الداخل إلى حارة محروس عفيفي سيجد أنها تضيق حتى تنتهي ببيت قديم. البيت أربعة أدوار. كل دور خمس غرف. في كل غرفة تعيش عائلة. الدور الأرضي منه بعد دخول الباب الضيق والذي يجبرك على الانحناء عند الدخول للبيت وعبور الطرقة الضيقة للمدخل والتي تصطف على جوانبها الحجرات الأربع، على يمين السلم وفي نهاية الطرقة تستقر الحجرة الخامسة وهي أضيقها، دائماً يصدر منها صوت عال، غالباً لأغنيات صاخبة. الحجرة تشغلها سلمى من زمن، تظل أياماً لا تخرج إلا لقضاء الحاجة. دائما تغلق على نفسها. والصوت دائماً مرتفع. شغلتها بعد أن مات أهلها، لا يعرف أحد مصدر دخلها، يقولون إنها عادت إلى الغرفة بعد أن طلقها زوجها، آخرون يقولون إنه لم يطلقها وإنه اكتفى بأخذ أطفاله منها وهرب إلى حيث لا تصل إليه. حاول الحاج عبدالله طردها من البيت أكثر من مرة لكثرة شكوى الجيران منها وما يسمعه عن سلوكها، غير أنه في كل مرة ينوي على ذلك تستحلفه زوجته الحاجة نعمة أن يتركها: حرام عليك يا حاج. دي غلبانة وملهاش حد في الدنيا. كفاية عقلها طار من يوم ما جوزها أخد عيالها وهرب. ربنا يشفيها. وكلام الناس يا حاجة، بيقولوا مشيها بطال. مشوفناش منها حاجة وحشة يا حاج، والناس كده كده مش هاتسكت عن الكلام. كله كلام يا حاج عبدالله. تغور بالستة جنيه إيجار اللي بتدفعهم كل شهر. إيه ذنبي أنا. عندنا ولايا يا حاج. ربنا يعافيها. ويسكت الحاج عبدالله. وتأتي شكوى جديدة فيثور. وككل مرة تستحلفه زوجته الحاجة نعمة أن يتركها. ويتركها على مضض. الغرف الأربع المتبقية تشغل عائلة نور الدين ثلاثاً منها. والغرفة الرابعة في نهاية الطرقة على اليسار أبقاها الحاج عبدالله صاحب البيت «ورشة نجارة» لابنه الأكبر شهاب. العلاقة بينهما دائماً متوترة. فالحاج زوج كل أبنائه وبقي شهاب، يبتهل إلى الله دوماً أن يمد في عمره حتى يراه في بيته مع زوجته، وحالته الصحية دائماً في تأخر، خطب له أكثر من مرة، وفي كل مرة لا تظل الخطوبة أكثر من شهور، ويقول الحاج عبدالله في حزن: أعمل له أيه؟ لا شغل عايز يستقر فيه، ولا خطوبة بتعمر له. الحاجة نعمة من ناحيتها تميل إلى الولد فهو «البكري»، دائماً ما تأتي في صفه: بكرة ربنا يهديه يا حاج... أيه رأيك في وردة بنت الحاج نور الدين اللي في الدور الأرضي؟ ملاحظة أن البنت عينها منه. وهو بيرتاح لها. قول آمين يا حاج وسيب لي الموضوع. طيب ولو عمل زي كل مرة وبعد كام شهر سابها وعمل لنا مشاكل. مالكش دعوة يا حاج... ده ابني وأعرف ازاي أقنعه. والبنت ناصحة وها تقدر عليه. أنا مالي. المهم أخلص منه وأشوفه متجوز قبل ما أموت. حاسس أن أجلي قرب يا نعمة. والولية اللي اسمها سلمى دي تقلقني عليه. ملاحظ انه بينزل يقعد كتير في الورشة من دون سبب. دي ولية ملهاش راجل وسيرتها مش كويسة. بعد الشر عنك يا حاج. بكرة تفرح به وتشيل عياله. سيب الموضوع عليا. وتتم الخطبة، وترقص سلمى في الشادر المنصوب للفرح، وينساها الحاج ولا تأتي سيرتها على لسانه بعد أن شغلت وردة ابنه. وتغيب سلمى كعادتها أياماً وتعود. تغلق بابها على نفسها فلا يُسمع لها صوت، غير أنه أحياناً ما تقوم بالليل فزعة تصرخ. صراخها يخرج متواصلاً لا يوقفه أحد، لا يجرؤ أحد أصلاً على أن يقترب منها في حالتها تلك. تسب وتضرب كل من يحاول أن يقترب، تأخذ نوبتها في الصراخ كما تشاء من دون تدخل من أحد حتى تكف، يقولون إنها ربما تذكرت أبناءها، تذكر أسماءهم في صراخها، البعض يقول إنها ربما ذهبت لتعرف مكانهم، أو ربما عرفته فعلاً ورأتهم، وقبل أن يظهر الصباح تكون قد سكتت وأغلقت بابها عليها ونامت. في هذا الصباح خرجت مبكراً، خرجت قبل أن يصحو أحد ساكني البيت، هذا ما قالته لهم الحاجة نحمده حين جاءت سيرتها بعد أيام من غيبتها: شفتها خارجة بعد الفجر تتسحب. شايلة صرة هدوم على كتفها وماشية. رايحة فين الله أعلم؟ حين سمع الحاج عبدالله قال مبتسماً: تغور. هذه المرة طالت غيبتها فنسيها الجميع، البعض فسر الأمر أنها قد تكون عثرت على زوجها واستقرت معه، ربما ردها إلى عصمته، أو ربما عثرت على من يقبل بها زوجة. الغرفة عليها قفل كبير، ويأتي من يطلب تأجيرها، هذه المرة الحاج نفسه كان يرفض، ويقول في اقتضاب: مش لما نعرف سلمى راحت فين؟ دي عليها شهور إيجار متأخرة. بعد إلحاح من زوجته علق فوق الحجرة لافتة «للإيجار». اللافتة تآكلت أطرافها بعد فترة. ذلك اليوم وقبل الفجر بقليل سُمعت حركة أمام الغرفة، القفل يشد ويفتح. نعم هي سلمى. عادت بعد شهور، دخلت حجرتها وأغلقتها، ولم يصدر أي صوت حتى العشاء. في المساء نزل إليها الحاج عبدالله، طرق الباب في هدوء، أتاه صوتها نائماً لا يزال: نعم يا حاج. عايز حاجة؟ كنتي فين يا بنتي قلقتينا. عايزة أنام. طيب والإيجار المتأخر؟ مش معايا فلوس يا حاج. نظر إلى الباب الموصد صامتاً. سحب اللافتة المعلقة فوق الباب، وضعها تحت إبطه وضرب كفاً بكف. رفع ذيل جلبابه، انتبه إلى اللافتة تحت إبطه، ألقاها على الأرض ودهسها بقدميه.