منذ عقد ونيف، يسود الاعتقاد وسط الكاتبات والكتّاب المهتمين بمسألة المرأة بأننا تراجعنا في مناقشة هذه المسألة، وبأننا عُدنا، بهذا التراجع، إلى مناخات النهضة ومقولاتها، وأحياناً إلى "ما قبلها، ويرافق هذا الاعتقاد عادة أسف ومرارة، يُنسب مسؤوليتهما إلى تيار الاسلام السياسي وحده، فيرى أصحابه في أيام النهضة "المجيدة" ضآلتهم المنشودة. وهم لا يتنبهون، في خضم مقارعتهم لفكر الاسلام السياسي ووصفه بال"ماضوية"، بأن الازمنة التي ينتسب إليها شقاً في عالمهم الذهني، تغيرت بدورها، وبأن توقفهم أمام عصر النهضة بصفته حامل الحجج الوجيهة، ومرجعاً صالحاً تُغرف منه النصوص اللازمة لمقارعة فكر الإسلام السياسي... هو تعامل غير تاريخي مع عصر النهضة. ومن المفارقات البيّنة أن اللاتاريخية هذه، التي تَسِم مواقف ونصوص الكتاب والكاتبات المهتمين بمسألة المرأة قرنت إحباطها بإيمان عميق بواحدة من مرتكزات الحداثة: وهي فكرة ترى بديهياً أن تتطور المجتمعات البشرية وفق خط مستقيم ثابت ومتصاعد. وهي فكرة، كما سوف نرى، كان إيمان مفكري النهضة بها أرسخ مما هم عليه الآن، الناس والكتّاب. إذاً يحتاج الأمر الى شيء من التفكيك والفصل بين طبقات مكدسة من الأفكار والمفاهيم والتصورات، تتداخل فيها الأزمنة المختلفة، بلا انسجام ولا وفاق. وأرى أن يكون كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" مادة لهذين التفكيك، والفصل فرصة لا بأس بها: أولاً لأن المئة عام التي مرت على صدوره شابتهم عقود في الانعطافات الحادة والمتقاربة، بما سهّل المقارنة بينها. وثانياً لأن كتاب "تحرير المرأة" ينتمي الى صنف معين من الكتابات. هو ذاك الذي يتناسب عدد قرائه عكساً مع عدد المتكلمين عنه. أي أنه مثل "الآيات الشيطانية" تقريباً، ذائع الصيت وقليل التعرض للمطالعة. إذاً، تحاول هذه المداخلة الإجابة على السؤال التالي: هل حقاً عُدنا الى عصر النهضة وسط سجالاتنا المتعلقة بمسألة المرأة؟ أم أن بعض الأشياء العائدة الى ذاك العصر تبددت، فيما بقيت أشياء أخرى؟ ينتمي قاسم أمين الى عصر ساده تفاؤل مفكريه بالمستقبل. يُعلن عن هذا التفاؤل بلا خشية قائلاً "إني لا أجد في ماضيها ماضي مصر عصرا انتشرت فيه المعارف وظهر فيه الشعور بالروابط والوطنية، وانبث الأمن والنظام في أنحاء البلاد، وتهيأت الأسباب للتقدم مثل العصر الذي نعيش فيه الآن" 118. وهو يعبر عن إقدامه على المستقبل بالتساؤل: "هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدم أو نريد أن نتأخر؟" 191. من هنا يجد ما يعاقب عليه المصريين "لا يليق بمعارفهم ولا بعزائمهم أن يسجلوا على انفسهم وعلى أمتهم العجز واليأس والقنوط". ويعود تفاؤل قاسم أمين وابناء عصره الى الاعتقاد بوجود "سُبُل للنجاة" من "الاضمحلال والفناء" بشرط اعتماد "القوة المعنوية وهي العقل والعلم" 120. ويرتكز إيمان قاسم أمين بعصره وبالمستقبل واعتقاده بوجود حلول لا تحتاج لسوى التبني، الى نموذج محدد هو الغرب الأوروبي، فهو يقول بهذا الصدد "طرقت ديارنا حوادث وأدخلنا ضرب في الاختلاط مع أمم كثيرة من الغربيين وحّدت علائق بيننا وبينهم وعلمتنا أنهم أرقى منا وأشد قوة" 106. ثم يربط "التمدّن" الغربي بتقدم أوضاع النساء فيه، فيصف الارتقاء والانحطاط بالقول "بالجملة فإن ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل مختلفة متنوعة أهمها ارتقاء المرأة. وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل متنوعة أيضاً في أهمها انحطاط المرأة. فهذا الانحطاط في مرتبة المرأة عندنا هو أهم مانع يقف في سبيلنا ليصدنا عن التقدم إلى ما فيه صلاحنا" 137. فالتقدم الغربي بلا ريب قائم على المرأة "إن ما أقامه التمدن الحديث من البناء الشامخ. وما وضعه في الاصول الثابتة إنما شُيّد على حجر أساسي واحد هو المرأة" 113، تلك هي حالة النساء الغربيات، ف"كل مُطلع على حركة النساء الغربيات وأعمالهن لا يشكك في أنهن يأتين من الأعمال العظيمة ما لا قوام للمدنية بدونه" 138. وهذا الترابط الحميم بين "التمدن" و"ارتقاء" أوضاع النساء صنع درجات محددة في المدنية تلاحظها لدى النساء الغربيات أنفسهن: "فالمرأة الاميركية في صف أول ثم تتلوها الإنكليزية وتأتي بعدها الألمانية وتليها الفرنساوية ثم النمساوية والتليانية ثم الروسية" 15. من هنا، عندما يعالج قاسم أمين اوضاع النساء في مصر، يتقدم باقتراحات ووجهات نظر تحتل فيها المرأة الغربية مكانة النموذج المثال، فبخصوص تربية النساء وتعليمهمن مثلاً، يرى قاسم أمين شواهد كثيرة "يعلمها كل مطلع على أحوال الأوروبيين وكلها تدل على أن تربية المرأة أمر لا يُستغنى عنه" 55. هذا عن طغيان النموذج الأوروبي في ضمير قاسم أمين، واستحواذه على مكانة المصدر لحلول يتقدم بها للمجتمع، وللنساء على حد سواء. أما عن التقاليد والدين، فعلى الرغم من أنه يرى الأولى أقوى من الثاني: "فقد تتغلب العادات على الدين نفسه فتفسده وتمسخه بحيث ينكره كل من عرفه" 13، وعلى الرغم من تمسكه بالشريعة، وقد عبر عنه بالقول "إن من أصول الشريعة السمحاء احترام المرأة والتسوية بينها وبين الرجل، بل إن شريعتنا بالغت بالرفق بالمرأة" 16، إذن على الرغم من هذا وذاك، في المواقف، فإن قاسم أمين، أرخى بتفاؤله على كل من التقاليد والشريعة، فرأى سهولة في تغيير الأولى، وبساطة في تعديل البنود غير الثابتة في الثانية. يصف التقاليد بالتساؤل: "أليست العادة عبارة عن اصطلاح أمة على سلوك طريق خاصة في معيشتهم ومعاملاتهم حسبما يناسب الزمان والمكان؟ من ذا الذي يمكنه أن يتصور أن العوائد لا تتغير بعد أن يعلم أنها ثمرة من ثمرات عقل الإنسان وأن عقل الإنسان يختلف باختلاف الأماكن والأزمان" 11. ومن هذا التعريف المستسهل للتقاليد والعادات، يحكم قاسم أمين العقل المتمدن الحديث، فيرى "إنما نتمسك بها أي العادات والتقاليد لأنها جاءت إلينا، فمن سلفنا ورثناها عمن تقدمنا وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا ... يجب أن نفهم أن لنا مصالح ولمن سبقنا مصالح ولنا شؤون ولهم شؤون ونجاحات لم تكن لهم وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم" 190 - 191. ومن سهولة تغيير التقاليد استناداً الى المصلحة والعقل، يرى قاسم أمين تيسيراً في تغيير أحكام الشريعة المبنية على "العوائد والمعاملات" فيقول "إنها قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان"، ذلك إن كل ما تتطلبه الشريعة هو "أن لا يخل هذا التغيير بأصل من أصولها العامة" 193. من جهة أخرى، ففي سياق عرضه لأفكاره عن المرأة، وللحلول التي يراها مناسبة لها، وللنماذج التي يقترحها، تمكن قاسم أمين أن يكون شاهداً على معانٍ وأوضاع هي مفاتيح تاريخية لمن أراد سرد مسار النساء المصريات والعربيات منذ النهضة وحتى الآن. فمرافعته ضد الحجاب، يخالها القارئ بداية "دعوة" الى خلع الحجاب الذي نعرفه اليوم، كاشف الوجه والكفين فقط. والحال أن الحجاب الذي يخوض أمين معركة ضده يرتدي مضمونين محددين: "الأول هو الزي، الذي يسميه "النقاب" أو "برقع" 82 عندما يدقّق باللفظ، وهو حجاب يغطي، بالإضافة الى الرأس الوجه والكفين، ولذلك، فعندما يحاجج أهل الحجاب - النقاب أو البرقع من ابناء زمانه، يؤكد لهم "اتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية ووقع الخلاف بينهم في اعضاء أخرى كالذراعين والقدمين" 73. لكن الحجاب يعني أيضاً، وهذا هو المضمون الثاني له، المنع من الخروج الى المجال العام. فهو يقول "أما ما يتعلق بالحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها، والخطر عليها أن تخالط الرجال" 83 وهو في سياق دفاعه عن فكرة الخروج، يعطيها الأولوية على التعليم، لشدة ما ينتبه الى التحولات القوية التي تحرزها في شخصية المرأة، فيقارن بين امرأة من "أهل الحجاب" تعلمت، وبين أخرى من "أهل القرى أو من المتّجرات"، ويجد بأن الأولى "تُحسن القراءة والكتابة وتتكلم بلغة أجنبية وتلعب البيانو ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلت بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقويم حياتها، وأن الثانية مع جهلها قد أحرزت معارف كثيرة ... فإذا تعاملتا غلبت الثانية الأولى" 95. أما دعوته الى تعليم النساء، فتصف هي أيضاً مجتمع ما قبل قرن... يقول عن "الناس عندنا" إنهم لا يزالون "يعتقدون أن تربية المرأة وتعليمها غير واجبين" 23، لذلك، فإن مرافعته من أجل تعليم النساء تأتي هي بدورها ابنة عصرها، إذ "يجيب" مثلا "أن تتعلم المرأة كل ما ينبغي أن يتعلمه الرجل في التعليم الابتدائي على الأقل" 24. فيما التوظيف الأساسي لتعليم النساء يأتي "لخدمة منزلها" 24، أو لإعالة نفسها، سيما إذا كانت مطلقة أو أرملة أو "الوالدة التي ليس لها أولاد ذكور" 27، ناهيك عن الفضائل العقلية والأخلاقية المتأتية من التعليم مثل "طهارة القلب في الغرائز والطباع" 62. بوسعنا التوقف، في هذا القسم في المداخلة، والإجابة على سؤال البداية: "هل حقاً عدنا إلى عصر النهضة....؟"، وكلاً لم نَعُد لأن أموراً عديدة تغيرت. الغرب بقي، كما أيام النهضة، نموذجاً نتمنى لو نحتذي به ولو كرهناه. لكنه غرب لم يَعُد ناصباً نموذجاً واحداً، بل تعددت نماذجه، وتناقضت أحياناً. صحيح أن نساء الغرب مازلن، في هذا العصر، أول نساء الأرض قدرة على اختراق مجالات جديدة وسبر أغوار الامكانات المختلفة التي تتيحها هذه المجالات، في السياسة كما في العلم والاجتماع والادب والفن والعائلة والحب والجنس. إلا أن هذا الغرب نفسه صنع نماذج لا تتلاحم مع ما يمكن توقعه من هذا الاختراق. فهو انتج الاعلانات والافلام وشرائط الفيديو كليب والاغنيات والمجلات والكتب والشعارات، الأكثر تعرضاً لكرامة النساء الإنسانية. ثم نصّب عارضات الأزياء مثالاً لفتيات القرن، ومراهقاته، وعاملهن معاملة رؤساء الدول، هذا ناهيك عن الاميرات والملكات الجُدُد والسيدات الأول.. وكأنه بذلك يعود، وبشق أساسي منه، الى أيام المرأة - الرمز الجنسي السلبي، أو المرأة صاحبة مكانة تعود الى أبيها أو زوجها أو... جمالها! لكن الغرب، كما يعرف هو نفسه طبيعة عصره، ليس بعائد الى أزمنة ماضية، بل هو يعيش أزمنة مختلفة: وهذا هو معنى عصر "ما بعد الحداثة"، والذي يتساجل بداخله الواثقون بخطى الحداثة مع المشككين بها، لذا، فإن فكرة "التقدم" نفسها، ابنة الحداثة بامتياز، لم تَعُد ذاك الصرح الذي بنى عليه قاسم أمين كل تفاؤله بالمستقبل وبالحلول التي لا تحتاج لسوى التبني والتطبيق. وأرضنا أصلا لم تَعُد مهيأة، هي الأخرى، لتخصيص نفس الحفاوة التي لقيتها الحداثة الغربية أيام قاسم أمين. إذ فقدت نداوتها الأولى، وتراكمت طبقات منها في ثقافتنا، "التقليدية" و"الحداثية" على حد سواء، ثم جاء فكر الإسلام السياسي ليزيد تعقّد علاقتنا بها، لأنه بالقدر الذي لفظها استوطنت في داخله بعناد لم تنفع معه المكابرة. أما علاقتنا نحن بالدين فشابها تعقيد وتوتر يتحمل القسط الوافر منهما فكر الإسلام السياسي والطريقة التي يوجل بها من قبل خصومه الفكريين: فقد بلغ السجال بينهما في الحماوة والتشوش ما جعلنا لا ننتبه الى أن الحجاب الذي يدعو قاسم أمين الى نزعه لم يعد موجوداً: فالغالبية العظمى من لابساته يكشفن عن الوجه والكفين، فيما القعود في المنزل تلاشى تقريباً، بل تدفقت النساء الى الخارج، وغالباً بحجاب... وتعليم النساء، لم يعد عُرضة لرفض الناس عموماً، ولا بقي عند حدود المستوى الابتدائي أو موظفاً للتدبير المنزلي وحده: بل صرنا نرى اعداداً غفيرة من الطالبات الساعيات الى تخصص علمي أو مهني، والراغبات باختراق مجالات بعينها. ثم تراجع التقسيم الجنسي للموائد، واختفت تقريباً شخصية "المصاحب"، الرقيب على حركة نساء المنزل عندما يكن خارجه، وشخصية الجارية، وكذلك المنازل، السجون، على الأقل في الأمكنة والظروف المكشوفة للعين المجردة، أي العلنية، وتفوقت النساء عدداً وعدة في الكتابة عن المرأة وصار لهن رموز وأقلام. غير أن أشياء أخرى بقيت على الحال التي سجلها قاسم أمين في عصره، مثل الاستمرار باعتماد قوانين الأحوال الشخصية وتفاقم الارتباط بين الاستبداد والفساد، لكن اللافت، والذي يشير الى النحو الذي يتعاطى فيه كتاب هذا الزمن مع إرث النهضة، هو بقاء محمد عبده مرجعاً شبه معتمد لدى المهتمين منهم بمسألة المرأة أو القضايا المتعلقة بأي نوع من أنواع التغيير، وقد يكون سبب هذا الثبوت هو الاطمئنان الذي يُسكن المستشهدين بنصوصه، فهو يحمي من شبهة "الانسلاخ" من الهوية الحضارية ومن الإسلام، ويحل عقدة الذنب التي يحملونها، بصفتهم "تحديثيين"، غير مرتاحين من أن ثقافتهم ليست من صنع ايديهم، والأهم من ذلك كله أن نصوص محمد عبده أكثر جرأة من التعاطي مع المقولات التقليدية والإسلامية، من نصوص كتّاب هذا الزمن المعاصر. وهذا العيب لا يعود الى أشخاصهم، بل الى المناخ المتلبد الذي نخوض فيه حواراتنا، وكلنا خشية من حساب التكفير الذي ينتظرنا على حافة أي طريق، نتيجة اقوالنا أو كتاباتنا أو ابداعاتنا. لو أردنا أن نختم، ونستعيد الجواب على السؤال الأول، يمكننا القول: إننا لسنا خائضين نقاشاً شبيهاً بذاك الذي خيض في عصر النهضة. أزمنتنا اختلفت وتعقدت، وهي لا تحتمل، لو أردنا فهمها، الإصرار على الأفكار القديمة من قبيل: - التعارض الحاد بين الحداثة والتقليد. وأن الخط الطبيعي للمجتمعات كافة: هو خط التقدم الحداثي. وإلا كيف نفهم هذه النسب المتصاعدة من المحجبات، الطامحات الى التعليم والعمل والمجال العام؟ وكيف نفسر حيويتهن؟ وقلة تنمّطهن، ومبادراتهن الخاصة بالشؤون التي تخص المجتمع؟ ثم كيف يمكننا تأويل النزعة الإذعانية لدى العديد من الحداثيات؟ وتنمطهن على نفس الطريقة في العيش والتفكير والعمل؟ واستعادتهن لأكثر الطقوس والرموز "تقليدية" في مراسهن الاجتماعي والعائلي؟ * مداخلة قدمت إلى مؤتمر "مئة عام على صدور كتاب قاسم أمين - تحرير المرأة". القاهرة 23 - 28 تشرين الأول أكتوبر 1999