اواسط الثمانينات سافر الشاب سمير لتحضير الدكتوراه في المانيا. وبعد ان انهى دراسته أواخر العقد المذكور فاجأ أهله وأقاربه بالعودة الى وطنه سورية برفقة زوجة المانية يلفت الانتباه تواضعها الشديد وحيويتها واسمها ماريا. وفي بيت العائلة في قريته النائية في ريف محافظة اللاذقية سكن الشاب وزوجته مع والديه لأكثر من سنتين قبل ان ينهي خدمته الالزامية ويبني بيته الصغير في الساحل السوري بين مدينتي جبلة واللاذقية. كانت الأسابيع والاشهر الاولى صعبة للغاية في قرية لا تغيب عن سكانها شاردة او واردة تحصل على مدى الاربع والعشرين ساعة. ويعبر احد ابنائها عن ذلك بقوله: "اذا رقصت فارة في مشرق الضيعة فإن اخبار الرقص تتحول الى مسرحية يتناقلها السكان في الجهات الاخرى لأسابيع واشهر طويلة". وبالنسبة للزوجين كانت نظرات الشك والريبة تلاحقهما في كل خطوة يخطوانها. وكانت الأحاديث التي لا تنم عن حسن نية تتراكم من ساعة الى اخرى لتعكر صفو الهدوء الذي حلما بها بعيداً عن حياة الضوضاء في المدينة. كما ان النصائح توالت على سمير من كل حدب وصوب لترك زوجته واعادتها الى بلادها بحجة انها "لن تستطيع التأقلم مع عاداتنا وتقاليدنا". ووجهت قريباته، سيما زوجات عمه وخالاته، اللوم اليه بعبارات مبطنة مثل "ما عجبك كل بنات سورية حتى تأتينا بالمانية". وفي الحقيقة فإن كلاً منهن كانت تأمل بأن تزوجه ابنتها او قريبة لها. وعبر العديد من معارفه عن خشيتهم على سمعته لأن الأوروبيات حسب رأيهم متحررات أكثر من اللزوم، مما يجلب المشاكل لأزواجهن في مجتمعاتنا المحافظة. ووصل الامر ببعضهم الى حد تقديم عروض لعقد قرانه على احدى فتيات القرية. ومع ازدياد الضغوط على الشاب بدأ يشك بإمكانية الاستمرار مع زوجته الشقراء بالرغم من حبه لها وثقته القوية بها. وبنتيجة ذلك طرح عليها فكرة العودة الى وطنها لمدة عام ريثما ينهي خدمته العسكرية. غير ان الزوجة رجته ان يمهلها بضعة اشهر كي تجرب الحياة مع اهله اولاً قبل ان تقرر البقاء ام لا. وبعد بضعة أسابيع التحق سمير بخدمته العسكرية وقلبه يخفق خوفاً على ماريا التي تركها مع اهله في القرية. وبدورها عبرت ام سمير عن خشيتها من بقائها لأن "المسكينة" حسب تعبير الأم، لا تعرف من لغتنا سوى القليل. وبقيت لعدة أسابيع تتساءل عما ستفعله اذا مرضت ماريا او اصابها مكروه لا سمح الله. ولكن الزوجة الألمانية فاجأت الام بقدرتها السريعة على التأقلم وعلى تعلم اللهجة المحلية والتفاهم بسرعة لم تكن متوقعة. ومع غياب الزوج انشغلت والدته كما في سابق عهدها باظهار اقصى ما لديها من كرم الضيافة لزوجته. فكانت على سبيل المثال تقوم يومياً بتحضير او شراء اشهى انواع الاطعمة من محاش وكباب ومشاو وحلويات... الخ. وكان هدفها الأساسي التغلب على نحافة ماريا التي بدت بالنسبة اليها كهيكل عظمي لأنها "لا تأكل اكثر مما يأكل عصفور صغير". كانت تقول لها في كل مرة كلي يا ابنتي حتى تشبعي... الله يرضى عليك تغذي حتى تسمني بعض الشيء ويفرح سمير بك اكثر. ماذا سيقول الناس عنا عندما يرونك هكذا كالغصن اليابس؟ وماذا سيقول اهلك عندما تعودين اليهم بالسلامة؟ الخ. اما ماريا فكانت تضحك طويلاً لحكايات الوالدة وتحاول طمأنتها بعبارات مثل: سمير يحبني نحيفة هكذا، وهو يزعل مني اذا زاد وزني، ولا يهمه كلام الآخرين عن صحتي. مع مرور الوقت تقربت الصبية الشقراء شيئاً فشيئاً الى حماتها ام سمير. وبدأت ذلك بالمبادرة الى مساعدتها في تدبير امور المنزل وتعلم بعض فنون الطبخ. ومع الأعمال المنزلية مساعدة الوالدة في زراعة ورعاية وجني التبغ الذي يعتبر الزراعة الأساسية في ريف اللاذقية. وذات يوم طلبت من حماتها ان تعلمها كيفية صناعة خبز التنور كي تريحها من عنائه. وبالأضافة لذلك كانت ماريا تقوم باعمال صيانة تعتبر من اختصاص الرجال في بلداننا. ومن هذه الاعمال على سبيل المثال اصلاح حنفيات او صنابير المياه في البيت، وكذلك فيش الاجهزة والادوات الكهربائية، والقيام بدهان الشبابيك والابواب... الخ. ولم تتفع نداءات الوالدة لها بعدم القيام بذلك خوفا من ملاحظات الجيران واهل الضيعة. وكانت الام تقول لها: ارتاحي، الله يرضي عليك. ما سيقول الناس عنا؟ صدقيني انهم سيبهدلوننا في كل مكان. الا تكفي نحافة جسمك؟ الخ. اما ماريا فكانت تتعجب من كلام الام، لا سيما انها تعمل في بيت العائلة فقط. ومن اشد ما كان يزعجها الحاح ام سمير عليها للجلوس من دون عمل كما تفعل الكثير من النسوة والفتيات في قرانا ومدننا. ومما يلفت الانتباه ان الأخيرات يعتبرن ذلك نعمة حتى ولو تضاعف وزنهن بسبب ذلك. وبالنسبة الى ماريا فإن الجلوس من دون عمل يعني الملل والضجر وتضييع الوقت. وهذا ما حاولت توضيحه للوالدة التي كانت تجيبها: يا الهي كم سيكون بلدنا اغنى واحلى لو ان شبابنا وبناتنا يفكرون ويسلكون مثلك. ومن اشد ما عجب الوالدة قيام زوجة ابنها بارتداء الملابس التي لا تثير ملاحظات الآخرين كما تفعل بعض فتيات الضيعة اللواتي يدعين التحرر. وعندما مرضت الام ذات يوم رافقتها ماريا الى الطبيب وفي المستشفى وهي تسندها وتقطعها الشارع وتشد على يدها. سلوك ماريا هذا فأجأ زوجها الذي كان يتردد على القرية من فترة لأخرى بإجازاته القصيرة طوال عام الخدمة. فهو لم يكن يعتقد ان زوجته ستكون مرنة وعملية الى هذا الحد في المرحلة الجديدة من حياتها. اما والدته فانتهت من اعادة النظر في الاحكام المسبقة على زوجة ابنها وامثالها بشكل عام. ومن جملة ما كانت تردده: الله يوفقها ويبعث لها الخير، فهي تستيقظ في السادسة لتطعم الدجاجات وتساعدني في حلب البقرة ومن ثم التوجه الى الحقل لقطف التبغ. ولا يهمها لبس الذهب واحاديث الآخرين التي لا تريح... الخ. وفي المقابل فإن الكثير من بناتنا ينمن حتى الظهر ويسهرن على المسلسلات التلفزيونية ويقضين وقتهن في شرب القهوة وترتيب الولائم والزينة والثرثرة. واذا تحدثن فعن الآخرين وعن اسعار الذهب وكم اشترى فلان لخطيبته او لزوجته منه وما شابه ذلك، والمشكلة انهن يقمن بذلك في الوقت الذي نحن فيه في أمس الحاجة الى من يساعدنا في قطاف التبغ الناضج والمهدد بالجفاف من جراء حرارة الشمس. لم يمض عام على قدوم ماريا حتى اصبحت مثلا يحتذى به في القرية وجوراها. وهكذا قام آباء وازواج بدعوة بناتهم وزوجاتهم للتمثل بها وعدم التكبر على هذا العمل او ذاك. وتقول احدى جارات العائلة: ان العديد من بناتنا اصبحن يقمن بأعمال كن يتكبرن عليها في السابق بحجة انها لا تليق بهن. وتضيف: ابنة جارتي مريم مثلاً اصبحت تساعدة والديها في شغل الارض وكذلك الامر بالنسبة الى مها ورنا وسوسن وغيرهن. سمير من جهته تمكن بعد عامين على حياة القرية من تحقيق نجاح ملموس في عمله في مؤسستين احداهما تعليمية والأخرى استشارية في مدينة اللاذقية. وفي ضوء ذلك فكر جديا بالانتقال مع زوجته للسكن في شقة في المدينة. لكن ماريا طلبت منه ان لا يحرمها من متعة الحياة الريفية التي تعودت عليها. ومما شجعها على ذلك معرفتها بصعوبة حصولها على وظيفة بسبب حاجز اللغة على الرغم من انها تحمل اجازة في التأهيل التربوي في مجالي الرياضيات والفيزياء. ومراعاة لرغبة الزوجة قام سمير ببناء بيت متواضع على قطة ارض صغيرة اشتراها قبل اعوام في السهل الساحلي بين مدينتي جبلة واللاذقية. وبعد البناء والسكن حولت ماريا جوار المنزل الى حديقة ساحرة تحتوي على اصناف مختلفة من شجيرات الحمضيات والتين والعنب والرمان وعلى اصناف الخضار اللازمة للاستهلاك المنزلي. وبالأضافة الى ذلك فإنها تقوم بتربية طفلها احسن تربية كما يروى عنها. ووفقا للمعلومات المتناقلة فإن تأثيرها في محيطها الجديد لا يقل اهمية عنه في القرية التي تحظى الآن باحترام سكانها وتقديرهم. ان الغاية من عرض بعض جوانب حياة ماريا هذه ليست التشكيك بتقدير فتياتنا لقيم العمل وقيامهن به على العموم. فمن جملة ما يهدف اليه التنبيه الى ضرورة تجنب الاحكام المسبقة بحق الآخرين. كما ينطوي على التحذير من مخاطر ظاهرة تنتشر بسرعة في مجتمعاتنا العربية، وتتلخص بعزوف نسبة متزايدة من شاباتنا عن العمل باعتباره لا يليق بهن. ولا ينطبق ذلك على بنات الميسورين او زوجاتهم وانما ايضاً على المنتميات الى الفئات الوسطى. وكمثال على ذلك فإن العديد منهن يطالبن ازواجهن باستقدام خادمة آسيوية للاعمال المنزلية وتربية الاولاد حتى في الحالات التي لا يعملن فيها خارج البيت. ومن المعروف ان ذلك ينعكس سلباً على الاطفال ويعزز من نزعة اغترابهم عن عائلاتهم ومجتمعاتهم. ويحضرني هنا ما ذكرته لي شابة المانية عاشت في لبنان لبضع سنوات حيث قالت: يوجد في بيروت وحدها خادمات آسيويات اضعاف ما يوجد في المانيا. وأضافت ان الكثير من الشابات في بلدانكم يطلبن من شريك الحياة المسكين الشقة والذهب والجواهر والسيارة... الخ في الوقت الذي لا تطالب غالبية الشابات لدينا بأكثر من الحب والتقدير والاحترام المتبادل.