عبدالرؤوف سنو النزعات الكيانية الإسلامية في الدولة العثمانية بلاد الشام - الحجاز - كردستان - ألبانيا بيسان للنشر والتوزيع، بيروت 248 صفحة ندما بدأت فكرة القومية تزحف على ولايات السلطنة العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر، كانت بلاد الشام ما تزال ترزح تحت الحكم العثماني. وكانت علاقة ولايات إيالات بلاد الشام بالحكومة المركزية في اسطنبول اوثق مما هي عليه في اية منطقة اخرى في السلطنة. فدمشق كانت مركز امارة الحج وحلقة اتصال تجارية بين الداخل والساحل، فيما كانت حلب مركز التجارة الدولية. وفضلاً عن ذلك، كانت بلاد الشام على رأس ولايات الدولة العثمانية في مستوى التعليم، وقد قامت الحكومة العثمانية برعاية المؤسسات التربوية والدينية تاركة العنصر المحلي يحتل المناصب المهمة في الادارة والقضاء، من دون ان تبخل في الوقت نفسه في تقديم دعمها الى العلماء ورجال الدين المسلمين. وخلال تلك الحقبة الزمنية الطويلة من الحكم العثماني، سلّم مسلمو بلاد الشام امرهم، وهم في الاصل محافظون دينياً وثقافياً، طواعية الى هذا الحكم معترفين بشرعيته كخلافة اسلامية متوارثة. وهذا ما جعل نظرتهم الى التاريخ تنحصر في اطار إسلامي عام كانت الدولة العثمانية آخر حلقاته. ولذلك لم تُرسم في اذهانهم صورة ما قد يسمى بتاريخ وطنهم "سورية" او تاريخ "الامة العربية". وهذا الانقياد الذاتي ل"الشرعية" العثمانية جعل مسلمي بلاد الشام يتقبلون الحكم العثماني بكل مساوئه، ولم يتعد تذمرهم منه حدود الاحتجاج على ظلم والٍ او قهر العسكر وعبء التجنيد وارتفاع الضرائب والاسعار. وعدا ذلك، فإن الانتفاضات والاتجاهات الانفصالية التي شهدتها بلاد الشام او تلك التي تأثرت بها علي جانبولاد، فخر الدين المعني الثاني، ظاهر العمر، علي بك الكبير، محمد علي باشا بقيت حركات واتجاهات فوقية ضمن النخب والزعامات والاعيان والموظفين العثمانيين ولم تجد لها جذوراً عميقة في القاعدة الاسلامية. ولا شك ان تشديد العثمانيين على العامل الديني في حكمهم لبلاد الشام قد اكسبهم موقعاً معنوياً وشرعية في نشر سلطتهم على المنطقة وتثبيت حكمهم، حتى عندما بدأ الضعف يتسرب الى كيان دولتهم ويظهر بوضوح منذ القرن الثامن عشر. ذلك انهم اعطوا مسلمي السلطنة عموماً وبلاد الشام خصوصاً شعوراً بالرضا بأنهم يعيشون تحت مظلة دولة خلافة اسلامية. بيد ان بلاد الشام شهدت حوادث خطيرة في الفترة الممتدة من الربع الاخير من القرن الثامن عشر وطوال القرن التالي نتيجة لعوامل خارجية وداخلية كان لها تأثيرها على ثقة المسلمين بأنفسهم وبدولة الخلافة العثمانية. وقد انعكس ضعف السلطنة اتجاهات انفصالية او داعية للاستقلال الذاتي او التام من منطلقات اسلامية كطرد إمام اليمن للعثمانيين من مناطق بلاده الداخلية 1635 - 1872، او من منطلقات شخصية كحركة محمد علي لتوحيد مصر وبلاد الشام تحت زعامته، او قيام اسر محلية حاكمة في بلاد ما بين النهرين وشمال افريقيا ارتبطت بعلاقات واهية مع الآستانة. لكن ما حصل خلال الحرب الروسية - العثمانية الاخيرة من اتجاهات استقلالية ل"قوميات" السلطنة الاسلامية، وفي اعقابها مباشرة حتى 1881، وشمل بلاد الشام والحجاز وكردستان وألبانيا، تزامن مع مطلع حكم السلطان عبدالحميد تقريباً نتيجة للاعتقاد الذي ساد بقرب زوال السلطنة. يعالج الكتاب نقطة اساسية وهي مواقف "القوميات الاسلامية" في السلطنة العثمانية من الدولة في لحظات ضعفها او احتمالات انهيارها، ويُعنى بدراسة جزئيات علاقاتها مع السلطنة وخلفيات ذلك راصداً اشكالية الولاء للسلطنة في ضوء التهديد والتدخل الخارجيين ونمو المشاعر الوطنية لدى المسلمين. ويستنتج المؤلف ان معاهدة برلين التي ضمنت للدولة العثمانية سلامتها، هدّأت من مخاوف السوريين على مصير بلدهم، وأدت بالتالي الى تلاشي مشروع "كيانية سورية" والعودة مجدداً الى التشبث ب"الرابطة العثمانية" ذلك ان تحركهم "الوطني" جاء في اطار وعي بالانتماء الى دولة اسلامية. بخلاف ذلك، فجرت المعاهدة الاتجاهات الاستقلالية في كردستان وألبانيا. فالخوف من كيان أرمني مستقل في شرق الاناضول وويلات الحرب، جعل الاكراد ينتفضون لإنشاء كيان خاص بهم. كذلك فإن اقتطاع معاهدة برلين أراضي ألبانية لمصلحة اعادة تشكيل الكيانات المسيحية المجاورة في البلقان كان وراء انبعاث النزعة الكيانية في ألبانيا. اما في الحجاز، فقد كان تحرك الاشراف هناك مشروعاً "لورانسياً" بريطانياً مبكراً لاقامة خلافة عربية محل الحكم العثماني ولتأمين بريطانيا مصالحها الاستراتيجية مع الهند. يدرس الكتاب مواقف "القوميات الاسلامية" اثناء الحرب الروسية - العثمانية وفي اعقابها ويرتكز في الدرجة الاولى على وثائق الارشيف البريطاني غير المنشورة، كما يستند جزئياً الى اوراق مجلس العموم البريطاني والوثائق الالمانية والفرنسية التي قام بنشرها الدكتور عادل اسماعيل. تحتوي الوثائق البريطانية على تقارير كتبها ديبلوماسيون وقناصل بريطانيون عملوا في الدولة العثمانية وولاياتها عن الاحداث والتطورات التي عاصروها وراقبوها او تدخلوا بها بطريقة ما وعملوا على صياغتها. وتشكّل هذه الوثائق قيمة تاريخية كبيرة لاحتوائها على معلومات مجهولة وأسرار عن احداث مهمة. وتعتبر المصادر العربية والاجنبية المنشورة والتي تتضمن سيراً ومذكرات، مصدراً مهماً يضاف الى الوثائق الديبلوماسية. ختاماً، يشكل هذا الكتاب خلفية تاريخية لكثير من الاحداث السياسية والتطورات الراهنة التي يمر فيها بعض البلدان العربية والاسلامية