علي العميم. العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة. دار الساقي، بيروت/ لندن. 1999. 358 صفحة. "ما اضيق الايديولوجيا وما ارحب العالم"، هذا ما يقوله علي العميم في حواره مع الدكتور تركي الحمد والذي يحمل عنوان دالاً هو "هجاء الايديولوجيا". بهذا يفصح العميم عن نزعته المضمرة التي توجه مسيرة حواراته: فالمطلوب هو تعرية خطابنا العربي المعاصر من أرديته الايديولوجية السميكة التي تحول بينه وبين نفسه، واقصد امتناعه من نقد ذاتي من شأنه ان يصوب ما افسدته الايديولوجيات المستعارة، والاردية الفاصلة بينه وبين الواقع الذي ازداد ابتعاداً نتيجة النظارات السميكة التي يقرأ بها المؤدلجون الواقع ويقرأون بها نتاجات زملائهم من الباحثين. وهذا ما يصرح به الحمد للعميم، فقد اقض مضجعه "الحرس القديم" الذين بقوا اسرى اكاذيب ايديولوجية وضحية اوهام دفعتهم باستمرار الى النيل والتجريح والتهجم الشخصي على زملائهم، والاستعراض الذاتي على حساب الآخرين وباسم النقد. لا يتوقف علي العميم عند هذا المستوى والذي يشغل كثيرين غيره، لذلك فهو يندفع الى تخوم الاشكاليات الفكرية العميقة في حواراته مع المثقفين العرب، وذلك بهدف تعميق الاشكالية حول قضايا النهضة والحداثة ووضع مسائله في افق اجتهادي وتجديدي مثل قضايا الدين والدولة، المرأة المسلمة والحداثة، حدود حرية التفكير في عالمنا الاسلامي، حقوق الانسان في عالمنا العربي... الخ. يحاور العميم ثمانية عشر مفكراً، يعرفهم عن كثب وتجمعه بهم علاقات حميمة باستثناء اثنين منهم هم طلال اسعد وجون اسبوزيتو المستشرق الايطالي الذي يدرس في جامعة جورجتاون، وهؤلاء هم: راشد الغنوشي وعبدالله النفيسي وسعيد بنسعيد العلوي ومحمد رواس قلعه جي وسعد الدين ابراهيم ورفيق حبيب وفهمي جدعان ورضوان السيد ومحمد جابر الانصاري وسعد البازعي وابو بكر باقادر وعبدالوهاب المسيري وتركي الحمد وراوية عبدالعظيم، التي قطعت حبل الحوار من منتصفه وقبل ان يصل الى مقر البئر، وبنت الشاطئ واخيراً الناقد الادبي الكبير احسان عباس. ان الناظم لهذه الحوارات كما يعلن العميم هو دورانها حول قضية رئيسة، هي الفكر الاسلامي الحديث وما زاحمه من افكار علمانية، قومية كانت ام ليبيرالية ام راديكالية. ولذلك نجد ان العميم يندفع في حواراته مع عبدالله النفيسي وفهمي جدعان ورضوان السيد الى تعميق الاشكالية حول قضايا النهضة والحداثة، وكما يظهر ذلك جيداً في معظم حواراته، كما انه يساهم في فضح ما سماه خلدون حسن النقيب ب"العقلية التآمرية عند العرب" وذلك اثناء حواره مع عبدالوهاب المسيري الذي يؤكد على ان العقلية التآمرية افيون العرب، تمنحهم الراحة وتكفيهم شر عناء التفكير. وفي هذه المراجعة آثرت ان اقف عند اثنين من هذه الحوارات: حواره مع محمد جابر الانصاري الباحث والاكاديمي البحريني المعروف، ومع سعيد بنسعيد العلوي الباحث والاكاديمي المغربي. يندرج الحوار مع العلوي في القسم الاول من الكتاب المعنون "من الاصولية الاسلامية الى الحاكمية المسيحية" وهو عنوان دال ولافت للنظر وخاصة مقولة "الحاكمية المسيحية" التي يحاور فيها علي العميم الباحث المصري رفيق حبيب ويكشف فيها عن المستور والمخبوء معاً، حيث تقف الاصوليات في نفس المكان وتتقاسم الارضية نفسها. يتوجه العميم الى سعيد بنسعيد بالتساؤل: ما هي طبيعة مشكلات الفكر العربي الاسلامي؟ هل هي معرفية ام سياسية؟ وهل يمكن القول ان الدولة والسلطة ونظام الحكم في الاسلام كانت افرازاً لواقع تاريخي، ولم تكن تطبيقاً لنص ناجز؟ واخيراً هل ظاهرة الاسلام السياسي، في وقتنا الحاضر، هي ظاهرة طارئة وجديدة غير مؤصلة تاريخياً، مثلها مثل التيارات الايديولوجية الاخرى الموسومة بالعلمانية؟ كما يلحظ القارئ فان التساؤلات السابقة لا تبحث عن اسئلة ناجزة ونهائية بمقدار ما تساهم في دفع الحوار الى آفاقه القصوى بهدف تعميق الاشكالية حول القضايا السياسية والمعرفية المطروحة. وهذا ما نلحظه في اجابات العلوي الذي يؤكد على غياب نظرية واضحة عن السلطة في الاسلام، وذلك بالرغم من شمولية المبادئ الكبرى فيه. وهذا يعني ان مشكلات الفكر العربي سياسية بالدرجة الاولى، وهذا ما يدفعه الى القول ان ظاهرة "الاسلام السياسي" تؤول الى الازمنة المعاصرة، في امدٍ لا اظنه يتجاوز العقود الثلاثة الماضية، وما هو الا تعبير عن واقع متعدد الاوجه، يتضمن الحقيقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والسيكولوجية والحضارية. اما مع الانصاري، في القسم الثاني من الكتاب الموسوم "من النهضة المتعثرة الى الحداثة المجهضة"، فالحوار يستظل بشيء من الاستفزاز والمعرفة العميقة بما كتبه الانصاري. ويدفع العميم الى الواجهة بفيض من الاسئلة التي تستفسر عن دعوة الانصاري الى التمسك بالاصول والى كيفية تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، وهل يكفي - كما يسأل - اكتشاف الذات ونقدها، ليكون شرطاً لتجديد النهضة، ام اننا بحاجة الى المثاقفة مع الآخر. واخيراً حول علاقة الاسلام بالمدنية وبالمحيط الرعوي البدوي. وينفي الانصاري انه من دعاة النزعة الاصولية، فما يقصده هو اصولية تأسيس معرفي وليس اصولية ايديولوجية. وفي اجابته عن اكتشاف الذات كشرط للنهضة، يرى الانصاري ان احد المداخل الاساسية العلمية لمعالجة الازمة العربية الشاملة يجب ان يتم من خلال اكتشاف الذات الجماعية والا فاننا سائرون الى الفشل على حد تعبيره. اما عن الصراع بين الاسلام والبداوة فما يقصده ليس البداوة العربية وحسب التي وقفت على الضد من عملية الاستقرار التي دعا اليها الاسلام واقامها، بل البداوة الرعوية الآسيوية من هولاكو الى جنكيزخان التي دمرت المجتمع الحضري الاسلامي وأقامت حواضر بدوية سياسية ذات امتيازات عسكرية وسياسية. وفي الخاتمة فالكتاب بشكله الحالي يكمل تقليداً عريقاً في ثقافتنا العربية القديمة والمعاصرة، لكنه يذهب الى ابعد من ذلك، من خلال سعيه الى تعرية الخطاب العربي المعاصر من ارديته الايديولوجية، والى تعميق الاشكالية المعرفية بقضايا النهضة والحداثة وهنا مكمن فضيلته.