حسمت السلطات الأردنية بخطوتها المفاجئة التي أغلقت بها مكاتب "حركة المقاومة الاسلامية" حماس في الأردن العلاقة بين الأردن و"حماس" والتي تراوحت بين انفراج وتوتر منذ بدء نشاط الحركة على الساحة الأردنية في مطلع التسعينات. وفيما ربطت جماعة الاخوان المسلمين في الأردن التي تداخلت مع حركة "حماس" أحياناً وتماهت احياناً أخرى بين الخطوة الأردنية وتعيين رئيس المخابرات الاسرائيلية "موساد" السابق داني ياتوم منسقاً للسلام مع الأردن وقدوم وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت في الاسبوع المقبل تساءلت ما إذا كانت الخطوة المفاجئة "مقدمة لمرحلة جديدة"؟ وتتساءل الأوساط السياسية في الأردن عن طبيعة العلاقة المقبلة بين الاخوان المسلمين والنظام والتي ستثأثر بما ستؤول إليه أوضاع "حماس" في الأردن. في سنة 1992 وافقت الحكومة الأردنية التي كان يرأسها الأمير زيد بن شاكر على استضافة المكتب السياسي ل"حركة المقاومة الاسلامية" حماس، وعلى اثر هذه "الموافقة" دخل الى الأردن الدكتور موسى أبو مرزوق الذي يحمل وثيقة سفر فلسطينية وعماد العلمي الذي يحمل جواز سفر مغربياً مُبعد من غزة وعائلته ذات أصول مغربية، ولم تكن ثمة مشكلة مع باقي أعضاء المكتب السياسي كونهم يحملون الجنسية الأردنية. وكان الاتفاق غير الرسمي بين الحركة والحكومة نتيجة لواقع تاريخي ساندته ظروف موضوعية آنذاك. اذ ان "حماس" ظلت جزءاً من حركة الاخوان المسلمين الأردنية حتى اندلاع الانتفاضة في عام 1987، وعندما تشكل المكتب السياسي ل"حماس" في الخارج في التسعينات، كان أكثرية اعضائه من الأخوان المسلمين الأردنيين، فعلى سبيل المثال كان ابراهيم غوشة عضواً في القسم السياسي لجماعة الاخوان المسلمين في الأردن، وكان اسمه من ضمن اعضاء اللجنة التحضيرية التي أنشأت حزب جبهة العمل الاسلامي الذراع السياسية للأخوان المسلمين في عام 1990. وفي ظل علاقات "أخوية" عمرها زهاء نصف قرن غدا الفصل التنظيمي بين الاخوان الأردنيين و"حماس" رخواً إلى درجة تسمح بالتدخل احياناً والتماهي احياناً أخرى، يُضاف الى ذلك الواقع الديموغرافي في الأردن حيث يشكل الأردنيون من اصل فلسطيني زهاء نصف السكان. هذا الواقع التاريخي والديموغرافي غذّاه في مطلع التسعينات أوار حرب الخليج الثانية التي كادت تداعياتها تحول الأردن من بلد "صديق" للولايات المتحدة إلى بلد "محاصر" بتهمة مناصرة العراق. إضافة إلى ذلك كانت الحالة الثورية للشارع الأردني مصدر قلق للأجهزة الأمنية، إذ شهد مطلع التسعينات بروز تنظيمات اسلامية تتبنى خيار العنف، وشهد تنظيم الاخوان المسلمين المعروف بالاعتدال تاريخياً اختراقات من جماعات الجهاد الفلسطينية، التي جندت بعض شباب الاخوان في الجامعات لتنفيذ عمليات ضد الجيش الاسرائيلي عبر الحدود الأردنية - الاسرائيلية. ونتيجة للتداخل بين "الاخوان" و"حماس" سجلت محاولة لتهريب كمية كبيرة من السلاح إلى "حماس" في داخل فلسطين عبر الأردن، واعتقل في تلك المحاولة عدد من كوادر "حماس" وكوادر "الاخوان" بعضهم في مواقع قيادية مثل ممدوح المحيسن الذي كان عضواً في مجلس بلدية الزرقاء وعضواً في الهيئة الادارية لشعبة الاخوان المسلمين. خرج المعتقلون في تلك القضية في أطار العفو العام الذي أصدره الملك حسين عقب عودته من رحلة العلاج الاولى عام 1992، بيد ان محاولة التهريب كانت دافعاً للسلطات الأردنية وللأخوان المسلمين لترسيم علاقة جديدة مع "حماس" تقوم في جوهرها على الالتزام بعدم ممارسة العمل العسكري بأي شكل من الاراضي الأردنية. ولم يكن الوجود السياسي ل"حماس" في الأردن مصدر قلق، فالقيادات السياسية والاعلامية للحركة لم يكن خطابها مختلفاً عن خطاب الحركة الاسلامية التي كانت تعيش عصرها الذهبي آنذاك وكان لها 22 نائباً في مجلس النواب وحصلت على 5 حقائب وزارية. وربما كان خطاب قيادات "حماس" أكثر اعتدلاً من خطاب نواب الحركة الاسلامية في البرلمان الأردني. ولم يكن مستغرباً ان تعقد قيادات "حماس" مؤتمراتها الصحافية في مكتب نواب الحركة الاسلامية. وفي تلك المرحلة أسست "حماس" عدداً من الواجهات العلنية التي تتعامل فيها مع الأوساط السياسية والاعلامية بموافقة السلطات الأردنية، مثل المركز المعاصر للمعلومات والدراسات، الذي كان يستخدم مكتباً لممثل "حماس" في الأردن وعضو مكتبها السياسي محمد نزال، وكانت تعقد فيه مؤتمرات صحافية تغطيها وسائل الاعلام العالمية. وكان رئيس المكتب السياسي آنذاك مرزوق يتخذ من شقته مكتباً فيما كان نائبه خالد مشعل يتخذ من شركة تجارية "مركز شامية" في شارع الغاردنز مكتباً له، وهو المكتب الذي شهد محاولة الاغتيال الفاشلة. وكان المكتب الاقليمي لمجلة "فلسطين المسلمة" مقراً لعبدالعزيز العمري عزت الرشق المسؤول الاعلامي في المكتب السياسي. توقع قياديو "حماس" السياسية ان يؤثر اتفاق اوسلو على وجودهم في الأردن بيد ان المسؤولين الأردنيين كان يؤكدون ان لا تغيير على "الاتفاق" طالما ان "حماس" ملتزمة بشروطه. ومع توقيع الأردن معاهدة السلام عام 1994 التقى مسؤولو الحركة بمسؤول أمني كبير كرر لهم ما ذكره بخصوص اتفاق اوسلو. وعندما كان شمعون بيريز يسأل عن وجود قادة "حماس" في الأردن كان يقول "نفضّل وجودهم في عمان عن وجودهم في طهران". وكان الملك حسين يكرر في تصريحاته ان بلاده لا تتعامل الإ مع السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني. عن تلك الفترة يتحدث الاسرائيلي نيحمان تال الذي عمل في جهاز "شاباك" 41 عاماً في كتابه "مواجهة من البيت: مواجهة مصر والأردن مع الاسلام المتطرف"، والكتاب ثمرة بحث استمر ثلاث سنوات برعاية مركز "جافي" للابحاث الاستراتيجية في جامعة تل أبيب والذي انضم له نيحمان بعد استقالته من "شاباك". وكان حينها 1993 - 1994 ممثلاً للشاباك في مفاوضات السلام الأردنية - الاسرائيلية وشارك في صياغة بنود الاتفاق والملاحق المتعلقة بالقضايا الامنية. يؤكد تال الذي غربل المسؤولون الامنيون في اسرائيل كتابه ان "ثمة حقيقة تاريخية لم أكن مستعداً للمساومة عليها" وتقول الحقيقة في الصفحة 253 من الكتاب ان "النظام الهاشمي لا يعمل بالصداقة المطلوبة من اجل إحباط تدخل نشطاء "حماس" في الأردن، الدين يصدرون تعليماتهم من اجل تنفيذ عمليات ضد اسرائيل ويقدمون مساعدات مادية لوجستية لحماس في الضفة الغربيةوغزة". ويرى ان تسامح النظام الهاشمي مع "حماس" انبثق من سياسته الشاملة "ازاء حركة الاخوان المسلمين التي هي عملياً حماس في المملكة". وبدا واضحاً الربط بين "حماس" والاخوان في اول لقاء بين قيادة الاخوان المسلمين والملك عبدالله الثاني في 18آذار مارس الماضي، والذي حضره الى جانب العاهل الأردني رئيس الديوان الملكي عبدالكريم الكباريتي. وحضره من "الاخوان" المراقب العام عبدالمجيد ذنيبات واعضاء المكتب التنفيدي، اذ فيما أكد الاخوان وقوفهم "خلف القيادة الهاشمية وتحت رايتها" طالبوا بالإفراج عن 12 معتقلاً من حركة "حماس"، كانوا اعتقلوا على خلفيات اتصالات من مطاردين في الاراضي المحتلة، وبالفعل أمر الملك الجديد بالافراج عن المعتقلين. بيد ان الأردن كان يستجيب للضغوط حتى في عهد الملك حسين، كما حصل في العام 1996 عندما أبعد الدكتور موسى أبو مرزوق وعماد العلمي بطلب من السلطات الأردنية، ومع ذلك فإن الملك حسين توسط في العام 1997 لدى الادارة الاميركية للافراج عن أبو مرزوق الذي كان اعتقل فور وصوله الاراضي الاميركية ونجح في مسعاه ومنحه حق الإقامة في الأردن. واستغل العاهل الأردني الراحل محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل في العام ذاته للافراج عن مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين. وكانت محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها خالد مشعل من أهم محطات علاقة "حماس" بالأردن، إذ يبدو ان تلك المحاولة أجلت الاجراءات التي اتخذت بحق "حماس" أول من أمس، فقبيل المحاولة اعتقلت اجهزة الامن الأردنية الناطق الرسمي باسم الحركة ابراهيم غوشة وأبلغة مسؤول أمني بأن وجود "حماس" في الأردن انتهى. وتزامن ذلك مع زيارة لوزيرة الخارجية الاميركية أولبرايت للمنطقة. بيد ان محاولة الاغتيال الفاشلة أعادت علاقة "حماس" مع الأردن إلى المربع الاول، فقد شعر الملك بالغدر والخديعة من الاسرائيليين، فيما شكلت المحاولة فرصة للتحلل من الضغوط، ونجح الملك حسين في انقاذ حياة خالد مشعل والإفراج عن مؤسس الحركة، وعندما استقبله بعد شفائه قال له بحضور نجله الأمير حمزة ولي العهد لاحقا "أنت مثل ابني". والحال ان علاقة الملك حسين الأبوية مع الاخوان المسلمين و"حماس" لم تكن لتصمد دائماً في ظل متغيرات العملية السلمية، خصوصاً ان اتفاق واي ريفر الأخير الذي ساهم الملك الراحل في انجازه هو اتفاق أمني في جوهره، وتشكل "حماس" العقبة الأمنية الاساسية امام اسرائيل. وفي اثناء مرحلة استشفاء الملك أبلغ قياديو "حماس" بصورة غير مباشرة بأنه لم يعد مرغوباً بوجودهم كما حصل اثر منع خالد مشعل من المغادرة إلى سورية إذ قال له ضابط الامن "إذا خرجت فلن تعود". وعندما شارك خالد مشعل في جنازة الملك حسين وقدم العزاء للملك عبدالله الثاني أكد للملك ان الحركة ستظل على عهدها "حريصة على أمن البلاد واستقراره". ويبدو ان توقيت الحملة الامنية ارتبط بغياب خالد مشعل وموسى ابو مرزوق عن الأردن، وربما كان في ذلك رسالة لهما بأن لا يعودا لما يمثلانه من ثقل. والسؤال المطروح في عمان هو: الى أي مدى ستستمر الحملة وهل ستشمل "الاخوان"؟ قيادي الاخوان يجيب ببساطة: "الحملة على حماس هي حملة على الاخوان ولن نقف مكتوفي الأيدي". والمؤكد ان الحملة غير المسبوقة على "حماس" ستطرح اسئلة كبيرة على مستقبل علاقة "الاخوان" مع النظام التي صمدت اكثر من نصف قرن.