انطوى القرن الماضي على سؤال كبير وضاغط: كيف ينهض العرب من سباتهم الطويل وانحطاطهم المهلك ليصبحوا جزءاً من العالم الحديث بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية؟ واذا كان بعض متنوري نهايات القرن الماضي قد قارب جوهر الإشكال العميق بين العرب والحداثة ووضع يده على مكمن العلم المتمثّل في شيوع الاستبداد وسقوط العقل فكانت الحصيلة كوكبة من المؤلفات التنويرية على رأسها "غابة الحق" لفرنسيس المراش و"طبائع الاستبداد" لعبدالرحمن الكواكبي، وإذا كانت الافكار الرائدة لمبدعي تلك الحقبة الفنية قد استمرت مع جيل لاحق من المفكرين والأدباء العرب، الا ان سؤال الحداثة بقي معلقاً ثم ما لبث ان عاد أكثر ثقلاً على وعي النخب العربية مع الانقلاب الراهن على فكر النهضة ومنطلقاتها وعقلها الليبرالي، حيث باتت مقولات الحداثة مرفوضة بشكل وبآخر على طول الساحة العربية وعرضها، إن لجهة الديموقراطية السياسية والاجتماعية والفكرية، وإن لجهة التنمية وقيام الدولة الوطنية العلمانية أو لجهة الاعتراف بحق الاختلاف وحق المرأة في المساواة. هكذا وجد الفكر العربي نفسه محشوراً في مآزق تتعمق أكثر فأكثر مع ثورة العصر العلمية والتكنولوجية والإقتصادية ومع التحولات المتسارعة وغير المتوقعة في اتجاهات التطور وما يحمله من قيم ومفاهيم تتناقض مع كل ما هو سائد ومألوف حتى الآن. ولعل الشاهد الأكبر على هذا المأزق النهضوي ما صدر في الاعوام الاخيرة من هذا القرن من مؤلفات في النهضة العربية ومأزقها الراهن، حيث طغت صورة تشاؤمية قاتمة للواقع العربي ولو ان بعض هذه الاصدارات اتّخذ منحى ومنهجاً مختلفين. ويمكن ان ندرج في هذا السياق "التفكير والهجرة" لناصيف نصار، دار النهار 1997، و"ما العمل" لقسطنطين زريق، مركز دراسات الوحدة العربية 1998، و"المشروع النهضوي العربي" لمحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية 1996، و"العرب والسياسة... أين الخلل" لمحمد جابر الانصاري، دار الساقي 1998، و"قضايا في نقد العقل الديني" لمحمد أركون، دار الطليعة، 1998، وأخيراً "آفاق النهضة العربية" لأبي يعرب المرزوقي، دار الطليعة 1999 و"المأزق العربي الراهن" لأسامة عبدالرحمن، مركز دراسات الوحدة العربية 1999. ولعل ما جاء في مقدمة "المشروع النهضوي العربي" لمحمد عابد الجابري، نموذج معبِّر لخيبة الحلم النهضوي وانكساره يتردد في الفكر العربي في آخر القرن كأنما هو لعنة تطارد حركة التنوير العربية منذ بزوغها الخجول مطلع القرن الماضي. يقول الجابري: "لقد عاش العرب طوال هذا القرن على ثلاث قضايا رئيسية: مقاومة هيمنة الغرب، تحقيق نوع من الوحدة بين أقطارهم، تحرير فلسطين. وها هم العرب اليوم يقفون أمام هيمنة الغرب بلا أمل في التحرر منها في المستقبل المنظور، وها هي دولهم القطرية تفرض نفسها كواقع يعاند أي تفكير في الوحدة معاندة تامة، وأخيراً وليس آخراً: ها هي إسرائيل قد انتزعت اعترافهم بينما يواجه الفلسطينيون مصيراً مجهولاً". وهذا الاستنتاج البائس هو بالذات ما انتهى اليه المفكر القومي قسطنطين زريق حيث قال في "ما العمل" "عليّ شخصياً ان اعترف اني كنت في الماضي أتكلم وأكتب عن "الامة العربية" فاذا أنا الآن أتجنّب هذه التسمية لبعدها عن الواقع المعيش... بل إني غدوت أشك في صحة التكلم عن "المجتمعات العربية القطرية" أو عن "المجتمع" العربي العام نظراً الى قصور أهل كل منها وأهلها جميعاً عن تكوين ما يصح ان يدعى "مجتمعاً" أو "شعباً" والى استمرار خضوعهم لنزعات ضيقة مفرقة ولمطالب فاسدة مخربة، وبالتالي الى عجزنا جميعاً عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشرط الاول من شروط البقاء". وفي وقت يرى محمد أركون في "قضايا في نقد العقل الديني" اننا "على عتبة عصر معرفي جديد يتجاوز الحداثة ويفتح آفاقاً لم تكن في الحسبان" يجد ان هناك "استمرارية أبستمولوجية بين أول تبلور لصيغة الاسلام في القرون الهجرية الأولى وبين الصيغة التي يتخذها الخطاب الاسلامي الاصولي السائد حالياً في أواخر القرن العشرين". أما ناصيف نصار فيرى في "التفكير والهجرة" ان أزمة العرب الراهنة إنما هي "أزمة حضارية" أزمة بنيوية عامة نافذة الى صميم حركة النمو والتقدم في المجتمعات العربية، حيث لا تزال الاسئلة الكبرى كأسئلة الامة واللغة والوطن والوحدة والتدين والمرأة والعلم والتربية ونظام الحكم السياسي والتراث والتقدم والتمدن والهوية الحقيقية معلّقة وبدون إجابة. ورأى محمد جابر الأنصاري في "العرب والسياسة... أين الخلل" ان البكائيات التفجعية ما زالت تطبع الخطاب السياسي العربي منذ كارثة حزيران يونيو 67 الى كارثة آب اغسطس 90 بانشقاق الجسم العربي في العمق حيث لا زالت التكوينات والبنى المجتمعية العضوية تفعل فعلها في النسيج والسلوك المجتمعيّين العربيين الى اليوم. ومن اللافت في الكتابات النهضوية الراهنة ان أكثرها تشاؤماً وإحساساً بالهزيمة ما صدر هذا العام. ففي "المأزق العربي الراهن" خلص أسامة عبدالرحمن الى ان صورة الواقع العربي "تتجاوز حدود القتامة" حيث النكوص والارتداد يهيمنا على الساحة، اضافة الى انعدام الثقة في قدرات الأمة وإمكاناتها وسقوط الهم الوطني وضلوع الشريحة المتنفذة في الفساد بينما غالبية المجتمع تطحنها رحى الفقر والبطالة. وذهب أبو يعرب المرزوقي في "آفاق النهضة العربية" الى حد اعتبار صياغة إشكاليات الحضارة الانسانية عامة والعربية والإسلامية خاصة في محاولتي ابن خلدون وابن تيمية، متقدمة على كل محاولات النهضويين الى الآن، إذ ان فكر النهضة العربية لم يزل دون فكرهما شخصياً للداء وتقديماً للدواء. فقد كان همّهما تحرير الانسان من التصور التيوقراطي للدولة والبحث عن السبل التي تحرر مؤسسات المجتمع الوسطى المتجاوزة لكل دولة، أي مؤسسات التربية والاقتصاد والتعليم وادارة الشأن العام الدولة والشأن الديني المعبد. لكن العرب لا يزالون يفتقدون هذه المؤسسات الوسطى حتى ليمكن القول إن الاعتراف المتبادل بين القوى التي يتألف منها الوجود الاجتماعي لم يحصل بعد، بينما الفكر السياسي المسيطر اليوم على الشعوب الاسلامية ذو منزع قومي فاشي طغياني حيث كل الانظمة العربية لا يديرها الا معصومون عن الخطأ لا يجرؤ أحد على مساءلتهم. هذا السلوك المستمر منذ المماليك والمغول كرّس "شرعية القبيلة الجاهلية والجيش المملوكي وأجهزة الأمن والمخابرات". ومن السخف الحديث عن محاكاة أوروبا التي تجاوزت كل فكر قومي فعادت الى الوحدة القارية في حين لم نتجاوز الدعوة الاقليمية والقطرية كأننا لم نأخذ من اوروبا سوى التنظيمات الشعبوية الفاشية والشيوعية. أما قيم الحرية والجمال والخير والصدق فلم يعد يؤمن بها في مجتمع يحكمه العسف والقهر ويسوده الكذب والخبث والمكر والخديعة، وحيث النخب تكتفي بالمحاكاة والنسغ الذي لا يولّد الا المسخ. في هذا الاطار القاتم يطرح المرزوقي السؤالين المعلقين منذ بدايات النهضة العربية: ما هي علة توقف الإبداع عندنا وتحولنا الى تابعين؟ وكيف يمكن تغيير القبلة الانسانية من جديد بفتح الآفاق التي حددتها ثورتنا الأولى وغفلنا عنها؟ ما يطرحه المرزوقي إجابة على هذين السؤالين لا يختلف كثيراً في جوهره عما هو سائد في الفكر النهضوي منذ بداياته أعني العلاقة المتوترة بين النهضة والتراث وبين النهضة والغرب. واذا كان المؤلف قد رأى الخروج من هذه الاشكالية بالتحرر من الماضي تحريراً يمكن من "ابداع السبل الكفيلة بالتجاوز المطلق لكل الحاصل الانساني" وبالتحرر الرمزي من الغرب باعتباره نموذجاً حتى "تغالبه في المجالات التي تفوق علينا فيها"، الا انه لم يقل لنا كيف وبأية وسيلة يمكن الانخراط في عملية التحرر هذه وكيف يمكن تجاوز العوائق التاريخية السياسية والاقتصادية والأبستمولوجية التي وقفت عائقاً مستمراً ضد أي محاولة من هذا النوع. هذا الإشكال الكبير هو ما حاول محمد عابد الجابري وأسامة عبدالرحمن تجاوزه من باب الإيديولوجيا إذ أدخلا مصير النهضة العربية العاثرة في أمر الاحتمالات والتمنيات والتخمينات من خلال صيغ لغوية تحمل نقيضها في أحشائها كقول الجابري: "هيمنة اسرائيل ليست حتمية... الراجح ان الحملات الاستعمارية لن تتكرر... التطرف لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية" أو كقول أسامة عبدالرحمن "قد يأكل النظام السياسي نفسه... قد يعجز النظام تحت وطأة المطالب المعيشية... وهذه فرصة قد ترسّخ الحضور الديموقراطي". ومن المفارقات الملفتة ان يبقى السجال حول ابن رشد قائماً حتى العام الاخير من هذا القرن ففي حين رأى الجابري ان الطريقة التي سلكها ابن رشد هي الأنسب والأقوم للإجابة على سؤال الحداثة، يرى نصار ان النهضوي العربي يجب ان يتجاوز عقلانية ابن رشد لكي يواكب التطور الذي حصل بعده. ويرى المرزوقي ان الدعم بان الرشدية قد أسهمت في التنوير هو "من الأوهام التي تكاد تقتل ضحكاً" وأن استعادتها ما هي الا "تنغيص حياتنا من جديد بمشاكل جدودنا". وما هذا السجال المتجدد في نظرنا الا لأن نهضويي آخر القرن ما برحوا يدورون في الدوامة عينها حيث علق نهضويو آخر القرن الماضي، إذ لم يدركوا بعد استحالة النهضة العربية الراسخة والقابلة للتقدم. والاستمرار بدون نهضة عقلية شاملة. لهذا ظلوا أسرى اللغة التراثية والايديولوجية يستعملون العدة المفهومية نفسها التي كانت ولا تزال سبباً أساسياً من اسباب انكسار المشروع النهضوي وعثاره فكانوا كمن يعالج الداء بالداء. ثمة عقل تاريخي ضاغط أثقل روح النهضة العربية وقتل روح الابداع في صميمها يجب تقويضه وتفكيكه والحفر في خباياه المعتمة عن العطب المهلك الذي وقف دائماً دون النهوض والإنبعاث. قلة من نهضويي آخر القرن خرجت عن السائد وأمسكت بهذا العطب وذهبت بعيداً في التصدي له بلغة اخرى وعدة معرفية مختلطة رغم ما تلاقيه من معاناة المنع أو النفي أو التكفير من هؤلاء محمد أركون الذي ما فتىء يعمل على مشروعه لنقد العقل العربي والإسلامي والذي جاء كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" نقلة أخرى باتجاه تحرير العقل النقدي من القيود الابستمولوجية التي فرضها العقل الدوغمائي على الفكر والثقافة، وباتجاه تسليط أضواء المنهجية التفكيكية على الممارسة التاريخية التي حصلت في الجهة العربية الاسلامية كما في الجهة الاوروبية، والمضي في النقد التاريخي الصارم للتراث للانتقال من ظلامية العقل الدوغمائي القروسطي الى آفاق الحداثة والمعاصرة، ومن التقليد والاتباع الى التفكير الحر والإبداع. ومن النهضويين الذين ينحون نحواً مختلفاً في التعامل مع إشكالات النهضة وتحدياتها ناصيف نصار الذي دعا في "التفكير والهجرة" الى تجاوز تسويات القرون الوسطى العقيمة بين الدين والفلسفة أو بين الشريعة والحكمة أو بين الوحي والعقل، وتحرير العقل من كل وصاية. ورأى ان أزمة العالم العربي لا يمكن التصدي لها من زاوية إيديولوجية وان الفكر الفلسفي المتحرر من التراث والايديولوجيا هو وحده المهيأ لمعالجة الاسئلة الكبرى التي تنطوي عليها أزمة العرب الراهنة في سبيل نهضة عربية في إطار التطور الحضاري الذي يشمل العالم كله. هذا المنحى العقلاني العلماني الذي يكافح للاعتراف به منهجاً لإنقاذ النهضة العربية من عثارها المزمن، والذي تتبناه أكثر فأكثر فئة من المنورين في أكثر من مجالات الفكر والثقافة، هو السبيل الوحيد في رأينا الى مستقبل آخر للعرب غير الذي رسمه لهم الفكر الدوغمائي والإيديولوجي حتى لا يبقى السؤال الكبير "كيف ينهض العرب؟!" مؤجلاً الى ما لا نهاية. * كاتب لبناني.