المسألة الشرقية وعصر التنظيمات 1774 - 1878 عبارة المسألة الشرقية، على ما هو متعارف عليه بين الباحثين، تعني اشتداد الضغط على الدولة العثمانية إما لانتزاع إمتيازات إضافية أو لاسترجاع أجزاء منها. والدول الأربع التي كانت كل منها تريد أن "تنهش" هذه الدولة هي: روسيا التي كانت تدّعي حماية الأرثوذكس دينياً والسلاف عرقياً والتي كانت، منذ أيام بطرس الأكبر، تسعى إلى الوصول إلى طريق بحري مفتوح، خصوصاً عبر المضائق، وبريطانيا التي كان يهمها "حماية" طريق الهند وذلك ب"السيطرة" على الممر البري بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، وفرنسا التي كانت ترمي إلى الحفاظ على موقعها وتوسيعه التجاري والثقافي في المنطقة وحماية المسيحيين الشرقيين الكاثوليك، وفرنسا كانت تبدل تحالفها مع روسياوبريطانيا بحسب الحاجة" وكانت النمسا معنية بصدّ الروس عن البوسنة وهرتزوغروفينيا واقتطاعهما وسواهما من الإمبراطورية لنفسها" أما الألمان الذين كانوا حديثي عهد في المسرح العثماني فكانت سياستهم الإندفاع نحو الشرق. إلى أين؟ المستقبل يوضح الأمر. هذه السياسات والمطامع ازدادت بعد معاهدة كوجك كفارجه 1774. لكن هذه المواقف الأوروبية قابلتها محاولات عثمانية لإصلاح الأمور. وكانت أولى هذه إهتمام سليم الثالث بالقضاء على الإنكشارية، مصدر الوجع الرئيسي. لكن محاولته لم تنجح وانتهت بخلعه 1807. إلا أن محمود الثاني 1808 - 1839 تابع الأمور بعده. ويرى البعض أن جزءاً من محاولات الإصلاح جاء بسبب الضغط الأوروبي، مثل خط شريف غلخانة 1839: إلا أن أموراً أخرى عسكرية القضاء على الإنكشارية وإقامة جيش نظامي جديد، وتنظيم الإدارة المركزية بحيث أنه أوجد مجلس وزراء وأنشأ إدارات للقيام بوظائف محدودة: فالصدر الأعظم هو المدبر المدني للدولة، والسرعسكر مسؤول عن الشؤون الحربية، وشيخ الإسلام يتولى الشؤون العلمية والقضائية. وقد ظهرت في أيام محمود أولى الصحف: تقويمي وقائعي بالتركية سنة 1831 وقد بيع منه 5000 نسخة. وMoniteur بالفرنسية في السنة نفسها 300 نسخة. وفي عهد خلفه عبدالمجيد صدرت الجريدة بالتركية الثانية "جريدئي حوادس" 1840. وقد وضع خط غلخانة في أيام محمود الثاني، لكنه أعلن بعد وفاته ببضعة شهور في عهد خلفه. والأمر الرئيسي في هذا "المنشور" السلطاني هو أنه اعتبر أن جميع سكان الإمبراطورية سواء أمام القضاء. بهذه المناسبة سنة 1856 صدر منشور آخر باسم خط شريف همايوني، لكنه لم يضف إلى جوهر الأول شيئاً: لقد عني بالتفاصيل. في أواسط القرن التاسع عشر 1853 - 1856 وقعت حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية. ودخلت فرنساوبريطانيا إلى جانب العثمانيين وانتهت الحرب بانكسار روسيا. وكان أن أصرّت فرنساوبريطانيا على وضع خط شريف غلخانة موضع التنفيذ فكان أن صدر خط همايوني 1856 المذكور. وفي سنة 1869 افتتحت قناة السويس، فركّزت بريطانيا نظرها على مصر حتى احتلتها سنة 1882. ومما أدخل في جدول الإصلاحات، حتى سنة 1876، توحيد القوانين والإتجاه نحو العلمانية في التعليم وتحسين إدارة الولايات. وكان آخرها إعلان عبدالحميد الثاني 1876 - 1909 الدستور وقد سمّي بالتركية "مشروطية" حكماً منفرداً تسلطياً إلى سنة 1908، كما أرغم على إحياء الدستور مشروطية ثانية ثم خلع سنة 1909. العقود الأخيرة من حياة الإمبراطورية في سنة 1876 - 1878 وقعت حرب بين روسيا والدولة العثمانية انتهت بانتصار الأولى، وتدخلت الدول الأوروبية، فعقد مؤتمر برلين 1878. وبموجب المعاهدة التي فرضت يومها تم استقلال رومانيا والصرب والجبل الأسود والبوسنة عن الدولة، وانتزعت هرتزوغروفينيا وضمّت إلى النمسا ومنحت بلغاريا حكماً ذاتياً واحتلت روسيا شرق الأناضول. وهكذا فقد كانت معاهدة برلين خطوة كبيرة بعد معاهدة باريس 1856 في سبيل تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية، فضلاً عن ذلك فقد كانت الغرامة التي فرضت على الدولة العثمانية تبلغ 800 مليون فرنك! تتفق معاهدة برلين زمنياً مع ابتداء العهد الحميدي المطلق. ويمكن التوقف عند بعض الأمور الأساسية التي كانت تدور حولها سياسة عبدالحميد وحلفائه وخصومه. 1- اتخذ عبدالحميد من الإسلام أساساً لسياسته، فاتجه نحو البلاد الإسلامية ليثير فيها الإهتمام بالبلد الذي يدافع عن الإسلام ضد الغرب الطامع فيه. فكانت بعض الصحف الصادرة في الإمبراطورية تنفخ في هذا البوق، وكانت بعض الصحف الصادرة في الخارج تتلقى هذا النفخ وتعيده صدى محلياً. ومن هنا جاءت قضية تعظيم دور السلطان العثماني كخليفة للعالم الإسلامي والمسلمين. ولعل أكبر مظهر لهذا الإرتباط بين الدولة والعالم الإسلامي هو سكة حديد الحجاز. فمما هو مقبول أن عبدالحميد تبنى - إن لم يكن قد بدأ - فكرة إنشاء خط حديد يربط دمشقبالمدينة المنورة ومكة المكرمة واليمن. فعبدالحميد كان يدرك أن مثل هذا الخط يمكّنه من إرسال الجنود إلى أنحاء الجزيرة تلك بسرعة، ومن ثم يقوي قبضته على تلك الديار التي كانت تميل إلى الخروج على السلطة. لكن لما أعلن السلطان العثماني عن مشروع هذا الخط الحجازي قال أن المقصود منه هو تيسير الحج على أهل الشام وما إليها وسكان اليمن وجوارها. وقال أن تمويل المشروع إسلامي بحت - يتقدم بالتبرع له المسلمون حيث كانوا، وأن الخط، عند إتمامه، سيكون "وقفاً على المسلمين"، وهكذا كان. بُدِئَ بالعمل سنة 1900 وانتهى بناء الخط الحجازي سنة 1908 وقد وصل أول قطار من دمشق إلى المدينة المنورة في أيلول /سبتمبر 1908. وجرّب عبدالحميد أن يحيط نفسه بعدد من كبار المسلمين رغبة منه في استجلاء آرائهم في شؤون الخلافة والدولة. وكان ممن وقع في حباله جمال الدين الأفغاني، ولكن الذي لم يقدر عليه كان المهدي السنوسي. 2- تمت إنجازات لا بأس بها في أيام عبدالحميد ولو أن بعضها بدئ به قبلاً منها: بين سنتي 1882 و1908 رصفت من الطرق، في بلاد الشام والحجاز، 2350 كلم، وأما الأناضول فقد نالها 1850 كلم فقط. ونالت بلاد الشام 47 في المئة من سكك الحديد فيما نال الأناضول 37 في المئة فقط. 3- إزداد عدد سكان الإمبراطورية من 4،17 مليون نسمة 1893 إلى 8،20 مليون 1905 - 1906. وكان عدد سكان استانبول 000،391 1844 فأصبح 000،850 1886 ووصل إلى المليون سنة 1900! 4- في السياسة الخارجية قويَ الإتجاه نحو ألمانيا التي كانت قد توحدت 1871 وأصبحت ذات وزن في المعترك الأوروبي. وألمانيا التي كانت قد أخذت بسياسة اندفاع نحو الشرق حتى قبل ذلك لقيت الآن من يتقبل صداقتها. ومن أمثلة التطور الحديث هو أن ألمانيا كانت تصدر إلى تركيا 2 في المئة 1878 فأصبحت النسبة 12 في المئة 1914" وصار التصدير إلى ألمانيا 7 في المئة. وثمة أمران حريان بالإهتمام الشديد: تدريب الجيش التركي على أيدي ضباط ألمان! وتصديق إمتياز سكة حديد برلين - بغداد. لكن فكرة مقاومة الإستبداد الحميدي أخذت تتغلغل في النفوس، ففي إستانبول وما إليها قامت حركة "الشباب الأتراك" 1889 وصارت تركيا الفتاة 1902. أما في الولايات العربية فقد بدأت تظهر بعض الدلائل على الرغبة في الإنفصال عن الدولة أو على الأقل الحصول على حكم ذاتي، على ما دل على ذلك المنشورات التي أخذت تظهر في بيروتودمشق وحلب وبغداد منذ ثمانينات القرن التاسع عشر أو حتى قبل ذلك. خلع عبدالحميد سنة 1909، ذلك أن ويلات الدولة العثمانية والضغط الخارجي عليها كانا أشد مما تستطيع تحمّله بل مقاومته. وجاءت حربا البلقان 1912 و1913 ثم الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 وخسرتها الدولة إلى جانب ألمانيا وبقية دول الوسط. قسمت تركيا أي الأناضول التي بقيت من الإمبراطورية بعد 1918 بشكل تعسفي. لكن مصطفى كمال أتاتورك فيما بعد لم يقبل بذلك وجمع الباقين من مخلفات الجيش المكسور وقاتل اليونان وانتصر عليهم وأخرجهم من البلاد وحمل الدول المعنية على تبديل بمعاهدة سيفر التقسيمية 1920 معاهدة لوزان 1923 التي اعتبرت تركيا وحدة سياسية ولن ندخل بالتفاصيل. في معاهدة لوزان أعلنت تركيا الحديثة تخلّيها عن ممتلكات الإمبراطورية في العالم العربي. فكان ذلك هو الإعلان الرسمي بانتهاء دولة شغلت نفسها والدنيا ستمئة سنة ويزيد من 1302 إلى 1923! 7- حضارة الإمبراطورية العثمانية: الفن والفكر تاريخ ستة قرون يعرضه هذا الكتاب الذي تحدثنا عنه، وفي خاتمته قسم يتناول فيه الباحثون حضارة الإمبراطورية العثمانية في ناحيتي الفن والفكر، لا بد أن يكون هذا مختصراً جداً، لكنه يضع بعض الخطوط الأساسية لهذا الموضوع. ولسنا نطمع هنا إلا في الإشارة إلى النقاط الرئيسية في هذا القسم. الفن: الفن الإسلامي، بالرغم من بعض الإستعارات هنا وهناك، ظل فناً إسلامياً، وممثله الأول كان المسجد وما يتصل به. وعندما ننتقل إلى الزخرف الجزئي نجد أن القيشاني كان العنصر الرئيسي فيه. ولنضف أن نماذج هذا الفن الرئيسية كانت في المدن. فالحضارة العثمانية ظلت حضارة مدنية. أما الريف فقد خص، على وجه العموم، بمساجد صغيرة وأضرحة وجسور وخانات وحصون. والجوامع والمدارس والمستشفيات، على قلّة هذين النوعين الأخيرين، منتشرة في المنطقة التي سيطر عليها العثمانيون. وقد تأثر المعماري العثماني بالعمارة البيزنطية والآثار الإيرانية والسورية والمصرية على درجات متفاوتة كان الغالب فيها تفصيلياً، لأن التخطيط الأساسي للجامع يبقى على مسيرته. ومع أن العثمانيين بنوا جوامع في عاصمتيهما الأولى بروسة والثانية أدرنه، فإن إستانبول، لما فتحها محمد الثاني 1453، أصبحت العاصمة التي لا يعلى عليها. وكان محمد الفاتح مثقفاً واعياً لشؤون الفن، لذلك فقد بدأ سلسلة من الجوامع الكبيرة تعظيماً لعاصمته، وذلك ببناء جامع الفاتح الذي تهدم في زلزال سنة 1771 فكان مدعاة للفخر والعظمة. ويرى الباحثون أن معماريه تأثروا بكنيسة أيا صوفيا، فجعلوا للجامعة قبة واحدة كبيرة قطرها 25 متراً. فضلاً عن قباب أخرى صغيرة قليلة. وقد أصبح هذا أساس البناء بالنسبة لأكثر الجوامع وبعضها أضخم وأكبر التي بنيت فيما بعد. وقد أتيح لإستانبول أن ينبغ فيها معماري عثماني مشهور لعله الأشهر! هو سنان 1489 - 1578 الذي عاصر السلطان سليمان القانوني 1520 - 1566. ولما كان زمن سليمان وبعض ما قبله وما بعده يمثل العصر الذهبي للإمبراطورية، فإن التقليد الذي بدأ بأيام الفاتح سار بخطى سريعة في هذه الفترة. وإذا عرفنا أن سنان مسؤول عن نحو 360 أثر معماري من جوامع وقصور وتكايا ومدارس وحمّامات وأضرحة، منتشرة من دمشق إلى أدرنة، أدركنا أهمية الأثر المعماري في الفن العثماني. ولنُشر إلى أهم ما خلفه سنان: منها جامع شيخ زاده والسليمانية في إستانبول والسليمية في أدرنه والسليمانية تكية في دمشق. وقد كان للسلاطين العثمانيين قصور تليق بمقامهم، وفي مقدمتها قصر طوب قبي. وقد عني العثمانيون بالبناء في البلاد العربية، ولو عن طريق الولاة. فقد استطاع الباحثون أن يهتدوا إلى نحو 200 أثر في القاهرة ونحو مئة أثر في حلب، ومثلها في دمشق ونحو خمسين أثراً في بغداد. الحياة الثقافية - في القرن الثالث عشر أصبحت اللغة التركية اللغة الغالبة في الأناضول. وقد ترتب على ذلك تأخر الثقافة العربية التي كان يعبّر عنها أحياناً بالفارسية أيضاً فلم تعرف البلاد مدرسة علمية بالمعنى الإسلامي ولا فكراً علمياً، وحل مكانها ثقافة تركية شعبية أساسها التصوف المحمول إلى البلاد من أواسط آسيا. لكن هذا القرن نفسه عرف أمرين على غاية الأهمية، أولهما أن اللغة التركية كتبت بأحرف عربية، وثانيهما أنها أصبحت لغة الإدارة. والمعروف أن الأمير محمد كرمنوغلو في قونية هو الذي اشترع ذلك سنة 1277. وعرفت الفترة الممتدة من أواخر القرن الثالث عشر حتى العقود الأولى من القرن الرابع عشر أدباً كتب باللغة التركية. برز فيه من الشعراء: يونس إمري 1240 - 1320 الذي عاش في شمال غرب الأناضول وكتب شعراً صوفياً" وغولشَهْري الذي نقل "لغة الطير" للعطار نقلاً معدلاً إلى التركية 1317" وعاشق باشا 1271 - 1332 الذي نظم قصيدة صوفية من 000،15 بيت سمّاها "غريب نامه" كتاب الحاج" وتشياد حمزة الذي استوحى جلال الدين الرومي. من المتعارف عليه أن أول مدرسة أنشئت في أيام العثمانيين تعود إلى أيام أورخان 1330 وكانت تدرّس فيها العربية وبعض الفارسية والفقه والشريعة والمنطق والميتافيزيق والفلك والرياضيات والطب. ثم تلا ذلك تأسيس مدرسة في بروسة وكان، من الطبيعي، أنه بإمكان المسلمين أن يتلقوا العلوم في مناطق عدة من العالم الإسلامي. فداود القيسري، شيخ مدرسة نيقية درس في القاهرة. وعلماء المسلمون، دوماً، يرحلون في طلب العلم وتوصيله إلى الطلاب. كما كانوا ينتقلون من معهد إلى معهد. فالفلكي قاضي زاده 1357 - 1412 بعد أن كان في مدرسة بروسه إنتقل إلى بِغْ حيث تولى مشيخة المدرسة فيها. وقد وضع بالعربية رسالة في الهندسة. وحاجي باشا القوني الأصل درس الطب في القاهرة وتدرّب هناك، ثم عاد إلى إمارة أيادين حيث انصرف إلى التطبيب والتأليف في الطب. ومما يجدر ذكره أن الثقافة العربية قد حافظت على خصوصيتها، وحتى القرن الخامس عشر لم يتمكن الأتراك من تقبّلها كي يفيدوا من إنجازاتها الكبيرة. ومثل ذلك يقال عن أوروبا وثقافتها، على أنه حريّ بالذكر أن الأمر تبدل بعض الشيء في أيام محمد الفاتح 1451 - 1481. فقد أراد هذا السلطان أن تكون عاصمته ذات طابع ثقافي. فقد كان هو يعرف العربية والفارسية، ويدرك ما يمكن أن يفاد منه من الإتصال بمثل هذه الحياة الفكرية. لذلك فإنه عمد إلى فتح مدرسة، على غرار المدرسة الإسلامية، تدرّس فيها العربية والفارسية والفقه والشريعة والمنطق والحساب والفلك والطب. لكنه لم يكتف بذلك بل أنشأ ما يسمّيه الباحثون في الكتاب الذي بين أيدينا "جامعة"، لتدريس الطب بفروعه المختلفة وألحق بها مستشفى. ومما يذكر لمحمد الفاتح أنه استدعى الرسّام الإيطالي بليني إلى بلاطه، وقد رسم له صورة. ولما كان الناس على دين ملوكهم فقد أخذ الكثيرون يعنون بالثقافة العربية والأدب الفارسي. وكان من الطبيعي أن تقوم في إستانبول فئة من شعراء القصر، وبعضهم كان يلتحق بكبار الموظفين وأصحاب الزعامات. وكان أكثر هؤلاء يعرفون العربية والفارسية. وقد شهد القرنان الخامس عشر والسادس عشر وبعض القرن السابع عشر شعراء كبار مثل فضولي 1494 - 1555 وهو تركي كان يقطن بغداد، فلما احتلها سليمان القانوني 1534 إنضم إلى شعراء السلطان، لكنه لم يترك بغداد. وخير أعماله الشعرية هو "ليلى ومجنون" وفيه شعر غنائي ونزعة صوفية. وهناك باكي 1526 - 1600 الذي كان شاعر السلطان سليمان. وعندنا نبي 1642 - 1712 ونديم من أهل القرن السابع عشر أيضاً. إلى جانب الشعر البلاطي كان هناك شعر شعبي أكثره صوفي النزعة يمثله إبدال في القرن الخامس عشر وبير سلطان إبدال من القرن التالي. وقد حفلت الحلقات الأدبية والصوفية المتعددة بعدد من رواة القصص التاريخية الطابع وكانت تدور حول موضوعين رئيسيين هما حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على نحو ما أشرنا من قبل، والبطولات التركية القديمة. لكن بعد محمد الفاتح وخليفته بايزيد 1481 - 1512 بدأ إتجاه لتدوين التاريخ "رسمياً"، أي تفخيم السلاطين وإنجازاتهم. وقد استمر هذا بطبيعة الحال أيام ازدهار الإمبراطورية في القرن السادس عشر. ويمثل المؤرخين كمال باشا زاده تو 1534 وسعدالدين أفندي تو 1599 ومصطفى أفندي تو 1599. وكان حاجي خليفة كاتب تشلبي 1609 - 1657 أول من وضع تاريخاً منتظماً. لكن أهم المؤرخين العثمانيين الرسميين هو نعيما 1655 - 1716. وعرفت أنواع أخرى من الكتابة التاريخية والجغرافية في القرن السابع عشر. فقد وضع أوليا تشلبي 1611 - 1683، الذي كان مؤرخاً رحالة، كتابه "سياحت - نامه" الذي كان وصفاً دقيقاً جغرافياً تاريخياً لأجزاء كبيرة من الإمبراطورية. كما وضع إثنان من أمراء البحر، هما بري ريس تو 1554 وخليفته سيد علي تو 1562 كتابين مهمين مزوّدين بالخرط هما على التوالي: الأول عن البحر المتوسط - شواطئه وجزره، والثاني عن المحيط الهندي وقد سمّاه "المحيط" إذ أنه قاد الأسطول العثماني الذي قارع البرتغاليين وانتصر عليهم هناك. كان حاجي خليفة مؤلفاً موسوعياً فوضع رسالة طويلة بعنوان جهان - نامه وهي جامعة للتاريخ والجغرافيا والحياة الإجتماعية والأدبية توفي 1657. بين سنتي 1727 - 1729 أنشئت أول مطبعة في إستانبول، وكانت، بالطبع، تستعمل الحروف العربية. وكان المشرف عليها إبرهيم متفرّقة، وهو هنغاري كان قد إعتنق الإسلام. وكان قد صدر أمر سلطاني 1726 بأن المطبعة لن يسمح لها أن تقوم بطبع كتب دينية أو شرعية، بل يجب أن يقتصر عملها على طبع كتب علمية وفنية وتاريخية وفيلولوجية. وكان أول ما طبع فيها سنة 1732 موسوعة حاجي خليفة وتقريراً عن فرنسا وضعه السفير محمد أفندي. كانت الإمبراطورية تفيد قليلاً من بعض النظم التي عرفتها عن أوروبا، لكن ذلك كان قليلاً قبل القرن التاسع عشر. وفي القرن التاسع عشر ظهرت أول صحيفتين تركيتين في إستانبول 1831 و1840، لكنهما كانتا صحيفتين رسميتين. وقد أصدر شناصي 1826 - 1871 أول صحيفة خاصة. ثم توالى صدور الصحف التي كانت تنشر أموراً مهمة تتعلق بالحضارة الغربية. في أيام عبدالعزيز 1861 - 1876 أنشئت أول مدرسة ثانوية على أسلوب الليسيه الفرنسية 1868 وكانت لغة التعليم فيها، في أكثر الموضوعات، تركية لكنها كانت تعنى بالأدب الفرنسي. وفتحت مدارس للجاليات الأجنبية التي كان يرودها طلاب أتراك. ونال البنات حظّ من التعليم للمرة الأولى في هذه الفترة. في سنة 1891 فتحت كلية الفنون والكلمة كان يدخل فيها العلم أيضاً، وهي أول كلية علمية حديثة. وبدأ المسرح الحديث في إستانبول سنة 1839 على أيدي فرق فرنسية وإيطالية، ثم تُرّكَ بعض الشيء. يمكن القول إجمالاً بأن العاصمة والمدن الكبرى في الولايات العربية أو السابقة منها مثل دمشق وحلب والقاهرة وبغداد، كانت قد تعرفت، قبل إنقضاء عهد الإمبراطورية، إلى نواحي كثيرة من الحضارة الغربية، وكانت آراء جديدة قد وجدت طريقها إلى القرّاء. لكن هذا يخرج عن نطاق هذا الكتاب. لكن الريف العثماني ظل تقليدياً في تعليمه وتعلمه، باستثناء بعض الولايات العربية التي كثرت فيها - حتى في الريف - مدارس أجنبية. وهكذا فقد كانت الإمبراطورية، في أواخر عهدها، تمثل وجهين من الثقافة: عصرية وتقليدية. إن هذا الكتاب الذي أطلت التحدث عنه يستحق، في واقع الأمر، أكثر من هذا. فهو كتاب جيد في مادته، دقيق في ترتيبه، واضح في بيانه، شامل لموضوعه. إنني أنصح لكل من يهمه تاريخ الشرق وبعض من الغرب لمدة ستة قرون أن يقتنيه. إنه كتاب لا يُقرأ على دفعة واحدة، لكنه مرجع يمكن العودة إليه عند الحاجة.