أقام معهد سرفانتس في المتحف الوطني بدمشق، والوكالة الاسبانية للتعاون الدولي ومتحف الحفر المعاصر في ماربيا مربلة، معرضاً مؤلفاً من ثمانين لوحة حفر اصلية لغويا هي مجموعة "النزوات"، عمله العظيم الأول الذي عرّف الشعب الاسباني بأعماله. وقام متحف فن الحفر في ماربيا باعارة هذه المجموعة كاملة لعرضها في هذا المعرض، وهي نسخة ذات نوعية عالية الجودة. يعتبر غويا، الى جانب رامبرانت ودورر وبيكاسو، واحداً من اهم اربعة رسامي حفر في العالم، ابتدع تقنيات عدة لم تكن معروفة من قبل، مثل الحفر المائي اكوتينتا. وقد نفّذ في حياته آلاف اللوحات والكثير من الجداريات وسجّاد الجدران، ومئات لوحات الحفر التي من اهمها السلاسل الاربع: النزوات، فجائع الحرب، الحماقات، مصارعة الثيران. اهم ما يميز اعماله الغرافيكية المعروضة قسوتها وسخريتها وخراب تفاصيلها وتدرجاتها اللونية المضروبة بين مناطق الضوء ومساحات الظلمة التي تتناوب في تبادل امكنتها تحت وطأة الخطوط الجارحة. ملامح تطفو بإخفاقاتها وغرابة العوالم التي انشغل بتقديمها غويا كمادة اولية للسخرية وقد تنحاز الى حس فن الكاريكاتير السياسي. كان غويا يعرف الطاقة التي ينطوي عليها فن الحفر كتقنية فنية، وكمنهج للتعليم ووسيلة لنشر عمله على حد تعبير خوان كارت باروندو، اذ كانت بداياته في هذا الفن تعبيراً عن المحيط، وكان قريباً من النماذج الايطالية. وهذا ما منح غويا قدرة على التعبير بحرية، فمن خطّ الإبرة البسيط والقاسي الى تقنيات وأدوات كالماء القوي الحفر على المعدن، والحفر المائي والإزميل والصقال والمخدش… راحت كلها تندمج في عمله الفني بهدف أساسي هو الحصول على نوعيات تصويرية حقيقية في التأليف بين مناطق النور والظل التي تخلق لغة درامية فريدة. فنرى عمق التظليل وتقاطع الخطوط التي تعيد انتاج الضوء والظلمة بوسائل من البراعة والمهارة والسيطرة والطواعية تكفي لاعتبار غويا فناناً مستقبلياً بجدارة. مطبوعات ورسائل هجائية تُمثل غرابة صاحبها، او كما كتبت الأقلية المتنورة المعاصرة لغويا ان اعماله هذه عبارة عن ثمانين قصيدة اخلاقية هجائية بدءاً من ابرز الطبقات الى ناس قاع المجتمع، جميعهم مُهزّؤون: البخلاء، الجبناء، المتبجحون، الأطباء الجهلة، العجائز المجنونات، الكسالى، المنافقون، البلهاء…. ورأى آخرون ان مجموعة "النزوات" هي نقد لاذع لمحاكم التفتيش وللتمادي السياسي ومعاداة الاكليروس وحماقات العالم المقلوب… كل هذا الاستحواذ الذي تمتلكه لا يقف الا قرب تلك الشروحات التي شدّت هذه الأعمال الى العصر الذي ولدت فيه وامتلاكها للقدرة على نقل الوحشية المتدرجة فيه، والرعب، وحس الهشاشة، وعناصر عالمها الموحش والجهنمي تعكس بعداً قيامياً ناجماً عن العلامات التي قد تبدو أحكامها ذات طبيعة اخلاقية حيث الوضعية اللاانسانية للبشر الموجودين بين الخطوط وخفة الأحماض التي تقارب المنظور اللامحدود الى عالم منحرف وسائر في نفقٍ معتم، وهو الذي عاش لحظات خطيرة من تاريخ اسبانيا غزو القوات البونابرتية لإسبانيا. تأتي القيمة الرمزية لهذه الكاريكاتورات الخارجة من فتحة هاوية وكأنها ملهاة سوداء مضمرة بذلك التعسف والحسية المنحدرة من الشعور بمستوى آخر من الإدراك شخوص منفلتة وملتصقة بحرمانها الأرضي تكاد تكون اقرب الى شخصيات الحكايات الأسطورية المخيفة، ونتاج لوضعية واقعية كان يعيشها غويا. يظهر التأثير التصويري في لوحات المجموعة ومنها الحب والموت، شياطين، انهم يطيرون، تدريبات، واشون، تكريم المعلم… الخ وكأنه ارضية مختفية ومندثرة في التفاصيل المخيمة على اللوحات حيث السرعة والقوة والتداعي وكائنات مرسومة تحت تأثير طغيان خيال شخصي من الصعب الامساك بحركته وتوتره وايقاعاته الموتورة المفاجئة. عالم مختزل في الانتقام والهوس والكآبة، على رغم المسحة اللاذعة والمرحة لبعض الاعمال. لكن شكل اعادة تمثيل العالم الأرضي المركون في هذه المشهدية الطاغية بساديتها وكابوسيتها ووحدة استخدامها يجعلها جذابة بقدرتها على صناعة وصياغة النفور والاشمئزاز وتعابير الكراهية المختلطة. ولكم تذكرنا "مجموعة النزوات" هذه بأناشيد مالدورور للشاعر الفرنسي لوتريامون باعتبارها كتابة حاقدة ومؤسسة على ضدّيتها لنفسها وللعالم.