عندما أخذ الفرنجة في نهاية القرن الخامس وبداية السادس الهجري بمحاصرة مدن المسلمين وحصونهم ومواقعهم في الاندلس اضطربت دولة المرابطين، وبعدهم الموحدين، وانتشرت حالات قلق في "النخبة المثقفة" وازدادت مخاوف العلماء والفقهاء من ادبار امر المسلمين واندثار حضارتهم في تلك البلاد. اختلفت ردود فعل العلماء والفقهاء عن تلك التي سادت النخب المثقفة. فالفئة الاولى دعت الى الصمود والجهاد وتوحيد الجبهة الداخلية ولجأت الثانية الى "الحكمة الاشراقية" معبّرة عن افكارها في منظومات فلسفية غامضة في رموزها ويسكنها هاجس الوحشة والاغتراب والتوحد والقنوط. وابرز من مثّل الفئة الثانية في تلك الفترة القلقة ابن الصائغ المعروف بابن باجه في رسالة "تدبير المتوحد" حين تحدث عن الانسان الوحيد الغريب في مدينته الناقصة، وابن طفيل في قصته الفلسفية "حي بن يقظان" التي يشير فيها الى لقاء الحكمة حي بالشريعة اسال في جزيرة الوقواق تحت خط الاستواء. وتم اللقاء لحظة غادر اسال مدينته هرباً من الناس نحو الغربة بينما كان حي يبحث عن الحقيقة التي تتجاوز العقل. لم تكن هذه المرة الاولى التي يتم فيها الكلام عن غربة الاسلام والاسلام الغريب ولن تكون الاخيرة. فكتابات الاغتراب والوحشة والتوحد كثيرة في تاريخ المسلمين خصوصاً في فترات الضعف والتفكك والتراجع، وهي تستند في مجملها على احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن غربة الاسلام ووحدته. قال عليه الصلاة والسلام "ان الاسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من الغرباء؟ قال: النُزّاع من القبائل". وفي رواية "قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس". الشاطبي، الموافقات، الجزء الاول، صفحة 98. أثار حديث الغرباء وغربة الاسلام مخيلة الفقهاء والعلماء وكل من تعاطى شؤون الحكمة والسياسة وجاءت عنه اجوبة مختلفة الا انها تأثرت في مجملها باجواء ذاك الحديث الشريف بالاشارة اليه حيناً ومن دون الاشارة احياناً. وزاد ضعف المسلمين في بعض المحطات الزمنية من عزلة المثقفين ودعوتهم الى المغادرة والسفر والانزواء بعيداً عن الناس، وهو ما يمكن ملاحظته في كتابات ابن باجه وابن طفيل. في هذه الاجواء المضطربة ولد ابن الصائغ المعروف بابن باجه في مدينة سرقسطة في الربع الأخير من القرن الخامس للهجرة. لا تعرف السنة التي ولد فيها إلا انه عاش فترة طفولته وشبابه عشية انهيار دويلات الطوائف اذ عاصر فترة المستعين الثاني 478 - 503 هجرية وهو آخر أمراء بني هود حكام مقاطعة سرقسطة ولاردة وتطيلة. جاء محمد بن يحيى بن باجه ابو بكر السرقسطي من اسرة تمتهن الصياغة الذهب والفضة. وبسبب ثراء عائلته وموقعها الاقتصادي المرموق أرسله والده لدراسة الطب والرياضيات والمنطق والهندسة فبرع في مختلف الحقول، الامر الذي رفع من مكانته في المدينة كعالم في الرياضيات والمنطق والهندسة وكعارف في الطب والموسيقى. عاش ابن باجه تحولات سياسية خطيرة احدثت انعطافات نفسية حادة في تطوره الفكري. وجاءت التحولات الكبرى في مطلع شبابه حين ارتكب الفرنجة مذبحة ضد المسلمين في مدينة طليطلة سنة 478 هجرية. آنذاك دب الخلاف بين أمير سرقسطة المقتدر بن هود وأمير طليطلة القادر بن ذي النون. وطلب الأخير الحماية من ملك الفرنج الفونس مقابل دفع جزية له. فلبى الفرنجة الطلب الى ان استنزفت موارد طليطلة فقام أهلها بثورة ضد أميرها فاستغل الفونس المناسبة واقتحم المدينة واخضعها للحكم الافرنجي. أحدث سقوط طليطلة، وهي المدينة التي تولى صاعد الاندلسي أمر القضاء فيها الى سنة وفاته 462 هجرية، صدمة كبرى في العالم الاسلامي آنذاك ودب الهلع والخوف بين "أمراء الطوائف". واخذت فكرة اعادة توحيد الاندلس في دولة مركزية تنتشر بين المسلمين للرد على تحديات الفرنجة. وانتشر مفهوم الوحدة بين القيادات السياسية الاندلسية، فاندفع العلماء والفقهاء باتجاه تحقيق ذاك الحلم مستفيدين من مخاوف الأمراء. وتوافقت تطلعات الفقهاء والعلماء مع مخاوف المثقفين الذين أخذوا يبحثون عن وسيلة مجدية لوقف الزحف الافرنجي وحماية ما تبقى من مواقع حضارية في تلك الديار. تحت الضغط النفسي تداعى أمراء الطوائف، كما ذكرنا، الى قمة طارئة لمناقشة الوضع في الاندلس. وكان صاحب المبادرة، كما أسلفنا، أمير اشبيلية أقوى مقاطعات أمراء الطوائف المعتمد بن عباد وتم الاتفاق فيها على الاستنجاد بأمير المرابطين في المغرب. ومنذ تلك اللحظة، لحظة عبور قوات يوسف بن تاشفين جبل طارق في سنة 479 هجرية، دخلت الاندلس فترة تاريخية جديدة عاصر ابن باجة تحولاتها الانتقالية وتركت في حياته الأثر الكبير، وهو ما انعكس لاحقاً في مقالاته وأفكاره. جاءت انتصارات المرابطين على الفرنجة وإعادة توحيد الاندلس والمغرب في لحظة تاريخية قلقة، اذ كانت الخلافة العباسية تواجه أحرج الظروف وأخطرها حين نجحت الحملة الافرنجية الصليبية الأولى في اقتحام سواحل الشام واحتلال مدنها البحرية والتقدم براً والاستيلاء على القدس وتأسيس إمارة لاتينية هناك في سنة 492 هجرية. وبسقوط القدس انتقل الاضطراب من المغرب الى المشرق وباتت الخلافة بحاجة الى دعم دولة المرابطين، التي تلكأت في تلبية نداء الاستغاثة، فانعكس الأمر سلباً على العلاقات في فترة لاحقة. آنذاك استقر الوضع للأمير علي بن يوسف بعد رحيل والده يوسف بن تاشفين وبايعته قبائل المرابطين الصنهاجة والمصموديين فتولى أخوه أبو الطاهر أمر مكناسة، وتولى يحيى بن أبي بكر أمر فاس، وتولى الأمير مزدلي تلمسان، وكانت اشبيلية في طاعة الأمير سير ابن أبي بكر، بينما لحق الأمير أبو بكر بن ابراهيم بغرناطة في سنة 500 هجرية. بعدها قويت شوكتهم فأخذ الأمير علي يركز قواته للسيطرة على كل الاندلس فحشد جيوش المرابطين والمصموديين فبادر أهل الاندلس وقضاتها الى طاعته، فولى أخاه أبا الطاهر تميم بن يوسف غرناطة، وولى أبا عبدالله محمد بن أبي بكر اللمتوني قرطبة، ثم ولى محمد بن الحاج فاس ثم نقله الى بلنسية في سنة 503 هجرية. وقاد الأمير أبو الطاهر معارك ناجحة ضد الفرنجة عاد بعدها الى غرناطة. وغزا الأمير علي بن يوسف مناطق الفرنجة في سنة 503 هجرية واسترد مدينة طلبيرة منهم المراكشي، الجزء 4، ص52. ذكرنا سابقاً ان المستعين بالله بن هود تولى إمارة سرقسطة في سنة 478 هجرية واستمر فيها الى فترة مجيء قوات المرابطين واحتفظ بموقعه الى ان قتل في موقعة مع الفرنجة جرت في سنة 503 هجرية فتولى مكانه ابنه عماد الدولة أحمد بن أحمد المستعين بن المؤتمن بن أحمد المقتدر بن سليمان المستعين بالله بن هود الجذامي فبايعه الناس في سرقسطة واشترطوا علىه عدم تقليد الفرنجة ومخالطتهم. فوافق ولم يف بوعده فعزم على مداخلتهم، كما يذكر المراكشي في تاريخه، فرد أهل سرقسطة بالاتصال بوالي بلنسية الأمير محمد بن الحاج المعين من قبل أمير المرابطين علي بن يوسف. ودخل المرابطون سرقسطة وحصلت مواجهة مع الفرنجة سقط فيها الكثير من القتلى. واستقر محمد بن الحاج عامل المرابطين في سرقسطة في سنة 504 هجرية وهو في حرب سجال مع الفرنجة بسبب استغلالهم خصومات المسلمين وتعاون ابن المستعين معهم لمناوشة معاقل المرابطين المراكشي ص 55، وبسبب حاجة المرابطين الى تعزيز سلطتهم بالمثقفين على اثر تزعزع علاقات الأمير علي بن يوسف مع العلماء والفقهاء الموالين للخلافة العباسية، تقرب ابن باجة من السلطة وأخذ يدخل عالم السياسة من موقعه المهني كاستاذ وطبيب، فاتصل بوالي سرقسطة واختاره الأخير الى جانبه كوزير من وزراء الولاية. الا ان صعود ابن باجة السياسي كان نقمة اكثر منه نعمة، اذ استغلت السلطة علومه لتصفية حساباتها مع العلماء والفقهاء في لحظة أخذ المغرب يشهد صعود "حركة الموحدين" التي تأثرت بفقه الامام الغزالي وأفكاره. آنذاك تدهورت علاقات دولة المرابطين مع الخلافة العباسية بعد الحملة الافرنجية الأولى وصعود حركة الموحدين واتهام الإمام الغزالي بتشجيعها حين قدم اليه محمد بن تومرت الى بغداد ودرس عليه الفقه الشافعي ثم انتقل الى المغرب لنشر دعوته مستفيداً من علومه. استغل ابن تومرت التهاء حركة المرابطين بمعاركها الداخلية وانشغالها في صد هجمات الفرنجة على المدن الاندلسية لتأسيس نواة عسكرية صلبة اخذت بمناوشة مواقع المرابطين من خلال شن هجمات سريعة من الجبال المغاربية. وللرد على تلك الضغوط أجرى أمير الدولة علي بن يوسف جملة تنقلات ادارية في قرطبة وغرناطة والمرية في سنة 505 هجرية فنظم الحصون والقرى لصد المناوشات المتعددة التي ازدادت في سنة 506 هجرية. وعلى رغم التعديلات في خطط الدفاع استمرت مواقع المرابطين تتعرض الى هجمات الفرنجة ترافقت مع حركات تمرد قامت بها قبيلة زناته الا ان أمير المرابطين نجح في احتوائها والتغلب عليها في سنة 507 هجرية. وفي هذه الاجواء المضطربة حاول الفرنجة احتلال قرطبة في سنة 509 هجرية مستغلين الصراع المحلي وبروز قوة الموحدين وبداية ضعف المرابطين فحصلت مواجهات سقط فيها 80 من أمراء المرابطين وكبار الشخصيات وأبرز القادة الى جملة كبيرة من أهل الاندلس. فأرسل الأمير علي بن يوسف تعزيزات لصد الغزوات فنجح موقتاً في وقفها بعد ان سقط "خلق من المسلمين" كما يذكر المراكشي في تاريخه. الا ان المعارك استمرت الى سنة 510 هجرية ونجح المرابطون في صد الهجمات وقاموا بسلسلة ضربات ناجحة وتم تثبيت المواقع في سرقسطة ترافقت مع قيام الأسطول البحري بقيادة محمد بن ميمون بغزوات ناجحة. إلا أن النجاحات كانت محدودة التأثير بسبب عنف هجمات الفرنجة التي استهدفت قطع الاتصالات بين المغرب والمشرق. فالخلافة العباسية بدأت تمر بأزمات داخلية وكانت بحاجة الى اسطول المرابطين لصد الغزوات الافرنجية البحرية، بينما كان أمير المرابطين بحاجة الى قواته لمواجهة الخطرين الداخلي نمو قوة الموحدين في المغرب والخارجي وقف الغارات الافرنجية على الاندلس. في هذا الوقت كانت دولة المرابطين انقلبت نهائياً على أفكار الغزالي ومدرسته، رداً على ما قيل عن دعمه لحركة الموحدين حين درس مؤسسها في بغداد. ويذكر المؤرخ ابن القطان في رواية له في كتاب "نظم الجمان" ان الأمير علي بن يوسف أصدر أمراً، بموافقة قاضي قرطبة ابن حمدين، بحرق كتب الإمام الغزالي خصوصاً "إحياء علوم الدين" فأحرق الكتاب على الباب الغربي من رحبة المسجد بحضور جماعة من أعيان الإمارة. ثم وجه الى كل أمراء المناطق أمراً بإحراق كتاب الاحياء. وتوالى الإحراق على ما اشتري منه في تلك البلاد في سنة 507 هجرية. ويذكر المراكشي ان "إحراقه كان سبباً لزوال ملكهم وانتشار سلكهم". فالمراكشي يربط بين إحراق كتاب الغزالي "الأحياء" وزوال ملك المرابطين وغياب دولتهم. إلا أن دولة المرابطين لم تسقط بسهولة. فهي نجحت في مقاومة الضغوط لفترة قصيرة عرفت خلالها حالات صعود وهبوط مع ميل متواصل الى التفكك والانهيار بسبب توزع قوات الامير علي على جبهتين عسكريتين، واحدة ضد الموحدين وأخرى ضد الفرنجة. في سنة 511 هجرية نفذ حملة على قلمورية في البرتغال، عاد بعدها الى اشبيلية وأجرى سلسلة تنقلات في الجهاز الاداري وقام بتولية جد ابن رشد الحفيد خطة القضاء في قرطبة، وموسى بن حماد قضاء غرناطة، ومحمد بن سعيد قضاء المرية، وأبو الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني قضاء اشبيلية. وقام بتولية شقيقه أبو حفص على اشبيلية، وتولى يحيى بن غانية اللمتوني على مرسية. ولم تسعف اصلاحات الأمير علي في وقف مشاكل دولته في المغرب ولا في منع هجمات الفرنجة. فعلى أثر حملته على قلمورية رد الفرنجة بالضغط على مواقع المرابطين في شمال الاندلس وقاموا بهجمات مباغتة انهارت خلالها بعض المخافر المتقدمة الأمر الذي ساعد على تطويق سرقسطة واسقاطها في سنة 511 هجرية. اضطر ابن باجة للنزوح الى جنوب الأندلس فأقام في المرية ثم انتقل الى غرناطةفاستوزره والي غرناطة أبو بكر بن ابراهيم لفترة قصيرة استغلها لتوسيع اهتماماته الأدبية والشعرية. وجد ابن باجة نفسه في وضع صعب بسبب عدم قدرته على التوفيق بين مسؤولياته الوزارية وانشغالاته المهنية وانصرافه الى تطوير معارفه الفكرية، فارتحل الى اشبيلية واستقر هناك. وفي اشبيلية درس الفلسفة الاسلامية واطلع على الفلسفة اليونانية فأخذ بنشرها والدفاع عنها، فشرح كتاب "السماع الطبيعي" لأرسطو. وكتب أقوال على كتب ارسطو الآثار العلوية، الكون والفساد، والحيوان، والنبات، والنفس. الى التأليف اشتغل بالتدريس وكان من أبرز أصحابه وتلاميذه ابن الإمام أبو الحسن بن علي الذي قال عن استاذه انه أول من استهل الكتابة الفلسفية في الاندلس، وكان لابن الإمام الفضل في جمع مقالات ورسائل استاذه الفلسفية، وأقدم لاحقاً على نشرها وشرحها وتفسيرها والدفاع عنها. في هذه الفترة قويت شوكة حركة ابن تومرت الموحدين واخذت منذ العام 514 هجرية تهدد نفوذ دولة المرابطين في المغرب الأمر الذي زاد من أهمية ابن باجة الفكرية والفلسفية في الرد على العلماء والفقهاء وخصوصاً الإمام الغزالي الشافعي الأشعري. تختلف فترة ابن باجه عن مرحلة صاعد الاندلسي وتتشابه في حوادثها من ناحية انعطافاتها الحادة مع مرحلة ابن حزم. فصاعد عاش فترة الانقسام والتفكك المستقر على توازن قوى متضاربة في مصالحها بينما عاصر ابن حزم فترة مضطربة انتقلت فيها الاندلس من عصر الدولة المركزية الأموية العامرية عاصمتها قرطبة وتلتها مرحلة "الفتنة الاندلسية" التي انخرط فيها الى ان انتهت حياته السياسية مع بدء عصر امراء الطوائف. وهو عصر شهدت فيه الاندلس انشطار المركزية الى تعددية أخرجت السلطة من العاصمة وتحولت قرطبة الى ساحة صراع يتناوب الأمراء بسط نفوذهم عليها. عايش ابن باجه نهايات ذاك العصر حين اشتد الصراع بين الدويلات وزاد من تشرذم "كونفيديرالية" الطوائف وتنازع مراكز القوى على مناطق النفوذ. والفارق بين المفكرين ان ابن حزم شهد فترة انتقالية قلقة تحولت فيها الاندلس من دولة واحدة تحكمها سلطة مركزية الى دويلات مستقرة على التنافس بينما عاصر ابن باجه فترة انتقالية معاكسة عادت فيها الاندلس من دويلات متنافسة الى دولة واحدة تحكمها سلطة مركزية، اعتمدت على العلماء والفقهاء في مرحلة صعودها وانقلبت عليهم في مرحلة نزولها. لعب ابن باجه دوره الفلسفي في تنظير تلك الفترة وانتقاد افكار الإمام الغزالي، في لحظة اشتد فيها الصراع المرابطي - الموحدي في المغرب معطوفاً على خصومات فكرية - فقهية وصلت الى أعلى درجات توترها. * كاتب من أسرة "الحياة".