في صمت، صدرت الرواية التي اتخذت شكل السيرة الذاتية، وفي صمت، صودرت تحت رايات "حرية التعبير" الخفاقة في القاهرة نأمل ان تكون آخر الأعمال المصادرة في تسعينات هذا القرن المرتبكة المربكة، في قاهرة "المعز". ما من صوت صدر من أحد، ولا كلمة نُشرت عن الواقعة من المنادين - آناء الليل وأطراف النهار - بالعقل والتنوير وحقوق الانسان من دون أن يعني ذلك أنها واقعة مجهولة، أو أن الرواية لم تصل الى أيدي الكُتاب والصحافيين. والروائي يعرفه بعض الوسط الأدبي القاهري والعام، مصري مقيم في فرنسا منذ سنوات، التقاه كل من شد الرحال الى المدن الفرنسية - بين الحين والحين - في السنوات الأخيرة من الأدباء المصريين. وقرأ بعضهم المخطوط قبل سنوات، ليصلهم مطبوعاً كتاباً كأول عمل أدبي لمؤلفه أوائل هذا العام، قبل مصادرته بالعسكر والرشاشات، بعد إفلات ما تيسر من النسخ. فهل انغلقت دائرة الأدباء على نفسها بصورة حديدية طاردة لأي قادم جديد؟ أم مثلت الرواية / السيرة نوعاً من المفاجأة غير السارة لهم من كاتب بلا تاريخ سابق؟ أم هو الانفصام بين الادعاءات والشعارات المرفوعة والسلوك العملي؟ أم أنهم - وهم العقلاء - لم يحتملوا رواية مجنونة "الجنون العاقل" لكاتب "مجنون" يحىى ابراهيم يطيح بجميع الأقنعة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، فقرروا - بلا اتفاق مسبق - الصمت والنسيان؟. "الجنون العاقل" نُشرت على نفقة المؤلف ليس عملاً تقليدياً، لا على صعيد الرواية "الفنية" ولا في مجال "السيرة الذاتية" لعله المزج بين الاثنتين، بما يمنح الكاتب حرية لا تعرفها "السيرة الملتزمة بالوقائع التاريخية الواقعية، وتسجيلية لا تعرفها الرواية التقليدية، وبهما معاً، وبغيرهما يحقق العمل فرادته. يبدأ الراوي الحكي بطفولته الأولى في أسرة مصرية متوسطة، عادية، مشدوداً - دائماً - الى رموز الشهوة الجسدية في محيط الأسرة الصغيرة، ليقدم تفاصيل عملية "الختان" الرهيبة له ولأخته في يوم واحد لتنتهي بوفاة الأخت، وصدمة الطفل الصغير. ويصبح الخارج / الشارع منطقة الجذب الأثيرة بمغامراته وكشوفاته المتوالية المبهرة، وصولاً إلى حريق القاهرة الذي يفاجئ الصبي - الآن - ليفقد الطريق الى البيت، فيقدم لوحة دقيقة نادرة للحدث التاريخي بعين صبي ضائع، معها يبدأ العالم السري القاهري في احتلال المشهد السردي بلا افتعال أو شعارات عالم يهرب منه الروائيون المثقفون أو لا يعرفونه. نزوع الى الحرية المطلقة حتى لو كانت فوضوية يشد الراوي الى كسر القواعد كلما اعترضته، أو القفز عليها، ودفع الثمن المتفاوت، بلا حرص على شيء معين سواه. ورؤية محكومة بهذا النزوع الخارق لا نرصد إلا ما يتوافق معه ومع تمرد الذات على القوانين الحاكمة. وشهوة لا تحكمها التابوهات المستقرة، تفضي الى مضاجعة الأخت في لحظة هجوم الطيران الاسرائيلي على مصر 1967، وفضح ما كان سائداً في العسكرية المصرية قبل الحرب، وأدى منطقياً الى الهزيمة، بلا أقوال مأثورة أو إصدار أحكام سياسية أو أخلاقية. ومع تجنيد الراوي في الجيش، يدخل مرحلة صراع من نوع آخر: كيف يمكن الاعفاء من الخدمة العسكرية؟ لا حل سوى إدعاء الجنون والدخول في دوامة إثباته، واجتياز الاختبارات المختلفة حتى الصدمات الكهربائية الصاعقة والوقوف على حافة الجنون الفعلي، لا المفتعل، الى أن يصدر - في النهاية - القرار المنتظر، مع نهاية العمل. عمل مفاجئ، مدهش، يخترق مناطق لم يطأها قلم في الكتابة العربية، يعريها ويهتك حرماتها الزائفة، بلا شعارات ولا لافتات، وكتابة مضادة للتواطؤ الضمني الصامت، والأخلاقيات الاجتماعية والسياسية القمعية المنافقة، مضادة للرعب من مواجهة الذات والعالم مواجهة عارية، لا أقنعة، لا ادعاءات. لا تجميل أو تأنق مصطنعاً، ولا طنطنة أو شنشنة كتابة بلا فزع أو تردد. وحنكة حقيقية - في ممارسة الكتابة - تتلبس ثوب البراءة والعفوية. لهذا، لم يكن منتظراً أن يمر مرور الكرام، أو غير الكرام، لم يكن منتظراً سوى المصادرة، والصمت الأشبه بالتواطؤ مع فعل المصادرة.