حتى وإن لم يتمكن فيلم «الرحلة الى القمر» من اجتذاب ما كان متوقعاً له ان يجتذب من المتفرجين حين عرض خلال الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، فإنه كان بالتأكيد واحداً من الأحداث الأساسية في الدورة. مع انه من المعروف ان ما من سينمائي او هاوي سينما في العالم يمكنه ان يزعم اهتماماً حقيقياً بالفن السابع من دون ان يكون شاهد هذا الفيلم مرات ومرات عدة في حياته. وذلك بكل بساطة لأن هذا الفيلم الذي حقّق قبل أكثر من مئة عام لا يعتبر فقط الفيلم الأول في عالم سينما الخيال العلمي، بل هو واحد من أول الأفلام الروائية على الإطلاق في تاريخ هذا الفن. غير ان هذا كلّه لم يستطع تبرير ولا تفسير استنكاف كثر من محبي السينما عن مشاهدة الفيلم في عرضه «الكانيّ» وذلك لسبب أساسيّ: الفيلم الذي عرض في كان في عرض عالميّ أول كان «شيئاً آخر تماماً» غير الشريط المعروف تاريخياً، او على الأقل الشريط الذي يعرفه اهل السينما، فالفيلم المعروف فيلم بالأسود والأبيض ويعرض عادة بنسخ مشوّهة قديمة حتى ولو كانت حديثة الطباعة. اما ما عرض في «كان» ففيلم ملون اضيفت اليه موسيقى ساحرة. والحال ان كثراً كانوا في الأصل يعتقدون ان الألوان التي وسمت النسخة الجديدة، انما اضيفت الى الفيلم الأصلي. لكن هذا الاعتقاد خاطئ: النسخة الجديدة لم تفعل اكثر من «اعادة» الألوان الى شريط افتقدها بعد حين من انجاز الفيلم وعرضه للمرة الأولى اوائل القرن العشرين. وقد اتى هذا الإنجاز اشبه بمعجزة جديدة من معجزات التقدم التقني، حيث ان متفرجي الفيلم في الدورة الأخيرة من «كان» شاهدوه بأقصى ما يمكن من دنوّ الى صيغته الأصلية التي انجزها جورج ميلياس حين حقق فيلمه «المجنون» هذا فيما كان الفن السينمائي لا يزال في أوّل بدائيته كما سنرى. لقد لوّن ميلياس ومساعدوه شريط الفيلم صورة صورة وباليد، ما استغرقهم العمل فيه شهوراً لتمّحي الألوان بعد ذلك من دون ان تكون ثمة - بالطبع - نسخ أخرى ملونة من الفيلم. اليوم صار هذا متوافراً وبالبهاء القديم الذي رغبه صاحب الفيلم متحدياً التعب وشحّ الإمكانات وردع اصحابه له، وكلّ المستحيلات التي تطرأ حين يقوم مبدع مجنون ما بتجاوز كل ما هو ممكن وكل ما هو متعارف عليه. ومن البديهي ان هذه الحياة الجديدة لفيلم له هذه الأهمية التاريخية والفنية تستدعي عودة هنا إليه. نعرف ان «الخطوة الصغيرة بالنسبة الى الإنسان والكبيرة التاريخية بالنسبة الى الإنسانية»، تلك الخطوة التي سحرت مئات الملايين في ليلة حارة من ليالي صيف عام 1969: خطوة نيل آرمسترونغ فوق سطح القمر، كانت في الحقيقة، خطوة يحلم بها الإنسان منذ زمن بعيد. فهو دائماً ما تطلع صوب الكوكب الأقرب الى الأرض وتساءل: متى أصل إليه؟ في الأدب، بواسطة الكلام المجرد، وصل كثيرون، من كبلر الى ه.ج. ويلز الى جول فيرن. وفي الشعر وصل إليه كثيرون أيضاً. لكن الإنسان ظل يتوق الى أن يرى: أن يرى سطح الكوكب الجار، عن كثب. وهذا الأمر لئن كان تحقق بفضل الإنجازات العلمية - الفضائية الكبيرة التي بدأ السوفيات الكشف عنها أواسط سنوات الخمسين من القرن الفائت، وأوصلها الأميركيون الى الذروة أواخر سنوات ستيناته، هذا الأمر كانت السينما أول من «حققه». بل كان من أول ما حققته السينما نفسها حين تبيّن لصانعيها ذات يوم انها يمكن ألا تكتفي بتصوير ما تراه الكاميرا امامها، بل تتجاوز ذلك لتصور ما يمكن الفنان ان يحلم به. وكان من المنطقي ان يكون الوصول الى القمر من أول وأهم ما يحلم به الإنسان. حدث ذلك في عام 1902، أي بعد أكثر قليلاً من نصف عقد منذ عرض الأخوان لوميير، أول الأفلام التي صوراها. وكانت أفلاماً تمثل الحياة الواقعية. ومن حقق حلم القمر، سينمائياً، وقبل غيره، كان هو، في دوره، فرنسياً مثل الأخوين لوميير. وكان يعرفهما، وسيقال لاحقاً انه كان من أوائل المتفرجين المتحمسين الذين ارتادوا «المقهى الكبير» حيث عرضت أول الأفلام. أما الفيلم نفسه، والذي «حقق» ميلياس فيه توق الإنسان الى زيارة القمر، فكان عنوانه بالتحديد «الرحلة الى القمر». وكان أول فيلم في تاريخ السينما يلجأ فيه صانعه، وبوفرة، الى استخدام الخدع البصرية. اقتبس جورج ميلياس فيلمه «الرحلة الى القمر» عن روايتين مشهورتين لويلز (الإنكليزي) وفيرن (الفرنسي)، لكنه إذ اقتبس الفكرة والأحداث الرئيسة تعمّد ان يبدل المضمون، وأيضاً فلسفة العمل ككل. ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة ان يجعل ميلياس أبطاله، في نهاية الفيلم، يفضلون جحيم الحياة الدنيا، على نعيم القمر حتى ولو كان فردوسياً. تدور حكاية الفيلم حول ناد للمهتمين بشؤون الفضاء يديره البروفسور باربن فويس. وهذا النادي الذي تجتمع إدارته في شكل منتظم، يقرر ذات يوم وفي لحظة سأم، ان ينضم الى عدد من اعضائه رحلة تتجول بهم بين الكواكب. ولكن كيف الوصول الى هناك؟ ببساطة، يوضع الراغبون في السفر في فوهة مدفع عملاق، ويطلقون كالقذيفة نحو القمر، وهم داخل قمرة غريبة. وبالفعل تبدو الفكر صائبة وتنطلق القمرة/ القذيفة، لتصل الى سطح القمر، وتحط تحديداً في واحدة من عينيه (إذ، حتى ذلك الحين، كان للقمر منظوراً إليه انطلاقاً من الأرض، سمات وجه له عينان وأنف وفم، ويبدو مبتسماً في معظم الأحيان). يصل أصحابنا الى سطح القمر فيكتشفون فيه ودياناً وجبالاً، وروائع لا تحصى، ويكتشفون أيضاً أنه عامر بالحسان ومن بينهن راقصات فاتنات، إضافة الى الفطر الذي ينمو بسرعة، وإلى الأطايب والنجوم وكل ما يمكن ان يفتن اعضاء النادي السئمين عادة. وهكذا ينخرط الرحالة في حياة الكوكب المشع، فرحين أولاً، غير أنهم بعد ذلك، وبعد فرصة اللقاء الأول، يكتشفون ان المكان معاد لهم، وأنه لا يرحب بوجودهم على الإطلاق. ومن هنا، وبعد تردد وسجال (صامت، حيث ان السينما كانت لا تزال، بعد، صامتة) يقررون ان يعودوا من حيث أتوا، لأن الأرض أحن عليهم وأكثر ترحيباً بهم، فيعودون ليجدوا الناس في هذه الحياة الدنيا ينتظرون عودتهم، انتظارهم عودة الأبطال. وينتهي الفيلم على ذلك. كل هذا يحدث في فترة من الزمن قصيرة نسبياً، لأن طول «الرحلة الى القمر» لا يتجاوز ال280 متراً. والفيلم يتألف في الأصل من ثلاثين مشهداً، فقد اثنان منها الى الأبد. لكن الباقي كان كافياً لإدخال هذا الفيلم، تاريخ السينما من الباب العريض، ولاعتباره أول فيلم خيال علمي في سينما لن تتوقف أفلام الخيال العلمي عن ان تكون وجبتها الأساسية على الدوام. ولا بد من ان نشير هنا الى أن جورج ميلياس حقق الفيلم بنفسه وكتب له السيناريو ومثل الدور الأول فيه. وكان ذلك في طبيعته، وفي طبيعة السينما في تلك الأزمنة البطولية. حين حقق ميلياس هذا الفيلم، مصوراً معظم مشاهده في محترفه الذي أقامه في ضاحية مونتروي - سوربوا الباريسية، كان في الأربعين من عمره. صحيح ان السينما كانت جديدة عليه في ذلك الحين، لكن الفنون الخيالية وفنون الخداع كانت من اختصاصه. فهو كان معروفاً بتعدد مواهبه وكان يعمل مشعوذاً وساحراً، وكان هو من ورث الساحر الشهير هوديني واشترى مسرحه. وكان معروفاً بكونه خبيراً في السحر والألعاب النارية. ومن أوائل الذين تلمسوا إمكانات الكهرباء والمغناطيس في تحقيق الخدع. من هنا حين اكتشف ابتكار الأخوين لوميير، كان من أوائل الذين أدركوا ما ينطوي عليه فن السينما من إمكانات. وأدرك كذلك ان في امكانه ان يحدث انقلاباً حقيقياً في هذا الفن الذي كان الأخوان لوميير جعلاه فن توثيق لا أكثر. وهكذا راح يحقق الأفلام القصيرة، ودائماً في صدد مواضيع خيالية اكثر يحمل، كما يقول الباحث كلود بايله، رحلة ما: رحلة في الجغرافيا، أو في الفضاء، أو في البحار، أو حتى رحلة في المستحيل. وهو لكي يجعل رحلاته السينمائية شيقة وممتعة ملأها بالخدع وضروب السحر مبتكراً أساليب تقنية استخدمها مئات السينمائيين من بعده. وهكذا، كما يقول بايله، إذا كان الأخوان لوميير يعتبران «غوتنبرغ السينما» (نسبة الى مخترع الطباعة)، فإن جورج ميلياس كان فاوست السينما على أقل تقدير. عاش جورج ميلياس بين عامي 1861 و1938. وهو لئن كان خاض السينما باكراً، وعرف مجداً، لا يزال حتى اليوم كبيراً، فإنه لم يستمتع شخصياً بذلك المجد طويلاً. فميلياس بعد ابتكاراته الأولى، وإذ كفت السينما عن ان تكون عملاً حرفياً يدوياً، ووقعت تحت سيطرة الشركات الكبرى، لم يعد قادراً على ان يجد لنفسه مكاناً فيها. وهكذا تحوّل في شيخوخته الى رجل محطم بائس، وصار مجرد بائع لعب فاشل في محطة مونبارناس الباريسية. اما عشرات الأفلام التي حققها والتي أسست لفن سينمائي رائع، فقد ضاع معظمها. ومن حسن الحظ أن «الرحلة الى القمر» لم يضع بل ها هي حياة جديدة تكتب له اليوم انطلاقاً من إعادة ترميمه ومن إعادة ألوانه الأصلية إليه.