منذ أيام وأنا أحاول أن أتذكر، أين رأيتها من قبل!! عيناها الضيقتان، كعيني طائر، هما من نوع غريب، يظهر فجأة في مكان موحش، ويترك في أثره ما يشبه الريبة!! كنت أراقبها من حجرتي، وهي تنتقل في البيت باعتياد، وبيدها فرشاة التنظيف، تمسح التراب من فوق الاثاث، وهي ترفع حاجبها الايمنى من دون سبب واضح، شعرت على نحو غامض بغضب هائل، ودهشت من ترددي في طردها!! قلت دون ان أترك غرفتي: كفاية كده. ظلت صامتة، كأنها لم تسمعني، فهرولت نحوها، وحين وقفت أمامها شعرت بارتباك هائل!! قالت: فيه حاجة!! نظرت في تلك العين الغريبة وقلت: كفاية كده. - لسة ماخالصتش راحت تنهي ما بيدها، وأنا أراقبها بطرف عيني، متظاهرة بأني أرتب بعض الكتب في المكتبة، يتسلل إليّ ذلك الشعور المقبض، والذي يزداد غموضاً نحوها، رحت أفكر أننا ألتقينا في حادثة ما، بعيدة، لم يبق منها سوى أثر موحش، حاولت من جديد أن أتذكر، لكنني لم أفلح!! قررت في تلك اللحظة طردها بالفعل، ونسيان الأمر كله، لكنني قطعت الطريق عليها قائلة: "بس أنا شفتك فعلاً قبل كده"، نظرت في عيني بحدة وإصرار، فاستطردت متلعثمة: - "مانيش فاكرة!! أقصد يعني.. زمان كده!! ضيقت عينها ثم قالت:"أبداً". تركتني ودخلت حجرتي، بألفة لم أفهمها، وجدتني ازداد ارتباكاً، هرولت خلفها ورأيتها تنحني لتلتقط شيئاً ما سقط فوق الأرض. قلت في حدة: حاسبي هاتكسري الفازة. - أنا ماجيتش جنبها. - إزاي.. دي تذكار عزيز. - ماجيتش جنبها. - طيب. جلست في الركن، وصورتها وهي تنحني، بتلك الإلية المرتفعة، والعروق الزرقاء التي تملأ ساقيها، وهما يسربان اليّ شعوراً غامضاً بالخوف!! فكرت في أن هذه السيدة قد تسببت في ايذائي يوماً ما، وانها لن تتحدث عن ذلك أبداً!!. تتحرك في البيت، كأنها تملكه، لا تتوقف عن الحركة، تنظر الى اللوحات فوق الجدران نظرة لا تخلو من سخرية، بالأمس فتشت في كل الصور القديمة لعلي اضبطها في واحدة منها، لكنها لم تكن هناك، أحدق طويلاً في تلك البيانات ببطاقتها الشخصية، لكنها لا تذكرني بأي شيء، كيف أنني لم أعد أذكر شعوري نحوها منذ أن رأيتها للمرة الأولى!! متى تسرب اليّ كل هذا بالضبط؟!. - استريحي شوية. - لا.. عايزه أخلص. - ماتعبتيش. - ... ... ... أشارت إلى مقعد قديم وكبير وقالت: - حاجيبه هنا أحسن. صرخت في وجهها: لا ثم أشعرت بالخجل والضيق.. قلت: آسفة. حملت المقعد، ووضعته في المكان الجديد، حدقت إليه، وتمنيت أن تأتي مناسبة لأنظر في وجهها طويلاً، وأتعرف عليها، لكنها كانت تتحرك بسرعة، ثم تختفي في إحدى الغرف، وتعود مسرعة من جديد. قلت: هنا فعلاً أحسن. ابتسمت.. وكانت حين تفعل ذلك يظهر كل فكها العلوي بصورة عجيبة، وينكمش أنفها الى الداخل، كأنها تستنشق شيئاً ما بعمق، وتتحرك تلك العين بتلصص في كل الاتجاهات!!. أقتربت منها من جديد قلت: إيه رأيك فيّ؟ - إزاي؟ - أنا كويسه؟ - آه كويسه ثم حملت منضدة في حركة سريعة، ووضعتها جانباً.. - كويسه في ايه!!. - في كل حاجة يا مدام. وشعرت بالغيظ يخنقني، وأخذت أفكر من جديد، في أنها لا بد أن تسببت في إيلامي يوماً ما، بل إن شعوراً بالخزي يتسرب اليّ، وخيل إليّ أنها كانت طرفاً في تواطئ ما ضدي!!. في الصباح انتظرها خلف فتحات الشيش لأراها، وهي تهرول نحو بيتي، وأقرر أن أطردها، لكنني لم استطع ولو مرة واحدة!! قلت: مبسوطة معانا؟ - الحمد لله. - يعني مش متضايقة؟ تنهدت.. ثم ابتعدت مسرعة من دون أن تجيبني، ورأيت خيالها في زجاج الحمام، وهي تبدل ملابسها فكرت أن اقتحم الباب، وأسبها، لكني لم أفعل!! سارت أمامي مهرولة، وفتحت الباب وخرجت. رحت أراقبها من خلف الشيش كالعادة، وهي تمشي في الشارع الطويل.. وتختفي. * كاتبة مصرية.