكية، وفي بلجيكا المسألة الفلمنكية وفي فرنسا المسألة الكورسيكية، وفي بريطانيا المسألة الاسكتلندية، وفي كندا المسألة الكيبكية. ولكن في آن متواقت مع دينامية الانشطار هذه تنشط دينامية انصهارية مضادة. فعالم اليوم هو عالم التشكيلات الاقتصادية والاقليمية الكبيرة، بدءاً بالاتحاد الأوروبي المرشح للتحول من محض اتحاد اقتصادي وتجاري الى اتحاد سياسي، ومروراً باتفاقية التبادل الحر الاميركي الشمالي ما بين الولاياتالمتحدةوكندا والمكسيك 500 مليون مستهلك، وانتهاء بالتكتل الاقليمي الآسيوي الشرقي بزعامة اليابان اليوم والصين في الغد 2000 مليار مستهلك، أي ثلث البشرية. 3ً- عولمة الاقتصاد. فعالم اليوم هو عالم التبعية المتبادلة بين الاقتصادات والرساميل العالمية، ولكن هذه العولمة عولمة اغنياء العالم دون فقرائه. فعشرون في المئة من سكان الأرض يتحكمون بثمانين في المئة من ثرواته. وثروات 358 شخصاً من أغنى أغنيائه تعادل وحدها الدخل السنوي لخمسة وأربعين في المئة لأفقر فقرائه، أي 2.6 مليار نسمة. وبعبارة أخرى، ان كل فرد من مجموعة ال358 الفاحشة الغنى تلك يملك وحده ما يعادل مدخول ثمانية ملايين فرد من سكان الأرض الفقراء على مدى عام كامل. 4ً- سادة جدد للعالم. فعالم اليوم، مثله مثل العالم في القرن السادس عشر في عهد الاستكشافات البحرية، عرضة الآن لفتوحات من نمط جديد. فتوحات ما هي بعسكرية ولا هي باقتصادية، بل من طبيعة الكترونية بالأحرى. فالعالم تغزوه اليوم الصحون اللاقطة، وفضاؤه يستكشفه و"يستعمره" ألف قمر اصطناعي، وامبراطورية "انترنت" تعد اليوم 300 مليون مشترك. وبيل غيتس، سيد هذه الامبراطورية، هو اليوم أغنى رجل في العالم. 5ً- أخطار كونية من نمط جديد. فمع عولمة الاقتصاد تتعولم الجريمة والأمراض والأوبئة الايديولوجية. فالعالم تنظمه اليوم أممية جديدة من شبكات المافيا والجريمة المنظمة وتجارة البغاء والمخدرات والأسلحة المحظورة. وتجتاحه في الوقت نفسه أمراض جديدة لم تعرفها البشرية السالفة: أمراض ذات صلة بالحياة الجنسية الإيدز وبالنظام الغذائي البقرة المجنونة وبالمجتمع الصناعي والالكتروني المتقدم سرطان الدم. بالإضافة طبعاً الى الكوارث البيئية تشرنوبيل، فاجعة بحر آرال، تدمير الغابة الأمازونية والآسيوية، تآكل طبقة الأوزون، تسخين الجو، الأمطار الحامضة. 6ً- محاصرة الأرض بالمدن العملاقة. فالانفجار الديموغرافي، المستعصي على كل ضبط عقلاني، يؤدي في كل مكان من العالم، لا سيما في العالم الثالث، الى تمركزات مدينية أخطبوطية مدمرة لكل أشكال التوازن الايكولوجي والاقتصادي والانساني. وفي العالم اليوم اكثر من 20 مدينة عملاقة يتراوح تعداد سكانها ما بين 20 و25 مليون نسمة مكسيكو وساوباولو وطوكيو وما بين 13 و16 مليون نسمة كالكوتا وبومباي ونيويورك وطهران ودلهي وما بين 10 و12 مليون نسمة كراتشي والقاهرة وبانكوك. وهناك اليوم 640 مدينة في العالم يزيد تعداد سكانها على المليون نسمة ويتركز فيها 43 في المئة من سكان الأرض قاطبة. 7ً- نهب الكرة الأرضية. فباسم التقدم والتنمية شرع الانسان، منذ عصر الثورة الصناعية، بالتدمير المنظم للأوساط الطبيعية، ولموارد الأرض القابلة للنضوب. والنزعة الانتاجية انفلت عقالها في بلدان الشمال من كل رقابة، وهي المسؤولة الأولى عن ظاهرة نهب الكرة الأرضية هذه، ولكن الانفجار السكاني في بلدان الجنوب في نصف القرن الماضي بات يتحمل هو الآخر قسطه من المسؤولية. واليوم ثمة أنواع حيوانية ونباتية مهددة بتمامها بالانقراض، وقد امتد هذا الخطر الى الاجواء العالمية كما الى البحار العميقة. ويبدو ان أكبر خطر ستواجهه الكرة الأرضية في القرن الحادي والعشرين الطالع هذا هو خطر نضوب المياه الصالحة للشرب والضرورية للزراعة، لا سيما في بلدان العالم الثالث التي تعاني في الوقت نفسه من خطر التصحر وتنادر الأمطار. 8ً- احتكار التقدم التقني. فلم يحدث قط في تاريخ البشرية ان انتصر العلم كما ينتصر اليوم. ولم يحدث قط ان تحول العلم الى مصدر قوة ومصدر سلطة ومصدر ثروة، كما يتحول اليوم. ومع ذلك فإن بضع دول في العالم تحتكر هذه القدرة التقنية، وهي بعدد أصابع اليد الواحدة: الولاياتالمتحدة الاميركية والاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا واسرائيل. كما ان قبضة من الشركات الكبرى تحتكر البحث العلمي وتستثمر 90 في المئة من براءات الاختراع لصالحها ولصالح الرساميل التي تعمل في خدمتها. وهذا الطابع الاحتكاري لاستخدام العلم والتقنية غالباً ما يحرفهما عن الهدف الذي كان يفترض ان يكون لهما: خدمة رفاه الانسانية. وفضلاً عن الاخلال بمبدأ العدالة، فإن ذلك الاحتكار للتقدم العلمي والتقني غالباً ما يتأدى ايضاً الى استعباد الطبيعة واستنزافها. ثم ان التدخل على مستوى الخلايا والمكونات الوارثية قد يفتح الباب امام تجديد خطير لاستعباد الانسان نفسه. فالانسان بما هو كذلك قد بات مهدداً بأن يتحول الى مادة أولية مربحة. 9ً- احتضار الثقافة، فالثقافة تخلي مكانها في كل مكان من العالم للصناعة الثقافية. وفي الوقت الذي تتآكل فيه ثقافات قومية كثيرة في العالم، فإن ثقافة جماهيرية مؤمركة تبدأ بالجينز والكوكا كولا والماكدونالدز وتنتهي بالسوبرماكات والمسلسلات التلفزيونية الاميركية تفرض نفسها في كل مكان من العالم، وتطرد من التداول عملات الثقافات التقليدية و"الروحية". والثورة التي يمثلها النظام الرقمي تهدد بأن تجعل من القرن الحادي والعشرين قرناً استعمارياً الكترونياً. وفي الوقت الذي تحتكر فيه التقنيات الاعلامية المتطورة مشروعية الحقيقة، فإن كثرة من مجتمعات العالم، المأخوذة في دوامة الثورة الالكترونية والرقمية، تشهد موت المثقف. والحال ان العلم والتقنية، من دون ثقافة ومثقفين، قد يقودان العالم الى بربرية جديدة. 10ً- التقدم أو التراجع بالأحرى نحو حضارة الفوضى. فعقب سقوط المعسكر السوفياتي وغداة انتصار الولاياتالمتحدة في حربها اللامرئية ضد العراق، تراءى لواشنطن انها تستطيع ان تبشر العالم بقيام "نظام عالمي جديد". لكن بدلاً من سراب الاستقرار في "نهاية التاريخ" والسيادة الهادئة لمبدأ العقلانية، تفجر في أنحاء شتى من العالم المكبوت اللاعقلاني، واشتعلت حروب اثنية لا تقع تحت حصر، وأعلنت الأصوليات الدينية والقومية تمردها العنيف على الحداثة. فلكأن زوال الثنائية القطبية، التي تحكمت بمصائر العالم على امتداد نصف قرن بكامله، قد أطلق عفريت اللامعقول من قمقمه، فاندفع يحتل كامل المواقع التي أخلاها القطبان المتواجهان، لا سيما في المناطق الحدودية الفاصلة كما في البلقان والقوقاس وأفغانستان. لقد قلنا ان مؤلف "جيوبوليطيقا الفوضى" اختار من البداية ان ينظر بعين سوداء. ولهذا لم يشأ ان يرى الوجه الآخر، والأقل اعتاماً، من البداية. ولو فعل لكان حكم على الاشياء عكس حكمه عليها. فهل صحيح، مثلاً، ان عالم اليوم هو عالم الاحتكار التكنولوجي، أم هو على العكس عالم كسر الاحتكار التكنولوجي بعد ان اخترقت بلدان جنوب شرقي آسيا حاجز التقدم وشقت التنانين الصغيرة الطريق أمام النمر الآسيوي الأكبر الذي هو الصين المرشحة لأن تغدو في قرننا الجديد هذا أول قوة اقتصادية في العالم؟ وهل صحيح ان الثورة الالكترونية والرقمية هي محض نذير باحتضار الثقافة أم هي نقل لها الى مستوى نوعي جديد يعادل في الأهمية النقلة من المستوى الشفاهي الى المستوى المكتوب، ومن المستوى المكتوب الى المستوى المطبوع في تاريخ الثقافة؟ وإذا كانت أمراض وبائية جديدة مثل الايدز قد أعلنت عن ظهورها، فهل يجوز ان يغيب عن الوعي ان أوبئة أخرى - طالما فتكت بالبشرية - قد تم استئصالها من شأفتها مثل الطاعون والسل والكوليرا وأمراض القلب، وان السرطان نفسه - ومن بعده الإيدز بكل تأكيد - هو في الطريق الى السيطرة عليه؟! وأخيراً، ورغم كل الفواجع - وكل المهازل - هل يستطيع أحد ان يماري في ان فكرة الديموقراطية - وإن ليس واقعها - هي اليوم قيد الانتصار عالمياً؟ وهذه الأسئلة - وكثير غيرها - ألا تكفي لإحداث انقلاب في المنظور، ان لم يكن من التشاؤم الى التفاؤل، فعلى الأقل الى "التشاؤل"؟