حسناً فعل شيخ مؤرخي الصحافة العربية عندما ادخل الدوريات الخطية ضمن لوائح الصحف والمجلات المطبوعة. ذلك ان معظم تلك الدوريات المكتوبة بخط اليد، ضاهت الدوريات المطبوعة لجهة المضمون او الفن الصحافي. ثم ان الدوريات الخطية كانت بمثابة كليات اعلامية وسياسية اذ تدرّج فيها العديد من الصحافيين والسياسيين الذين لمعوا في مشرق العالم العربي او مغربه، خصوصاً وان الجامعات لم تكن اضافت الى كلياتها كلية الاعلام كما هو حالها اليوم. وفي المناسبة، كان التداخل شبه تام بين الصحافة والسياسة، ويمكن اضافة الادب اليهما. من هنا سرّ احتراف شاعر كبير كالأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري العمل الصحافي عبر "البرق" التي صدرت اكثر من عشر سنوات، او دخول امين نخلة البرلمان اللبناني وهو الاديب المبدع وصاحب "الشعب" السياسية. صدرت الدوريات الخطية في كل مكان من العالم العربي او حيث يوجد قراء لها في دنيا الاغتراب. ولكن تاريخ صدورها، ومستواها، وعددها، كان متفاوتاً، تماماً كما هو حال الدوريات المطبوعة. واذا كان متعذراً تحديد باكورة تلك الدوريات، ما يحول دون معرفة الزمان والمكان اللذين ظهرت فيهما، باعتبار ان معظمها فُقد نظراً لقلة اصداراتها وعدم الاهتمام بحفظها، فان الكتابة عن المتوافرة منها امر ضروري ومفيد، خصوصاً بعد الاهمال الذي اصابها من مؤرخي الصحافة. ولنبدأ بالدوريات الخطية العربية التي اصدرها طلاب الجامعة الاميركية في بيروت، وقد حُفظ بعضها في مكتبة الجامعة المعروفة باسم "مكتبة يافت التذكارية". وتتميز دوريات الجامعة المكتوبة بخط اليد الجميل بأنها بدأت تصدر منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكان عددها كبيراً، ومستواها رفيعاً، وبعضها حُرر باللغة الانكليزية، ناهيك بأن محرريها من الطلاب لم يكونوا لبنانيين فقط، بل كان بينهم السوري والفلسطيني والعراقي والمصري، وبرز بعضهم في الحياة العامة وفي حقول الصحافة والسياسة والادب. لم تكن "الكنانة" باكورة تلك الدوريات. ولكن لا بأس من البدء بها لانها ظهرت في نهاية العام 1900، واحتفلت في عددها الثالث بالالفية الثانية. ليس معروفاً اسم صاحب المطبوعة. ولكن العبارة القائلة بأن "تسلّم الرسائل ليد الاديب ادوارد افندي شامي في القسم العلمي" كانت تكتب في كل عدد. وهذا يعني ان "الزملاء" الذين حرروا اعداد المجلة كانوا طلاب طب وصيدلة وفيزياء وفلك وغير ذلك من الحقول العلمية. ولا عجب، فالجامعة الاميركية كانت حريصة على تدريس طلاب العلوم اللغة العربية وآدابها، لذلك، مارس معظم خريجيها من الاطباء، امثال شبلي شميّل وخليل سعاده وجورج حبش، السياسة والصحافة والفكر والخطابة اكثر من ممارستهم الطبابة. صدرت "الكنانة" مرة كل اسبوعين، واتخذت مبادئ الثورة الفرنسية "الحرية، المساواة، الاخاء" شعاراً لها. وظهر العدد الاول في 15 تشرين الثاني نوفمبر 1900. وتمحورت الافتتاحية او "المقدمة" على الصحف التي لها "اليد الطولى في شأن ادارة دولاب الاعمال التي هي مظهر المجد البشري والاقتدار الانساني". ولم تكن بيروت ولا حتى الجامعة خالية من الدوريات. "ففي الثلاث او الاربع سنين الاخيرة، ظهرت في المدرسة الكلية الجامعة الاميركية عدة جرائد عربية وانكليزية كاللكية وزهرة الكلية وثمرات الاذهان والمبدأ الصحيح وغادة الفكر والعصر وحديقة المعارف والايسترض". اضاف كاتب الافتتاحية انه عرض فكرة انشاء الكنانة على استاذ اللغة العربية العالم العلاّمة جبر ضومط، فشجعنا على اتمامه واستحصل لنا "الرخصة الرسمية". وختم الافتتاحية بتحديد هوية الكنانة بحيث تكون "رقيباً على اعمال الذين يقولون ما لا يفعلون ويجاهرون بغير ما يسرّون، ترشقهم بسهام الانتقاد الصائبة غير مستثنية منهم كبيراً ولا صغيراً". واحتل دانيال بلس مؤسس الجامعة الحلقة الاولى من "باب المشاهير" وورد في سياق اعماله الخاصة بالجامعة وقائع تدشين البناية العلمية التي كانت باكورة بنايات الجامعة، التي بدأت ورشتها بوضع علبة حديد تحتوي "ليرة عثمانية وريالاً مجيدياً" تحت الاساس. ويذكر ان البناية تلك التي دشنت في العام 1870، فُجّرت خلال الحرب الاهلية. واعاد مجلس امناء الجامعة بناءها من جديد وفق هندستها القديمة. وعثر عمال رفع الانقاض على العلبة الحديد وهي بحال سليمة. وعدّد احد كتّاب "الكنانة" في المقال المعنون "عظمة الامم" اسباب عظمة بريطانيا ومنها العلم. وهو فعل ذلك علّ امته "تقتدي بتلك الأمة العظيمة التي اصبحت اليوم الدولة الاولى غنى وثروة وتجارة وعلماً ومجداً". وخُتم العدد الاول بالنادرة الآتية: المعلم: من اي شيء صنع نعل حذائك؟ التلميذ: من الجلد. المعلم: ومن أين الجلد؟ التلميذ: من الثور. المعلم: اذاً، "اي حيوان يطعمك لحماً ويجهز لك نعل الحذاء؟ التلميذ: والدي". العدد 3 كان العدد الاول من "الكنانة" الذي صدر في مطلع الالفية الثانية. وتحديداً في 3 كانون الثاني يناير 1901. لذلك احتلت صفحاته الاولى بما فيها حيّز الافتتاحية، كلمة وداع للقرن التاسع عشر وكلمة استقبال للقرن العشرين. ووصف الكاتب القرن المنتهي ب"قرن الجهل والمعارف، والتأخر والارتقاء، الهمجية والتمدن، السعادة والشقاء". وتمنى في كلمة الترحيب بالقرن المقبل الارتقاء الى "الدرجة القصوى من التمدن الحقيقي" حيث غياب الشقاء وحضور السعادة. وبخلاف الطقس غير الماطر في مطلع الألفية الثانية، فان المطر "هطل مدراراً حتى خيّل للناظر ان ينابيع السماء انفتحت، ووقع البَرَد حتى غطى تلال الرمل المجاورة فصارت بيضاء". وتحت عنوان "تسبيع الدائرة" نشرت "الكنانة" خبر حصول ابراهيم الحوراني على جائزة الجمعية العلمية الانكليزية وهي 7 آلاف ليرة انكليزية. والجائزة خُصصت لحل المسألة الهندسية المعروفة بتسبيع الدائرة التي "اشغلت عقول اعظم رياضيي العالم من ايام اقليدس". والغريب ان الحوراني لمع فيما بعد بالكتابة الادبية وليس بالرياضيات. ونقرأ في العدد 8 الصادر في 28 آذار مارس 1901 خبر انتخاب الهيئة الادارية للجمعية الكيمية، وكان من الفائزين نقولا حداد الذي انتقل بعد التخرج الى القاهرة وتزوج من الاديبة روزا انطون اخت الكاتب فرح انطون، واصدرا معاً مجلة "السيدات والرجال". ولحداد عدة مؤلفات منها "علم الاجتماع" الذي اصدره في العشرينات من القرن الماضي، ولاقى ترحيباً من النقّاد نظراً لندرة الكتب التي تناولت علم الاجتماع باللغة العربية آنذاك. وثمة خبر مماثل نشرته "الكنانة" عن انتخاب اللجنة الادارية ل"الجمعية العلمية العربية" ونال عبدالرحمن الشهبندر كل اصوات الناخبين. والشهبندر الذي كان طالباً في كلية الطب، اصبح زعيماً سياسياً في دمشق. ومن المؤكد ان اغتياله في الثلاثينات حال دون اعتلائه كرسي الرئاسة الاولى. "البرانيط في المدرسة" كان عنوان احد مقالات العدد التاسع الصادر في 25 نيسان ابريل 1901. فقد كان الطلاب يعتمرون الطرابيش. ولكن تقليد الاميركيين جعلهم يستبدلون الطربوش بالبرنيطة، "واذا دامت الحال على هذا المنوال، نضطر الى ان نسوّد بعض صفحات الكنانة حداداً على الأفندية طرابيش". وتضمن العدد 11 الصادر في 27 ايار مايو 1901 مقالة بعنوان "البوير الابطال" تنصّ مقدمتها على الآتي: "اذا كانت الحياة حياة شقاء وعذاب، فأسعد الناس يا ايها الناس هم الذين يموتون لأجل الحرية، لأجل الضمير، لأجل الحق، ولأجل الأمة". واكد الكاتب ان الذين ماتوا في جنوب افريقيا ضد المستعمرين الهولنديين "هم الذين يحيون. ذكرهم عزيز. ووطنهم يفتخر بهم". اما العدد 13 الصادر في 27 حزيران يونيو فكان الاخير للعام 1901 الدراسي. لذلك ودّع كاتب الافتتاحية القراء، آسفاً لاحتجاب الكنانة، وفخوراً بأنها "قامت بما يجب على كل مجلة أُنشئت للمنفعة العامة ولتعزيز الحق والحقيقة". ولكن الاحتجاب مؤقت. فقد لا تنقضي العطلة الصيفية الا وتعود الكنانة "بحلّة أبهى وأحسن مما كانت عليه". يبقى ان صاحب "الكنانة" هو فؤاد سالم الطالب في كلية الصيدلة وخال الصحافي صاحب "النهار" اللبنانية غسان تويني. وهو أطلق على مجلته اسم "الكنانة" لانه عاش طفولته في المنصورة، وامضى حياته بعد تخرجه في العام 1905، في القاهرة حيث أسس مصنعاً للأدوية. ولم ينقطع عن كتابة المقالات ونظم الشعر خلال ممارسته مهنة الصيدلة. ونشر بعض نتاجه الساخر في "مجلة سركيس" التي كان يصدرها في القاهرة شيخ الساخرين سليم سركيس. * كاتب لبناني.