يعتبر نقاد الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، سواء في اسبانيا أو في أميركا اللاتينية عموماً، أن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس كاتب عبقري غير عادي، ليس على مستوى الإبداع فقط، بل على مستوى الفكر الإنساني، لأنه كان مفكراً بمعنى الكلمة، يعرف ما يريد ويملك فضيلة التواضع التي تجعله يبتعد عن الادعاء، الذي يعتبر في رأي بورخيس دليلاً على ضعف الموهبة والخوف من مواجهة المبدعين الحقيقيين، لذلك كان يحاول دائماً أن يجد تفسيراً لكل ظاهرة في حياته الشخصية والأدبية للرد على أي سؤال يتضمن هذه الظواهر. لم يكن يدعي العبقرية، بل كان يؤكد أنها لدى غيره، ويرى أنه انسان وهبته الطبيعة القدرة على التعبير، وأن نصوصه ليست سوى استجابة لحاجة في نفسه لا يستطيع أن يهدأ حتى يلبيها. يبدو أن في كل الحوارات التي أجراها معه صحافيون ونقاد أو حتى من الجمهور العادي الذي كان يقبل على ندواته أو كان يشاركه في أي تظاهرة ثقافية، وكان بورخيس يستمتع بلقاء الجمهور وتمنحه الأسئلة التي يتلقاها لذة غريبة، فينسى الزمن. هذه الحوارات ضمها معرض خاص افتتحته زوجته ماريا كودامه في الأرجنتين ومن المقرر أن ينتقل بين عدد من عواصم العالم التي عاش فيها الكاتب. يضم المعرض أيضاً مجموعة من الرسائل التي كان يتبادلها مع عدد من الكتّاب المعروفين، والكتب الخاصة التي كان يطالعها ويضع عليها بعض آرائه بقلمه، إضافة الى أغراضه الشخصية مثل أدوات الكتابة والصور والعصا الأخيرة التي كان يتوكأ عندما وافته المنية في جنيف وفيها دفن في شهر حزيران يونيو قبل ثلاثة عشر عاماً. من خلال مطالعة الحوارات التي يضمها المعرض يمكن التوصل الى الخطوط الرئيسية لشخصية بورخيس الفريدة، التي يعتبر التواضع من أهم سماتها، فقد بلغ به التواضع الى درجة أنه علق على كتاب وضعه أحد النقاد كدليل لقراءة أعماله تحت اسم "قراءة بورخيس"، فقال: "انه كتاب لا أرضى أن يقرأه أحد، وأنصح بعدم قراءته قبل الاطلاع على أعمالي"، لأن أعماله كما يقول ليست معقدة الى درجة تتطلب الاطلاع على دليل نقدي لفهما بشكل صحيح، فهذه الأعمال "لم تكن استجابة لنفحة عبقرية، أو من وحي ملهمة، بل هي تلبية لحاجة غامضة ألحت على العقل ولم يكن ممكناً التخلص منها سوى بالتعبير عنها، حاجة تأتي في شكل سحابة ضبابية لا يمكن تسميتها وحياً أو إلهاماً، وأحاول دائماً أن أكون على قدر هذه الحاجة للتعبير عنها". كتب خورخي لويس بورخيس في جميع الأنواع الأدبية من شعر وقصة ورواية ونقد ودراسات ومسرح، بل ترجم وقدم الكثير من الأعمال التي يعتبرها النقاد من الأهمية بحيث لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن حياته الإبداعية الثرية التي امتدت طويلاً، ويفسر بورخيس تنوع إبداعه الأدبي بأنه عندما يقرر تلبية الحاجة الى التعبير التي تعتريه من وقت لآخر فهو لا يضع شروطاً معينة لكتابتها ضمن نوع معين من أنواع الأدب، بل يحاول أن يتمثل ذلك الإلحاح ثم يقرر الكتابة في الشكل الذي يراه ملائماً للتعبير تحت ضغط الفكرة نفسها. أي أنه لا يختار الشكل أو النوع الأدبي، بقدر ما يجد نفسه مندفعاً الى استخدام نوع أدبي تفرضه الفكرة في إلحاحها على ذهنه، لذلك يسمي أعماله "نصوصاً". ربما ما يجعل بورخيس سعيداً في حياته أنه كان يفعل تماماً ما كان يريد. كان يرغب في الكتابة لفضيلة الكتابة وحدها من دون أن يضع هدفاً آخر سوى أن يمارسها بالشكل الذي كان يمارسه، لذلك يؤكد دائماً أنه لم يكن يضع تخطيطاً مسبقاً لما يريد أن يكتبه، حسب قوله، ويمكن البدء من نقطة معينة والانتهاء في نقطة أخرى بشكل واضح. ولكن ما بين نقطتي البداية والنهاية يبقى مرهوناً بتطور الكتابة نفسها. ففي حالة القصة القصيرة يكفيه أن تكون البداية والنهاية واضحتين في ذهنه. لأن ما بين البداية والنهاية يجب ابداعه استجابة للحاجة الإبداعية نفسها. المهم في كتابة القصة القصيرة أن تعرف من أين تبدأ وأين تنتهي، وما بينهما عليك أن تتخيله وتخترعه، ما دمت تعرف الفكرة وكيف تبدأ والى أين تنتهي لا يهم إذا ما كانت ستجري على ضفة نهر، أم في مدينة بوينيس ايريس أو مونتيفيديو. لا يهم أن تكون الحكاية مروية على لسان البطل أو مروية على لسان راوي. لكنه يؤكد أيضاً أن أهم ما في القصة القصيرة الجملة الأولى التي تبدأ بها. في أحيان كثيرة، لم يكن بورخيس يعرف أنه سوف يكتب نوعاً محدداً من الكتابة الأدبية، بل هو ربما لم يفكر مطلقاً في كتابة هذا النوع الأدبي، مثلما حدث معه في شكل من أشكال الأغاني التي كانت شائعة في الأرجنتين إذ لم يفكر مطلقاً في كتابتها، لكنه التقى يوماً بصديق له يضع موسيقى لتلك الأغاني فبادره بقوله "لو كتبت لي أغنية سأضع لك موسيقاها على الفور"، كانت اجابة بورخيس أنه لم يكتب هذا النوع من الأغاني أبداً، ولم يفكر في ذلك، أي أن الإجابة كانت نفياً. وافترقا من دون أن يفكر بورخيس حقيقة في هذه الجملة، وبعد أشهر تذكر كلام صديقه عندما كان جالساً في مقهى، وسمع من يقص حكاية عن شخص معروف بإسم "خاثينتو تشكلانا"، قال المتحدث: "أن جماعة هاجمت أحد المالفيين من ينتمي الى جزر الفولكلاند المتنازع عليها مع بريطانيا حيث يطلق عليها الأرجنتينيون "جزر المالفين" وتمكن من قتله. وهذا الماليفي يدعى خاثينتو تشكلانا". وما أن انتهى الراوي من رواية الحكاية حتى لفت الإسم نظر الكاتب، وبدأت تداعب رأس بورخيس أجزاء من تلك الأغنية التي طلبها منه صديقه، فكتب بورخيس: "أذكر في بالفارانا / شخص ما ألقى بالإسم / قال أنه يدعى خاثينتو تشكلانا / الشجاعة جميلة دائماً / الأمل أبداً لا يضيع / يا لها من تعاسة / تلك التي لحقت بخاثينتو تشكلانا". وكانت هذه الأغنية بداية حقبة في حياة بورخيس كتب بعدها الكثير من هذه الأغاني. خورخي لويس بورخيس هو من القلائل الذين يعلنون إعجابهم بكتاب ما أياً كان كاتبه، لأنه كان قادراً على الفصل بين علاقته بالكتاب وعلاقته بالمؤلف. وله آراء تبدو فريدة تجاه بعض المؤلفات الكبرى، فهو يرى أن البطولة الحقيقية في رواية "دون كيخوته" ليس في المغامرات التي يقوم بها البطل "ألونسو كيخانو" و"سانشو بانثا"، بل يرى أن تلك المغامرات وضعها المؤلف لنتعرف على الشخصية نفسها لا أن نتسلى بالمغامرات ونحاول تحليل مواقفها، بالشخصية هنا هي الهدف. أو مسرحية شكسبير "هاملت" التي يرى بورخيس أن شخصية هاملت هي الجديرة بالاهتمام وليس تاريخ الدنمارك، أو شبح الأب الذي أفرد له الكثير من النقاد صفحات وصفحات لتشريحه ومحاولة توضيح معالمه. يرفض بورخيس آراء النقاد التي تحاول بخس بعض الكتابات حقها في الشهرة، وما تقدمه من صور شاعرية، لأنها في رأيهم لا تحمل معاني مثيرة، على الرغم من أن الكثير من تلك الكتابات على الرغم من بساطتها تحمل في طياتها استعارات وتشبيهات تبدو بسيطة للوهلة الأولى ولكنها في الحقيقة معجزة، ويقدم أمثلة على ذلك، الجملة التي ذكرها شكسبير والتي تقول "الموسيقى غذاء الحب" فهي في رأيه جملة بسيطة جداً، لكنها تحمل معاني فكرية وفلسفية أبعد من أن تكون مجرد جملة بسيطة تأتي على لسان شخصية كمجرد وصف لمعنى محدد. ومع ذلك لا يرى النقاد في تلك لجملة جديداً، بينما يثيرون الدنيا إعجاباً باستعارة وردت في قصيدة هندية تقول "الهيملايا بسمة ييفا"، أي أن جبال الهيملايا تعبر عن ابتسامة الإله ييفا، الذي يعتبر من أكثر الآلهة الهندية اثارة للرعب في النفس. ويرى بورخيس أن هذا التشبيه ليس فيه جديد سوى أنه مثير، أما تعبير شكسبير فهو في رأيه أجمل بهدوئه ومعناه الذي يحمله. لا يخفي أيضاً بورخيس عدم إعجابه ببعض كتّاب أميركا اللاتينية على رغم شهرتهم. رأيه مثلاً في الشاعر التشيلي الشهير "بابلو نيرودا"، يعاكس القارىء العادي الذي يشعر في حاجة الى حافز معين لقراءة أشعار نيرودا، وهذا في رأي بورخيس أمر غير جدير بالإعجاب. لكنه يرى أن الشاعر الأميركي والت ويتمان أقرب اليه من نيرودا، لأنه ليس في حاجة الى حافز لقراءته. فويتمان يكتب متعمداً على الأسطورة، على رغم أنها "أسطورة أميركية منحوتة نحتاً"، أي أسطورة مصطنعة، ويرى أن أعمال جيمس جويس مثقلة بالنظريات المسبقة في الكتابة. وفي رأيه أن جويس يفكر في شكل الكتابة حتى قبل أن يعرف ما الذي يجب أن يكتبه بالضبط. وهذا يجعله يقع تحت ضغط الأهداف التي وضعها لكتابته نظرياً قبل أن يمسك بالقلم. رأي بورخيس في الموت جعله يستمر في الكتابة حتى اللحظة الأخيرة، لأنه لم يكن خنوعاً يقبل بالواقع، بل كان متمرداً على رغم الشيخوخة التي وصل اليها، وعلى رغم فقده البصر الذي يعتبره البعض عجزاً قد يدفعهم الى الانتحار والتوقف عن مواصلة الحياة. وان كان يؤمن بأن الانتحار أيضاً طريقة ما للتعبير عن التمرد والرفض، فهو قرر مواصلة الحياة لأنه لم يجد إجابة عن جدوى رفض كل شيء، لأنه كما يقول: ليس مرعباً أن تكون عجوزاً بل أعمى. من خلال تلك الآراء التي وزعها خورخي لويس بورخيس على الكثير من اللقاءات الصحافية والأحاديث التي أدلى بها يمكن اكتشاف الى أي مدى كانت عبقريته، والسر الكامن وراء خلوف أعماله وبقاء اسمه أكثر من شهرة من بعض الذين حصلوا على جائزة نوبل التي كان يراقبها من بعيد ولم يكن يسعى اليها أو يعلن رفضه لها لو منحوه إياها، لأنه ببساطة كان قانعاً ومتواضعاً.