كتبت اخيراً موضوعين عن انتخابات المدير العام لليونيسكو، وعن الجدل الدائر حولها. ولم أكن أتوقع أن أتلقى اتصالات ملغومة بسوء الفهم من المؤيدين والمعارضين. وأجدها الآن فرصة لأكون أكثر وضوحاً حول قضية تتجاوز، في نظري، الأشخاص والأقطار وان كانت بالطبع لا تنفصل عنهم ولا تتجاهلهم. أريد أن أقول بوضوح انني من المؤيدين لترشيح الدكتور غازي القصيبي مديراً عاماً لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة، وهو تأييد لا أعتذر عنه ولا أخجل منه ولا أتردد فيه. أعرف الدكتور القصيبي معرفة جيدة، وتربطني به علاقة وثيقة، ويشدني اليه اعجاب كبير ومحبة صادقة واحترام عميق. وأنا أعترف بذلك حتى لا يتبادر شك الى أحد بأنني أغفل عن ذكر علاقتي به تظاهراً بموضوعية مصطنعة. ولكنني، مع ذلك، أراجع نفسي حول الموضوع فأجد ارتياحاً كبيراً في أن العلاقة الشخصية والعاطفة القوية لا تهدران للموضوعية الحقيقية دماً ولا تخدشان لها حياءً أو تضيعان لها حقاً. الموقف مريح بالنسبة الي لأن العاطفة هنا لا تناقض المبادئ، والعلاقة الشخصية لا تعارض المصالح والمثل القومية والوطنية. لو كان الدكتور غازي القصيبي هو مرشح بوركينا فاسو والدكتور اسماعيل سراج الدين هو مرشح الاجماع العربي والاسلامي لكنت ترددت كثيراً في تأييد الدكتور غازي القصيبي، وربما كنت من أكثر المؤيدين حماساً للدكتور اسماعيل سراج الدين. الطموح الشخصي أو الهوى القُطري اللذان يُعرّضان اجماعاً عربياً للاهتزاز وفقدان الاحترام هما حماقة كبرى لا تليق بنا، ونحن في زمن تضميد جروح عربية لا تتوقف عن النزيف، وجمع شتات عربي لا يكف عن التبعثر، ومعالجة ندوب كرامة عربية سادرة في مسلسل للبكاء واللطم وشق الصدور. لو كان الدكتور غازي القصيبي خارجاً عن اجماع الترشيح العربي، متوارياً خلف دولة اسمها بوركينا فاسو، لكانت ساورتني الشكوك حول الهدف والمغزى وطاردتني الأسئلة حول مجهودات التمويل والترويج تنشغل بها دولة أفريقية صغيرة فقيرة محدودة الموارد، تنتمي الى مجموعة جغرافية استنفدت حصتها في ترشيح شخصية أفريقية لهذا المنصب، وتنتمي الى مجموعة حضارية القمة الاسلامية في بوركينا فاسو أعلنت موقفها في تأييد القصيبي لمنصب المدير العام لليونيسكو. ولذلك أتساءل بوضوح: من هو وراء برنامج بوركينا فاسو لاجهاض الاجماع العربي الاسلامي ومرمطة كرامة هذا الاجماع؟ ومن هو وراء حملة القذف والتشهير بغازي القصيبي وثقافته العربية؟ ومن هم أولئك الذين تبنوا برنامج بوركينا فاسو واتخذوه جسراً ومنفذاً ومسرحاً لإشاعة الفرقة وسوء الظن بين العرب، واثارة النعرات الثقافية القُطرية حول من منا أكثر تحضراً وأقرب نسباً وأقوى صلة بالمجتمع الغربي المتحضر! على هامش هذه التساؤلات أراجع الموضوع، فأحمد الله على أن القصيبي كان ولا يزال مرشحاً عربياً مجمعاً عليه وأنه يمارس حملته الانتخابية بكل الفروسية واللياقة الجديرة بالثقافة العربية الكريمة وبالعرب الكرام. وأراجع نفسي فأقول ان الموضوع المثير هنا هو الثقافة العربية حضوراً وحواراً، وليس تلك الاختلافات القطرية العربية التي يزايد البعض عليها. وانصح اخواني المنخرطين في الحوار أو الجدل، فأقول ان كل بيت قُطري عربي فيه غرف زجاجية وان الآخرين لديهم كميات كبيرة من الزجاج لبناء مزيد من الغرف الزجاجية في بيوتنا العربية عندما لا تكون الغرف الموجودة كافية، وهم مستعدون لتزويد بعضنا بكميات وفيرة من الحجارة حتى تستمر حفلات تكسير الزجاج وتصطك آذان الشوارع العربية ب "ليالي زجاج" شوفينية صاخبة. الانتصار هنا والتأييد هناك هُما للثقافة العربية وللوجود الأممي للعرب ومرشحهما المجمع عليه، بصرف النظر عن القُطر الذي ينتمي اليه. واذا صمم بعضنا أن يكون قُطرياً شوفينياً حتى النخاع، واذا أصر البعض على أن يبيع الثقافة العربية مقابل رفقة طيبة على الضفة اليسرى من نهر السين، فإن ليالي الزجاج العربية ستكون صاقعة مؤلمة. النصر للعرب ثقافةً وكرامةً واجماعاً، والسقوط لكل "الزجاج" وكل "الليالي" الزجاجية.