إذا سارت الأمور على ما يرام، وتم تجاوز العقبات التي تضعها اسرائيل وحل العقد التي ما تزال تصر على استمرارها فإن السلام على المسارين السوري واللبناني، وربما في المنطقة كلها يكون قد تأخر أكثر من 3 سنوات من دون مبرر سوى المكابرة الإسرائيلية والتعنت الصهيوني الذي لم ينته فصولاً بعد، وهذا يستدعي حذراً عربياً ويقظة دائمة واستعداداً لكل الاحتمالات، لأن حرب السلام أكثر خطراً وشراسة من الحروب العسكرية، واستحقاقاتها أشد تأثيراً بالتأكيد. فقبل ثلاث سنوات كتبت مقالاً في هذا الحيز من "الحياة" عنوانه "لا سلام قبل عام 2000" وذلك بعد أن نجح اليمين الصهيوني المتطرف في قلب مائدة المفاوضات و"اغتيال" ما تم تحقيقه من تقدم مع اسحق رابين رئيس الوزراء السابق الذي كان وصل الى مرحلة الاقتناع بأن قرار السلام أمر لا مفر منه. فكل عاقل يدرك انه رغم كل ما يقال عن نفوذ اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة والعالم، فإن قراراً دولياً، وأميركياً بالذات، اتخذ بعد حرب الخليج بإحلال السلام في المنطقة ووضع حد للنزاع العربي الإسرائيلي الذي دام أكثر من نصف قرن وبات يهدد المصالح الحيوية الأميركية ويثير عواصف ومشاكل وينذر بأزمات وأحداث عنف، لا سيما بعد انتشار موجات التطرف في المنطقة. هذا القرار الدولي، والأميركي بالذات، اتخذ من منطلقات واقعية بحتة بعيداً عن العواطف تجاه هذا الطرف أو ذاك، لأن عدم الاستقرار في المنطقة لا بد من أن يؤدي الى تهديد المصالح الحيوية بعد انتهاء الحرب الباردة وهيمنة الولاياتالمتحدة على العالم وحدوث توافق على "إغلاق" بؤر التوتر في العالم وفي مقدمتها الشرق الأوسط. وقد أدرك اسحق شامير بحسه السياسي هذا الواقع فقبل على مضض التوجه الى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، رغم أنه كان يخفي خطة لإطالة أمد المفاوضات واستخدام الجنرال وقت لعقد أو عقدين لعل متغيرات تقع فتستغل اسرائيل الفرصة لتعزيز موقفها وتكريس سياستها التوسعية. ولكن شامير سقط ليأتي بعده رابين المعروف بعناده، لكنه رضخ، بعد أن عاند كثيراً وحاول الهروب من استحقاقات السلام، ووصلت المفاوضات الى نقطة متقدمة كان يمكن أن تنتهي الى اعلان الاتفاق لولا عملية الاغتيال وصعود نتانياهو وليكوده المتطرف الى الحكم... والباقي معروف. وهكذا ضاعت 3 سنوات من عمر السلام على حساب شعوب المنطقة، ولكن بعد سقوط نتانياهو وقدوم ايهود باراك على رأس حكومة العمل الإئتلافية عادت الأمور الى النقطة التي توقفت عندها المفاوضات بعد مناورات اسرائيلية وممارسات "الخبث الغامض" الذي يتميز به رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد. ولكن ماذا يمنع توقيع الاتفاق النهائي بعد أن اتضحت الأمور، ورضخت اسرائيل لمنطق الشرعية الدولية، ووقفت الولاياتالمتحدة لأول مرة منذ مؤتمر مدريد، موقفاً إيجابياً لعبت فيه دور الشريك الكامل الذي كان مطلوباً منذ زمن بعيد؟ خصوصاً بعد صياغة الوثيقة "الكلينتونية" التي نشرت نصها "الحياة". الحدود والأمن والتطبيع والمياه والسلام الشامل عناوين يمكن القول أنها محسومة بنسبة 80 في المئة. بعد أن استؤنفت المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها ثم وضع اعلان المبادىء على محك امتحان التنفيذ وامتحان النوايا قبل كل شيء لأن العبرة في النفوس قبل النصوص. وسورية أظهرت نواياها الحسنة وحسمت أمورها بعد أن نجحت في تحقيق مرادها عندما تمسكت بمواقفها المبدئية ورفضت التنازل عنها. فبالنسبة للأمن والدموع المذروفة عليه والمطالب الدائمة بالضمانات الأمنية وإقامة محطات انذار مبكر يعرف الإسرائيليون قبل غيرهم أنه مجرد ذريعة محشوة بالأكاذيب يشارك فيها الإعلام الأجنبي... وينجر اليها بعض الإعلام العربي. فمن الذي يحتاج الى الضمانات الأمنية؟ ومن هو الأقوى والأشد والأحدث تسليحاً؟ ومن الذي يملك الأسلحة النووية والصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية وأسلحة كيماوية وجرثومية؟ ومن الذي بادر في الاعتداء في كل الحروب والعمليات الحربية منذ نصف قرن حتى الآن؟ ومن الذي احتل الأرض وأقام المستعمرات الاستيطانية عليها وأعلن ضمها وعمل على تهويدها؟ ومن هجّر السكان الأصليين وشرد الملايين وارتكب المجازر؟ العرب أم اسرائيل؟ ثم ان الولاياتالمتحدة أعلنت مراراً وتكراراً، وكررت تعهدها الشهر الماضي، بضمان أمن اسرائيل الكامل. والأكثر من ذلك أن باراك نفسه أعلن عدة مرات آخرها في حديث شامل نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية في أيلول سبتمبر الماضي ان اسرائيل هي القوة الرئيسية في المنطقة. وقال بالحرف الواحد: "ان اسرائيل ليست قوة هامشية... نحن القوة الرئيسية في هذه المنطقة. نحن أقوى قوة في المنطقة"! فلماذا هذه المماحكة إذاً، ولماذا استمرار هذه المهزلة، والضحك على ذقوننا وخداع العالم بأن اسرائيل خائفة من سورية أو من لبنان مع أن الكل يعرف الحقيقة؟ بل أن هناك عدة صيغ موضوعة لحل أي اشكال وسد أي ثغرة في هذا المجال لتكون جزءاً من الاتفاق الشامل الذي يتناول النقاط الأخرى التي تندرج في اطار "متطلبات السلام ومستلزماته". ولا شك أن باراك مطلع على ما تم الاتفاق عليه في عهد رابين وخلفه شيمون بيريز، بل أنه من المؤكد قد اطلع على ما قدمه نتانياهو سراً رغم تظاهره بالتصلب ورفض "وديعة رابين" المخبأة في أدراج الرئيس الأميركي بيل كلينتون. فقد ذكر دانييل بايبيس الخبير في شؤون الشرق الأوسط في مقال نشرته المجلة الأميركية "نيو ريبابليك" استند فيه الى شهادات لمسؤولين أميركيين وسوريين واسرائيليين أن نتانياهو وافق على انسحاب اسرائيل الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 في غضون 16 شهراً الى سنتين وتسليم محطة الإنذار المبكر للفرنسيين والأميركيين، بعد أن كان قد اقترح أن يتم الانسحاب خلال 15 عاماً. ونسبت صحيفة "معاريف" 18/6/99 الى بايبيس قوله أن تنازلات نتانياهو تجاوزت تنازلات رابين وبيريز بسبب تطلعه الى رئاسة ثانية للحكومة الإسرائيلية، ولكن المعارضة الشديدة لوزير دفاعه اسحق موردخاي أحبطت خطته وجاء اريل شارون وزير الخارجية آنذاك ليفرض وقف الاتصالات. بل أن "يديعوت أحرونوت" اليكس فيشمان - 15/2/99 ذهبت أبعد من ذلك عندما نشرت ما وصفته بالنص الكامل لوثيقة مبعوث نتانياهو رون لاودر في آب أغسطس 1998 وفيها بند أول يتضمن تعهد اسرائيل بالانسحاب من الأراضي السورية التي تم الاستيلاء عليها عام 1967 وفقاً لقراري مجلس الأمن 242 و383 اللذين يعترفان بحق الدولتين بحدود آمنة ومعترف بها ووفقاً لصيغة الأرض مقابل السلام، وسيتم الانسحاب على ثلاث مراحل لمدة ... ويستكمل التطبيع عند استكمال الانسحاب... ويتم تبادل السفراء مع بدء الانسحاب. وبالنسبة للبنان تنص الوثيقة على اجراء مفاوضات بصورة متزامنة بين سورية واسرائيل وبين لبنان واسرائيل... وهذا التزامن يبقى أيضاً في مرحلة التوقيع على اتفاقات السلام وهو ما شدد عليه الوزير الشرع في بيروت. وتنص البنود الأخرى على قضايا أمنية ووقف النشاطات والتهديدات بالعنف ومنع انطلاق أي عمليات حربية من الأراضي اللبنانية وعدم التهديد بالهجوم المباغت كهدف للترتيبات الأمنية التي تقترح تحديد 3 مناطق مجردة على جانبي الحدود منطقة منزوعة من السلاح، منطقة معزولة من القوات والتسلح، ومنطقة من الممكن أن ترابط بها قوات غير هجومية، وتنص أيضاً على تسليم مراكز الإنذار المبكر لقوات دولية قوامها قوات فرنسية وأميركية، مع تحديد خطوات التطبيع والعلاقات الاقتصادية وحل موضوع المياه والعمل على احلال سلام شامل في المنطقة. إذاً فإن كل شيء يبدو واضحاً فلماذا هذه المماطلة الإسرائيلية؟ لا شك أن مفاوضات واشنطن وشيبردزتاون كان الهدف منها تكريس كل ما تم بحثه والاتفاق عليه في السابق و"تقنينه" بحيث يصبح شرعياً وقانونياً ولا يجوز لإسرائيل أن تنكره بعد اليوم كما حصل مع "وديعة رابين" وهذا بحد ذاته انجاز مهم يجب أخذه في الحسبان بغض النظر عن النتائج النهائية. ولكن هل يعني هذا أن طريق السلام أصبح ممهداً ومفروشاً بالورود والرياحين؟ لقد عودتنا اسرائيل على الغدر والمماطلة، ونقض الاتفاقات الموقعة واللعب على الكلمات، ولهذا لا بد من الحذر والاستعداد لكل الاحتمالات، بل أن طبيعة الشرق الأوسط وخصوصية الصراع العربي الإسرائيلي لا بد إن تدفعانا لانتظار مفاجأة ما أو التخوف من حدث قد يغير الأحوال ويقلب الأمور رأساً على عقب كما حدث يوم اغتيال رابين. ولهذا أيضاً علينا أن نطرح سؤالاً بريئاً وهو ماذا أعد العرب لمرحلة السلام... وكيف سيتعاملون مع استحقاقاته ويواجهوا أخطاره وهي كثيرة، لأن حرب السلام مع اسرائيل، كما ذكرت في البداية أشد شراسة وأهمية من الحروب العسكرية؟! بل أن استعداد العرب يجب أن يكون جاهزاً في الحالتين: حالة استكمال مفاوضات سورية ولبنان مع اسرائيل في واشنطن، ونجاحها في تحقيق ما يصبو اليه البلدان من انسحاب كامل من أراضيهما، أو في حال فشلها أو توقفها لسبب من الأسباب، وهي كثيرة!! لا بد أولاً من بناء الوحدة الوطنية واعادة ترتيب البيت وحل المشاكل العالقة ولا سيما المشاكل الاقتصادية والتصدي لأية محاولة للعب على الحبال وفك وحدة المسارين. كما أنه لا بد من توفير دعم عربي كامل وقوي للموقف التفاوضي اللبناني والسوري، سواء عقدت قمة عربية لهذا الغرض أم لم تعقد، مع الأخذ بالاعتبار احباط المخطط الإسرائيلي للإيقاع بين سورية والفلسطينيين والتلويح بتجميد المسار الفلسطيني. ولا بد أيضاً من تقوية العلاقات مع الدول الأجنبية لحشد الرأي العام الى جانب العرب ولا سيما في الدول الإسلامية والأفريقية والآسيوية مع التركيز على استمرار دعم الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين للموقف العربي. دون أن نغفل الجانب الإعلامي، ونحن نعرف أن هذا العصر هو عصر الإعلام بلا منازع، وشهدنا أخيراً كيف ركز الإعلام العالمي، ومعه بعض الإعلام العربي، على مزاعم "محنة" المستعمرين الصهاينة في الجولان، ولم يلتفتوا الى محنة أكثر من نصف مواطن سوري في الجولان، ومأساة أهالي الجنوب والبقاع الغربي في لبنان. كما تابعنا بدهشة الأرقام الفلكية للمبالغ التي طلبتها اسرائيل لقاء السلام مع أن العرب هم أصحاب حق التعويض لا المحتل لأراضيهم. وتبقى كلمة أخيرة وهي أن كل ما تحقق في واشنطن يمكن أن يجمد إذ لم يرغم الجانب الإسرائيلي على سرعة التنفيذ وإحباط أية محاولة منه للمناورة والمماطلة، لأن الوقت من ذهب، وأي تأخير الى أيلول سبتمبر يعني أن السلام سيتجمد الى فترة طويلة ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. فالرئيس كلينتون يريد أن ينهي عهده بجائزة نوبل للسلام وبإنجاز تاريخي عجز عنه أكثر رؤساء الولاياتالمتحدة. وهو يدرك أن السلام بين سورية واسرائيل يعني بدء مرحلة جديدة، وانتهاء مرحلة، ان لم يكن يشكل بداية قوية لمرحلة السلام الشامل في المنطقة. وهذا الانجاز سيدخله أمجاد التاريخ من بوابتها العريضة. انها فرصة تاريخية ان ضاعت دخلت المنطقة كلها في متاهات لا يعرف إلا الله عز وجل كيف ستنتهي ومتى؟! فلننتظر نتائج الجولة الثالثة وبعدها لكل حادث حديث. * كاتب وصحافي عربي