ما أن تلتقي بمدمن من مدمني شاشات التلفزة العربية محلية أو فضائية وتسأله عن حاله مع ادمانه، حتى يقول لك ان أحب ما يذاع إلى قلبه وعقله هو الأفلام العربية، ثم يستطرد مبتسماً بأن تفضيله يذهب، على أية حال، الى أفلام "الأسود والأبيض". وبعد ذلك يعد أمامك الأفلام التي شاهدها أخيراً، وهو ربما يشاهد بعضها للمرة العاشرة، وربما يذكره البعض الآخر بالمرات الأولى التي شاهدها فيها على شاشة السينما قبل عقود. وحول هذا الأمر هناك ما يشبه الاجماع. القسم الأعظم من المتفرجين يحب تلك الأفلام ويطرب لها، ويحاول أن يرى الفيلم منها مرات ومرات. وحين يكون هناك اجماع يفترض الأمر وجود ظاهرة وبالتالي القدرة على تحليل هذه الظاهرة. والتحليل يفترض اسئلة أساسية مثل: هل سئم الناس الألوان؟ هل ان الأسود والأبيض يرتبط بحنين ما، شخصي على أية حال؟ هل هو الارتباط بزمن كان النجوم فيه نجوماً، والسينما سينما والعالم عالماً؟ ربما يكون الرد بالايجاب على هذه الأسئلة هو الرد الممكن والمنطقي. ومع هذا ثمة من يذهب في تحليل الأمور ناحية أكثر دنيوية ومنطقية، اذ يحاول أن يستشف من خلال هذا الاعجاب العام بأفلام الأسود والأبيض، أسباباً أقل وجدانية. ويرتبط هذا بما قد يحاول مدمن اليوم أن يضيفه اذا ما تبحرت معه، في الحديث أكثر، اذ يقول لك: "تلك الأفلام كنا نفهمها على الأقل... كنا ندرك ما يحدث فيها، ونتابع حواراتها المنطقية بشغف". وفي اعتقادنا ان بيت القصيد يكمن هنا، اذ في الوقت الذي تكاد فيه سينما اليوم، الملونة بالبديهة، تنقسم الى نوعين من الصعب العثور على ثالث لهما سينما نخبوية ترجح اللغة العالمة والابعاد السيكولوجية والمعاني الفكرية والاشكال الابداعية المبتكرة، وسينما أخرى شديدة الشعبية تحاول ألا تقول شيئاً على الاطلاق ثمة قطاعات عريضة من المتفرجين الذين يحبون السينما ولا يعثرون على ما يريدونه منها في أي من النوعين. لذلك نراهم يرتاحون الى أفلام كان أقل ما يقال فيها إنها تحقق بحرفية كبيرة وتقدم مواضيعها عبر لغة منطقية مدروسة بدقة، وعبر حوارات كان يؤتى، أيامها، بكتاب كبار ليكتبوها، كما كان يؤتى بخبراء متميزين في كتابة السيناريو ليكتبوا السيناريوهات لها. ومن المؤكد أن ذلك الاعتناء بكتابة السيناريو والحوار، باعتبارهما أساس الفيلم السينمائي، في زمن كان الاخراج لا يزال يعتبر فيه حرفة لا ابداعاً، كان هو السر الذي جعل لذلك النوع من السينما شعبيته وانتشاره وعلاقته بجمهور معين، لا هو نخبوي حتى يهتم بالابداع السينمائي الخالص، ولا هو جماهيري بالمعنى المبتذل للكلمة حتى يشاهد الفيلم ليتعاطى فيه عبر غرائزه وحدها. واليوم، ان سألت أهل السينما - وربما التلفزة ايضاً - سوف يجمعون على أن الغائب الأكبر عن ميدان هذين الفنين انما هو السيناريو... والحوار، تابعه الأمين غالباً، وشريكه المبدع أحياناً. ومن هنا نفترض بأن ما يمكننا أن نسميه اليوم ب"سحر الأسود والأبيض" انما هو في المقام الأول سحر السيناريو، يوم كان يكتبه فنانون وأدباء متخصصون من أمثال ابو السعود الابياري وسعد الدين وهبه ويوسف جوهر وحسين حلمي المهندس وعبدالعزيز سلام مبدع الحوارات اضافة الى ابداعه في كتابة اجمل اغنيات فريد الأطرش وحتى مصطفى محمود.... وعشرات غيرهم من مبدعين جعلوا الكتابة حرفتهم واختصاصهم، وربما كان الأخير الباقي منهم سيداً في ميدانه عبدالحي أديب، رغم أن أياً من أعماله الجديدة، لا يرقى الى بعض ابداعاته القديمة. والأنكى من هذا كله ان كتاباً للسيناريو معاصرين لنا من طينة رأفت الميهي وبشير الديك، تحولوا من بعد نجاحاتهم الأولى والكبرى الى مخرجين، فحرموا الكتابة للسينما من مواهب كان يمكنها لو واصلت طريقها أن تجعل اليوم ل"الملون" سحراً لا يقل عن سحر "الأسود والأبيض"، وأن تجعل ذلك الحنين إلى "الأفلام القديمة" مجرد ظاهرة عرضية وحسب.