تتدخل "الحياة"، مرة أخرى، في المفاوضات السورية - الإسرائيلية لتثير حنق تل أبيب. والتدخل، هذه المرة، كان عبر نشر "الوثيقة الأميركية" التي يعتبرها المراقبون المسودّة الأولى لأي اتفاق سلام قد يوقّعه الطرفان. وردود الفعل الإسرائيلية على هذه الخطوة من "الحياة" ملفتة. إذ سبق أن نشرت صحف إسرائيلية معلومات عن الوثيقة وصلت إلى حد نشر مقاطع منها. وحصل ما يشبه الإجماع على أن رئيس الوزراء إيهود باراك قدّم موقفه بصفته مفتوحاً على الإنسحاب الكامل من الجولان. لكن أحداً لم ينشر النص الكامل لهذه الوثيقة التاريخية بالفعل والتي أمكن للأميركيين من خلالها إنقاذ مفاوضات شيبردزتاون وإعطاءها دفعاً جديداً كانت بدأت تحتاج إليه. ولوحظ أن الوفد السوري عبّر عن ترحيبه بالخطوة الأميركية في حين أن الإسرائيليين تذرّعوا بعطلة السبت من أجل... الدراسة. ولم يكن سهلاً عليهم إخفاء الإنزعاج من صياغات تمنع تحويل كل جولة مجرد عودة إلى المربّع الأول. وكان أن تحوّل هذا الإنزعاج إلى حنق، لا بل إلى غضب، عندما قرأ الإسرائيليون، وغيرهم، نص "الوثيقة" في "الحياة". بادر باراك إلى نفي وثيقة "الحياة" معتبراً أنها منحازة وغير دقيقة. وتبعه وزير خارجيته ديفيد ليفي فأنكر أن تكون إسرائيل استخدمت مصطلح "الحدود الدولية" لخط الإنسحاب. ونشرت "يديعوت أحرونوت" تقريراً لشمعون شيفر وأورلي أزولاي كاتز يتحدث عن انشغال الوفود بقراءة "الحياة" وعن تأرجح باراك بين رفض التعليق والإحتجاج على "التخريب". أما "معاريف" فذهبت أبعد من ذلك. كتب فيها إيلي كامير وإسحق بن هورين أن ما نشرته "الحياة" هو بداية "حرب نفسية"، ولاحظا أن المفاوض السوري تعمّد التسريب ليوحي بأن إسرائيل وافقت على مطالبه. ولا يمكن عزل ذلك عما تحدثت عنه الصحف الإسرائيلية في الأيام القليلة الماضية من أن السوريين فاجأوا مفاوضيهم الإسرائيليين بانفتاح على الإعلام وبعلاقة حسنة ومستجدة معه. و"المضحك" أن "معاريف" وجدت صحافيين عرباً لم تسمّهم من أجل تأكيد أن خبر "الحياة" مختلق. غير أن الأمر يكف عن كونه مضحكاً عندما يتدخل الأميركيون من أجل نفي دقة الوثيقة المنشورة والإقتراب من الموقف الإسرائيلي. ولعل سلوك واشنطن يصبح مفهوماً عندما يتذكر المرء كم أن وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت شددت على "ديبلوماسية الفطر" الذي ينمو في الظل أكثر وأفضل من الضوء. لذلك فإن إقدام "الحياة" على إخراج الوثيقة إلى الضوء لا يمكنه أن يلقى ترحيباً. وهكذا يكون الإعلام العربي متهماً مرة بالتقصير والتعمية، عندما يتخلى عن دوره، ومرة أخرى بالوضوح والشفافية عندما ينجح في "تنوير" الرأي العام. غير أن الصحف الإسرائيلية، في الحقيقة، ليست مقصّرة. ف"هآرتس"، مثلاً، تناولت ما نشرته "الحياة" بالتعليق والتحليل، وافترضت أن النفي الإسرائيلي صحيح، واستنتجت من ذلك أن عدم ورود نص واضح بموقف تل أبيب من الحدود يؤكد أن لا تناقض جذرياً مع الموقف الذي تنسبه "الوثيقة الأميركية"، بحسب "الحياة"، إلى سورية! وكان ملفتاً أن "هآرتس" استهلت واحدة من افتتاحياتها بالحديث عن مراسل "الحياة" في واشنطن الزميل ابراهيم حميدي الذي يتجاهل الصحافيين الإسرائيليين. وهكذا لم نعد أمام رفض وزير الخارجية السورية فاروق الشرع مصافحة باراك بل أمام سلوك عام يلتزم به جميع السوريين الموجودين في مكان المفاوضات. وبحسب "الوثيقة" التي نشرتها "الحياة"، فإن الموقف السوري من قضية الحدود هو التمسّك "بانسحاب إسرائيل الكامل إلى ما وراء خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967"، إضافة إلى أن "سورية تدرك أن خط الرابع من حزيران ليس حدوداً ولم يكن مرسوماً لذلك فهي مستعدة للتعاون في رسم الحدود على الخريطة من جانب خبراء في المساحة العسكرية والجغرافية. وإذ تعتبر دمشق أن هذا الأمر غير خاضع للتفاوض فإنها تبدي استعداداً للمرونة في المسائل الأخرى". أما الموقف الإسرائيلي، بحسب واشنطن، فيكرر ربط "عمق الإنسحاب بعمق التطبيع" الكلمة الأخيرة واردة بين مزدوجين لأنها محل خلاف ولكن الجديد فيه هو أن "إسرائيل مستعدة للإنسحاب إلى الحدود الدولية التي رسمها الإنتدابان البريطاني والفرنسي".