الابتهاج بقدوم العام ألفين سوف يختلف عما سبقه: فالجميع يعتقد أنه أمام مناسبة استثنائية: يحجز بعضه في فنادق العواصم الجذابة، يجتمع بعضه الآخر مع أهل مبعثرين في أنحاء الدنيا، فيما برامج من تبقّى تتوزع بين ابتهالات غير مألوفة، وأصناف من الاحتفالات قد تكون هي الوحيدة التي سوف يشهدها في عمره، إما في اللباس أو الطعام أو مكان الوجود أو الفنان الذي سيحييها. المهم أن أي امرئ متابع لشق من شؤون العالم وراغب بالانسجام في أجوائه، بدأ منذ الآن ينظم لهذه الليلة التي لن تشبه غيرها من الليالي. ومبعث هذه الأفراح البالغة يأتي من هيبة ما، تتمتع بها الألفية الثانية المنقضية والثالثة الآتية. انهم هيبة تتقوّم ذاكرتها بخوف مقيم في ضمير الثقافة الأوروبية ما قبل النهضوية، عندما كانت أوروبا القرون الوسطى قابعة في هواجس اختلطت فيها الدنيا بالدين، فحوّلت حينها ألفيتها الأولى، أي الألف الأول بعد المسيح، الى مناسبة لجرد خطاياها، طلباً للعقاب الإلهي عليها. لذلك، فإن الوجه الآخر لابتهاجات نهايات الألفية الثانية، وهو مكمّلها، تجده أيضاً لدى أي امرئ متفاعل مع ثقافة العصر العالمية: رعب شبه كارثي في تلك الليلة. فخيالات المتفاعلين مع هذه الثقافة لا تكتفي بإعادة إحياء كل المخاوف التي شهدتها أوروبا القرون الوسطى عشية الألفية الأولى، تأسيساً لهذا الرعب. بل نوّعت أشكاله وبثته عبر قنوات التعبير المتوافرة: في شرائط الفيديو كليب الذائعة، وسط المراهقين خصوصاً، حيث تمر الأغاني، وبصحبتها جحافل الوجوه الواجمة، والجماجم المكدسة على بعضها، ثم أقنعة الاشباح وزلزلة الأراضي، مرفقٌ جلّها بمعانٍ تشير، بلا مبالاة واضحة، الى نهاية الحب أو الدنيا، وألحان هي كالنذير لما ستكون عليه هذه الدنيا في ضجيج عندما تحين ساعتها... القريبة. أما السينما، الهوليوودية بخاصة، فلا تشعر بالحاجة الى التحدث المباشر عن النهايات التي تبشر بها الألفية الثانية، طالما معظم مناخها للإحساس الغامض ببشائرها الوخيمة. فهي تحيي يأساً خاصاً بالبشرية بانصبابها على انتاج نوع جديد من أفلام العنف، هو العنف المجاني، والشرور التي تسكن أبطالها لا تجد ما يبررها غير النظريات العلمية الرائجة الآن، والباحثة في الجينات وحدها عن أسباب الطبائع والملكات. فالجرائم "المتسلسلة" SERIAL المرتكبة في هذه الأفلام، تتم بلا أسباب مقنعة، اللهم تسجيلها سبقاً في العدد أو الشكل، هذا عن عوامل يُفترص بها صناعة الجمال بالصوت والصورة. أما في عالم الواقع، فصخب المجموعات الدينية الألفية لا يقل شؤما: نمتْ كالفطر في العقد الأخير، فتوسعت طوائفها وكبرت تجمعاتها في المجتمعات الغربية والمتقدمة. وكان صداها قوياً في المجتمعات غير الغربية، حيث قام القبر مقام الدليل على الحياة. وإذا أردتَ إجمال هذا الخوف، فلن تجد أفضل من الفكرة القديمة للألفية الأولى، المصطبغة بقليل من العصرية، والقائلة ان العالم سوف يشهد نهايته في هذه الليلة التاريخية: أما نُذر هذه المصيبة الكونية، فتجد مؤشرها في أية ظاهرة من ظواهر الطبيعة غير العادية، مثل الجفاف والزلازل والفيضانات والكسوف القمري، وكذلك من ظواهر اجتماعية مثل الانحلال الخلقي وانتشار المخدرات وضياع الفروقات بين الجنسين وتقهقر العائلة. هكذا تمضي كبريات المجموعات الألفية قُدماً في دعوة مريديها، والحشد لجذب مزيد من الأتباع، في سبيل الانتحار الجماعي يوم الالفية، يؤازرها في مشروعها المأتمي تفاقم الفقر والبؤس الروحي والفراغ المعنوي، وانحسار الجمال. إنه مناخ واجم ذاك المسيطر علينا، يختلط فيه التقوقع القلِق بفضول مرَضي، يتحول فيه واحدنا شبيهاً لبطل أحد الافلام الايطالية، غير المؤمن بربه، والمتطلع الى السماء متحدياً، ولكنْ أيضاً منتظراً لعنته لتنصبّ عليه في أية لحظة، عقاباً على عدم إيمانه. لكن خوف البطل السينمائي الايطالي لا يدوم غير لحظة واحدة، لم يحصل فيها عقاب، فيما خوفنا مديد، نعيشه منذ بداية ما يمكن تسميته بحملة العام ألفين، وهي حملة يفرض فيها انتظار المزيد والمزيد من الافراح. ومع ذلك، وبعيداً عن هذا الصخب، يمكننا أن نهدأ قليلاً ونراجع بديهياتنا: فالرقم 2000 نحن البشر الذين اخترعناه، نحن الذين وضعنا الأصفار وقلنا انها هي الحدود الفاصلة بين الأرقام، فما بالنا نخشى ونرتعد خوفاً من وحوش هي من صنع افتراضاتنا؟ ثم إن الرقم هذا، الذي طوّبناه فيصلاً، هو إشارة الى الميلاد الألفي الثاني لأحد رُسُل الله، لم يتفق عليه اصلاً المؤمنون به. فهم منقسمون بين "شرقيين" و"غربيين"، والنقاش بينهما لم يُحسم بعد، وإن خفتتْ حدّته، نظراً لتوافق ما، فرَسا على الروزنامة الثانية، الغربية. إذاً، نحن أمام خوف من قدوم أصفار ثلاثة، في روزنامة غير نهائية، وذكرى لمناسبة تعني جزءاً من البشرية. أما رواج هذا النوع المحدد من الأصفار، فهل نحتاج أن ننسبه الى هيمنة متجددة لرموز الثقافة الغربية، وقد فتحت لها قنوات "القرية الكونية" المزيد من المسارب لمجمل تعبيراتها؟ ومرة أخرى، يبدو العالم العربي واحداً من الدوائر التي لم تفلت من هذه الهيمنة. فاللازمة المصاحبة لأي قول عربي، تمهيداً أو ختاماً، لتناوله أية مسألة عامة، هي "أين نحن في مجال كذا أو كذا مع اقتراب العام ألفين؟، أو الألفية الثالثة؟"، وتكاد لا تقرأ مقالة إلا وعبْرها "همّ" الألفية الثالثة، سراً أو علانية: فنحن نقترب منها، مثلاً، ومازلنا على هذه النسبة من الأمية، أو هذا القسط من التخلف، أو ذاك التعثر في الديموقراطية "وكأننا لم نصل الى مشارف القرن الواحد والعشرين". أما خطابات المسؤولين فتتعظ بالألفية لوضع خططها الطموحة، أو لبلوغ بعض استحقاقاتها، أو لتعطي معنى لبقائها المديد على قمم المسؤولية السياسية، فيما المؤتمرات والندوات التي تقيمها المؤسسات المعنية، تود غالبيتها مناقشة هذه الفكرة أو تلك، هذا المفهوم أو ذاك، وهي "على مشارف العام ألفين"، فيصبح هذا الأخير نقطة الاستدلال: فإما أننا اخفقنا في الوصول الى القرن الواحد والعشرين لأننا لم نقتنع بهذه الفكرة، أو أننا سوف ننجح في عبوره لو تبنّينا المفهوم كذا ولفظنا نقيضه. والمثير للدهشة أن بعض المؤسسات العربية حاملة الصفة "المسلمة" أو "الإسلامية" تنظم مؤتمرات من هذا القبيل، إذ تضع الألفية الثالثة محطة فاصلة، أو حداً لقياس مدى النجاح أو الإخفاق في هذه أو تلك من المجالات أو الانشطة. ولفتني مرة أن مداخلة لأحد الكتاب الإسلاميين احتوت على وصف لحال العالم العربي - الإسلامي، ومكمن خطورة استمرارها في كونه على قاب قوسين أو أدنى من نهاية الألفية، فما كان من أحد المؤتمرين، وهو أيضاً إسلامي، الا أن انبرى وطالبه بالاختيار بين كونه، قبل كل شيء، مسلماً، لا إسلامياً: فيعتمد بذلك التقويم الهجري، لا الميلادي، للتأريخ لمسار مجتمعه، وينسجم بذلك مع أسس إيمانه، أو انه يعتمد التقويم الميلادي لوضع محطات هذا المسار، ويكون بذلك مخالفاً لأبسط قواعد هذا الإيمان. طبعاً، هذا الرد من إسلامي متشدد على آخر أقل تشدداً، على ما يبدو، غير قابل للشيوع، لا في الاوساط الاسلامية ولا في غيرها. ومع أن الرد يعبر عن انسجام صاحبه مع نفسه، غير أنه يشي بمفارقة ثقافية لافتة لدى العرب: فهم من جهة يجنحون نحو انتاج الافكار والرموز التي هي الأكثر انغلاقاً على "ذاتهم" و"هويتهم" منذ تعرفهم الأول على الغرب. لكنهم في الوقت عينه هم أكثر انجراراً، منذ أي وقت مضى، خلف الرموز والتعبيرات التي تنتجها مصانع الخيالات في الغرب، والمفترض أنها معادية لهاتين "الذات" والهوية. رُبّ قائل ان مبعث هذه المفارقة هو الوفاء لواجبي الاندماج في الثقافة العالمية المعاصرة والحفاظ على مقومات الشخصية أو الهوية الذاتية: غير أنهم أخلُّوا بالواجبين معاً: فلا هم أحيوا الشق الحي في ذاتهم، ولا تنبّهوا الى الشق الميت من الرموز الذائعة لثقافة الغرب. وقد تكون هذه المفارقة خير عون على انضمام العرب، مرة أخرى، الى ركب الجماهير الغفيرة، صانعة "اللحظات التاريخية". فليلة الألفية الثالثة، مثلها مثل الجنازات المهيبة لشخصيات مهمة أو جذابة، أو دورات كؤوس كرة القدم العالمية، أو انتظارات الغاضبين أمام افتتاح مطاعم الوجبات السريعة... سوف "يشارك" فيها الملايين، سيراً أو وقوفاً أو جلوساً أمام شاشة التلفزيون. فمن دون هذه الأعداد، يتبدد وهم التاريخية، ويصبح ترقب الخوف بلا معنى، وتنعدم فرحة انتظار الكارثة.