يعتبر الجيلالي فرحاتي من ابرز المخرجين العرب، درس الاخراج السينمائي في باريس، وبعد تخرجه سنة 1973 انجز عدة افلام تسجيلية قبل ان يحقق فيلمه الروائي الاول "جرح في الحائط" الذي شارك به في مهرجان كان ضمن فقرة "اسبوع النقد" 1978، وفي سنة 1982 انجز فيلمه الثاني "عرائس من قصب" الذي اختير ايضاً للمشاركة في المهرجان نفسه في زاوية "اسبوعي المخرجين". ولم يظهر فيلمه الثالث "شاطئ الاطفال الضائعين" وهو افضل افلامه - الا سنة 1991. وقد اختير ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية ونال حفاوة خاصة في مهرجان السينما العربية في باريس حيث فاز بعدة جوائز اهمها جائزة احسن فيلم وجائزة احسن ممثلة لاخته سعاد فرحاتي. وفي سنة 1996 اخرج فيلمه الرابع "خيول الحظ" ونال عنه الجائزة الكبرى للمهرجان الرابع للسينما المغربية الذي اقيم بطنجة. في اغلب افلام تدع المشاهد يفترض ما يريده، ويجد لنفسه المكان الذي يرتضيه. من يشاهد فيلم "شاطئ الاطفال الضائعين" يشبه اللقطة فيه باللوحة التشكيلية هل توافق على هذا الاستنتاج؟ - السينما في نظري صورة قبل كل شيء، واي شخص يريد دخول عالم السينما يجب ان تكون له خبرة بما هو تشكيلي. طبعاً ليس كل مخرج رساماً، يستطيع أخذ الريشة والرسم بها. لكن يفترض فيه ان يمتلك ذلك الحس الذي يوجد عند الرسام. لا يجب ان نفرّق بين الفن التشكيلي والسينما فكل سينما جيدة لا بد ان تحتوي على مشاهد ولقطات تشكيلية، لان الذي لا يعبر عنه بالكلام توصله الصورة بجماليتها، وباعتباري ممثلاً درست التمثيل بمدرسة التمثيل في باريس، وارسم رغم اني لا اعرض لوحاتي، ومن قديم كانت عندي رغبة في نشر رواية، الا انني لا اقول ان على المخرج ان تتوافر لديه كل هذه المعطيات، لكن المهم في كل هذا هو انه عندما ترى عملاً لمخرج ما يجب ان يحسسك بنفس الشعور الذي يمتلكك وانت تقرأ رواية او تشاهد لوحة تشكيلية. ما اريد ان اصل اليه ان المخرج عندما يكون ملماً بما سبق وذكرت يستطيع الاحاطة بعمله والتمكن من جميع معطياته، ابتداءً من الكتابة، مروراً بالصورة وتكويناتها واختيار الالوان واللعب بها لايصال ما يريده منها، وصولاً الىه هو كممثل، كيف سيتحرك داخل اطار معين او يوجه ممثلين آخرين. الصورة والحوار في فيلم "شاطئ الاطفال الضائعين" اعطيت الاولوية للصورة على حساب التقليل من الحوار، والعكس نلاحظه في "خيول الحظ" لماذا هذا التحول؟ - انه ليس تحولاً، فانا لم اخدع نفسي لقطع الصلة بتصور سينمائي والمرور الى آخر، رؤيتي الفنية لم تتغير. الذي رأى "شاطئ الاطفال الضائعين" وشاهد بعده "خيول الحظ" سيكتشف بصمة لن تخطئها عين الناقد او المهتم، ان اهم شيء اريد الوصول اليه - طبعاً بعد الطموح الذي يراود اي مخرج سينمائي و هو المضي في صناعة افلام اكثر فأكثر - ان يشاهد المتفرج فيلمي دون رؤية اسمي عليه ويقول انه فيلم فلان. وبالرجوع الى ما ذكرته من تحول بين الفيليمين ف "شاطئ الاطفال الضائعين" تدور احداثه في البادية حيث ان هناك صمتاً وهدوءاً كان لا بد ان احترمهما، الصورة كانت معبرة عن نفسها، فلو انني اضفت حواراً زائداً لوقعت في فخ الاطناب والتكرار. وهذا كان سيفسد ما اردت ايصاله عبر الصورة. ان الحوار آنذاك كان سيكسر المعنى الذي تتضمنه الصورة. انني اطمح ان اصنع يوماً ما فيلماً بدون حوار، الصورة هي التي تتكلم، حتى الموسيقى ساحاول التقليل منها وتوظيفها في اقل حيز ممكن. هناك العديد من المخرجين يريدون انقاذ افلام ضعيفة من ناحية الصورة ومكوناتها بالإكثار من الموسيقى والحوار. فمثلاً شخصية رئيسية في فيلم تقول كلاماً له ثقله لكن اذا لم يحاول المخرج الحفاظ على التوازن بين الحوار والصورة يمكن ان يقع تناقض بين الملفوظ به والمصور، ومن الأحسن في نظري ان يعطي المخرج الاهمية للصورة اكثر مما يعطيها للحوار. كصورة في جريدة نقرأ تحتها "بدون تعليق" لان الصورة تتكلم عن نفسها بنفسها فان زدنا التعليق المكتوب فكأننا نضيف كلاماً على كلام. هذا مثال عن صورة بسيطة اما الصورة في السينما فيكون لها في كثير من الاحيان العديد من الابعاد لكونها تحمل خلفيات متعددة وتقبل قراءات مختلفة. فلو لاحظت فأنا احاول ما امكن ان اعطي المشاهد فرصة زمنية لكي يتمكن من استيعاب كل مكونات الصورة. في "خيول الحظ" ربما اختلف الامر شيئاً ما، فحين بدا لي ان المشاهد لن يكتشف بعض الاشياء من خلال الصورة فقط اضفتها في الحوار. خلاصة ما يمكن ان اقوله عن علاقة الصورة بالحوار في افلامي اني اريدها دائماً ان تكون في خدمة ما اود ايصاله للمتفرج، فلكل منهما دوره لكن طغيان الواحد على الآخر، خصوصاً الحوار الذي اذا كان زائداً افسد العمل كله. بين الشاعرية والواقعية - منذ مدة غير بعيدة كان بعض النقاد يصنفون الافلام المغربية الى قسمين: مدرسة او اتجاه فني في الشمال، يضمك صحبة محمد عبدالرحمان التازي وفريدة بليزيد واتجاه الوسط "الواقعي" الذي يضم مجموعة من المخرجين اهمهم عبدالقادر لقطع - سعد الشريبي وحكيم نوري. نلاحظ الآن ان هذا التصنيف بات متجاوزاً وقد يرجع الى تنازلك شيئاً ما انت وعبد الرحمان التازي عن اتجاهكما الفني، الشيء الذي جعلكما اقرب الى الاتجاه الآخر. فما هو رأيك؟ - ان فيلم "خيول الحظ" له طابع واقعي اكثر من افلامي السابقة، وفيلم "شاطئ الاطفال الضائعين" اكثر شاعرية منه رغم وجود طابع الواقعية فيه ايضاً… لكنني لم اقترب من الاتجاه الاخر كما قلت، ففي "خيول الحظ" رغم ان الفيلم - كما بدا لأغلب النقاد - يعالج قضية الهجرة السرية الى اوروبا الا انني لم اظهر شخوصي يعبرون، لم اصور جثث المهاجرين التي يرمي بها البحر لم اتطرق الى العنف الذي يتعرضون له. لماذا غيبت كل هذه الاشياء؟ لانني أردت ازالة ذلك الطابع الواقعي المباشر. ان التيمة الاساسية في "خيول الحظ" والتي لم يكتشفها المهتمون والجمهور - ليست مسألة العبور الى الضفة الاخرى من المتوسط، بل الحلم بمعناه الواسع. كان من الممكن لي ان اختار موضوعاً آخر لايصال هذه التيمة. واظن انك لو تمعنت في شخصية الاعمى الذي تعتبر اوروبا بالنسبة له مكاناً سوف يمكنه من استرجاع بصره لأدركت مدى كبر حلم هذه الشخصية. ان اوروبا بلد المعجزات بالنسبة لكل شخصيات فيلمي. وبالرجوع لمسألة الهجرة كان بإمكاني ان ابين كلّ ما ذكرته وربما كان الفيلم حقق نجاحاً اكبر، لكن كل هذه الاحداث نراها عبر شاشات التلفزة او نقرأ عنها في الصحف يومياً. وباختياري هذا النهج حاولت عدم السقوط في معالجة ميلودرامية قد لا تكون في صالح فيلمي ولا جمهوري. نهايات مفتوحة نهاية افلامك تكون في الغالب مفتوحة. فحتى فيلمك الاخير "خيول الحظ" رغم السمة "الواقعية" التي تطبعه، فانك تمسكت فيه بهذه التقنية مصير الشخصيتين الرئيسيتين ظل في النهاية مجهولاً للمشاهد. هل استعمالك للنهاية المفتوحة راجع لبحثك عن مشاهد غير سلبي يشاركك ويتفاعل مع اعمالك؟ ان كان هذا ما ترجوه هل تظن ان المتفرج المدمن على مسلسلات التلفزيون قادر على متابعتك وفهم ما ترمي اليه؟ - اذا تركت تفسي لهذه الفكرة فسوف اتوقف عن الاخراج انني لن اصنع ابدا افلاماً من اجل الفرجة فقط بل اضافة الى هذه الاخيرة، التي لا بد ان تتوفر في اي عمل سينمائي ناجح، من واجبي ان اقدم شيئا يفيد المشاهد ويجعله عند انتهاء الفيلم وكأنه قرأ كتاباً. اما لماذا لا اعطي نهاية حاسمة في افلامي؟ او لا اكتب كلمة نهاية؟ فلأن اي موضوع اختار معالجته يحتمل عدة حلول. اضافة الى انني لم اتناول سوى جانب منه، ربما هو جزء مئوي. فلماذا افرض نهاية محددة او رأيا على المشاهد. بل اعتبر انه من واجبي ان أدع هذا الاخير - بعد ان أطرح المشكل امامه - يعمل فكره. اني ابحث عن مشاهد ايجابي يشاركني ويتفاعل معي. مهمتي طرح الاسئلة وليس ايجاد الحلول. الموجة الجديدة ما رأيك في تجارب "الموجة الجديدة" من السينمائيين المغاربة الشباب، والذين اكتشفناهم في المهرجان الرابع للسينما المغربية الذي اقيم بطنجة وفزت فيه بالجائزة الكبرى هل في رأيك يمكن لهم ان يعطوا دما جديدا للسينما المغربية، رغم انهم يعيشون في بيئة مختلفة ومنهم من قضى حياته كلها بالمهجر؟ - اولا انا اتحفظ على مصطلح "الموجة الجديدة". اذا تمّ تداول هذا المصطلح سوف يقول البعض ان سينمانا اصبحت قديمة. ان شاباً في العشرينات سوف تكون له هموم وقضايا اخرى غير تلك التي تشغل بال مخرج في الاربعينات او الخمسينات. البيئة التي نشأ فيها هؤلاء المخرجون الشباب الغرب، تجعل طريقة مقاربتهم للمواضيع مختلفة. اغلبهم يتمتع بصفة تعدد الجنسية، الشيء الذي يمكنهم من تلقي دعم مادي لا يمكننا الحصول عليه. نشأتهم في وسط احترافي تعطيهم ثقة اكبر في انفسهم وفيما يصنعونه. كل هاته العوامل تلعب لصالحهم، لكن رغم كل هذا يمكن لي ان اشبه اعمالهم بالأكلة الخفيفة او الجاهزة مقارنة بأعمالنا والتي نطهوها على نار هادئة. هذا لا ينفي ان هناك تجارب مهمة داخل هذا التيار، فقد رأيت افلاماً قصيرة لشباب اعجبتني كثيرا. هناك طبعاً رؤيا مختلفة وتقنيات اخرى، سوف تعطي نفساً آخر للسينما المغربية. الشيء الذي أراه ايجابياً على العموم، انهم سوف يمكنون السينما المغربية من ان تريكم تجارب مختلفة. فبعد ان كنا نرى ثلاثة او اربعة افلام متشابهة شيئاً ما، سوف يصبح لدينا عشرة افلام مختلفة.