اما ورأيي في الدكتور غازي القصيبي، ديبلوماسياً ومحاضراً جامعياً وشاعراً وروائياً، معروف، فانني اكتفي هنا بتسجيل رأي جريدة "الاندبندنت اون صنداي" اللندنية ان الصفات الشخصية للدكتور القصيبي في ترشيحه مديراً عاماً لليونسكو عالية كإداري صلب ومفكر محترم، ورأي "الغارديان" ان السفير السعودي في لندن ليبرالي حقيقي ومصلح، وأنه يتمتع بسمعة نظيفة. والكلمات السابقة كلها ترجمة حرفية عن الانكليزية. مع ذلك يلقى الدكتور القصيبي معارضة داخل منظمة لا تتمتع بمثل سمعته، فتهم الفساد والتضخم الإداري والمحسوبية، وتوظيف الأبناء والعشيقات، تكاد تكون من عمر اليونسكو، وهي تهم أكد أكثرها أخيراً تقرير مستقل دفعت نفقاته كندا. وكانت بريطانيا والولايات المتحدة انسحبتا من عضوية اليونسكو في أواسط الثمانينات بسبب شعورهما بسيطرة الكتلة السوفياتية وحلفائها عليها، وعادت بريطانيا سنة 1997. وهبطت سمعة اليونسكو الى الحضيض خلال ولاية السنغالي امادو مبو، وخلفه المدير العام الحالي، الاسباني فدريكو مايور، سنة 1987 وأجرى اصلاحات كثيرة من دون أن يزيل كل التهم والشكوك العالقة بهذه المنظمة الثقافية الأولى في العالم. الدكتور القصيبي يستطيع أن يصلح الإدارة المتضخمة، فهو إداري محترف، واولوياته في العمل صحيحة عندما يتحدث عن إعادة توجيه اليونسكو لتركيز الجهود على مكافحة الأمية في عالم يضم بليون أمي، ثم مكافحة "أمية الكومبيوتر". اليونسكو تضم 58 دولة، وعندما يجرى هذا الشهر التصويت لاختيار مدير عام يديرها اعتباراً من الشهر القادم، سيواجه السفير الشاعر منافسة من حوالى 11 مرشحاً، أهمهم الياباني كويتشيرو ماتاسورو، وهو سفير بلاده في باريس الآن، والمصري الدكتور اسماعيل سراج الدين، نائب رئيس البنك الدولي. أغرب ما في التنافس على المنصب ان الذين يدعمون المرشح المصري بديلاً من المرشح السعودي يقولون إن الدكتور القصيبي آت من بلاد بعيدة عن مبادئ اليونسكو وكل ما تمثل من فكر وثقافة. غير أن مصر متهمة في الخارج مثل المملكة العربية السعودية في موضوع حقوق الإنسان، واتهام واحدة دون الأخرى هو مثل أن تقول المقلاة للابريق أنه أسود، وهذا مثل انكليزي يعرفه الدكتور سراج الدين جيداً. ومع هذا وذاك فالترشيح هو للرجل لا الدولة. كل من المرشحين العربيين أهل للمنصب، غير أن تسريب التهم يلطخ مطلقها، كما يصيب المستهدف بها. وفي هذه الحالة بالذات يفيد المرشح الياباني، وهو دبلوماسي محترف باهت الصورة، لا طعم له ولا لون. أتوقف هنا لأحكي قصة ولأحاول في نهايتها أن أربطها بما أنا فيه اليوم. يقيم وزير خارجية فرنسا كل سنة حفلة مشهورة في نيويورك على هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأذكر ان الأمين العام السابق الدكتور بطرس بطرس غالي كان يقرأ خطابه كله بالفرنسية، وهي لغته الثانية بعد العربية وقبل الانكليزية. اما الأمين العام الحالي كوفي انان فكان يبدأ بالفرنسية ثم ينتقل الى الانكليزية لأن إلمامه بالأولى ضعيف... غير أن الفرنسيين أصروا هذه السنة على أن يقرأ خطابه كله بالفرنسية. وأعرف أنه راجعه مرات، وقرأه مع مساعديه، ليستطيع أن يرضي الفرنسيين بالقائه ومعرفته بلغتهم. الفرنسيون يضعون فيتو على أمين عام للأمم المتحدة لا يتكلم الفرنسية، لذلك لا استبعد أن يكونوا وراء الحملة، أو بعضها، ضد ترشيح الدكتور القصيبي، مع أنهم لا يصرحون بذلك لأنهم لا يريدون أن يغضبوا بلاده. وحتى إذا صدقنا أن بوركينا فاسو رشحت الدكتور سراج الدين من دون طلب فرنسي، فإن من الواضح أن هذا الترشيح لاقى هوى عند الفرنسيين، واحتضنه الدكتور بطرس غالي فوراً لأسباب الفرنكوفونية، بالاضافة الى أسبابه الشخصية، والمواطنية التي تجمعه مع المرشح المصري. اليوم، انتقل الدكتور القصيبي الى باريس ليبقى فيها حتى بدء عمليات التصويت بعد منتصف هذا الشهر. اما الدكتور سراج الدين فهو يقود حملة ذكية، وبالاضافة الى صفحة على الانترنت تدعم ترشيحه، جمع تواقيع عشرات من الفائزين بجائزة نوبل والشخصيات العالمية التي أعلنت تأييدها له. وهو في فرنسا تعامل مع المثقفين قبل الحكومة، فالمثقفون الفرنسيون يشكلون جماعات ضغط مؤثرة في موقف الحكومة الفرنسية التي يؤثر بالتالي موقفها الحقيقي، وليس بالضرورة المعلن، في دول الفرنكوفونية كلها. مع ذلك الدكتور سراج الدين ليس من مستوى الدكتور القصيبي قدرة شخصية، أو شهرة اقليمية وعالمية، وترشيحه لن يفيد سوى المرشح الياباني في وقت تنظم فيه اليابان حملات على مستويات عدة لانتزاع مناصب دولية لها. وهي انتزعت من العرب قبل سنتين منصب الأمين العام المساعد للأمم المتحدة لشؤون الإعلام، فلم يحرك العرب ساكناً، وكان أن طمعت بمنصب المدير العام لليونسكو بعد أن كنا سمعنا أن الحكومة اليابانية وعدت بدعم المرشح السعودي لليابان الآن منصب المفوض العام للاجئين، وأمين عام مساعد لبرنامج التنمية الدولي، وحتى أخيراً رئيس منظمة الصحة العالمية. واختتم، كما بدأت، برأي الآخرين في الدكتور القصيبي لا رأيي المعروف، فجريدة "الاندبندنت" لخصت قائمة المرشحين كلها بالنقل عن لسان دبلوماسي معتمد لدى اليونسكو في باريس قوله "ان القصيبي رجل مهيب مؤثر، وسط مجموعة من المرشحين أكثر تفاهة من الماء الآسن".