في السادس من نيسان ابريل عام 1997، شهد ميدان "تايمز سكوار" في نيويورك احتفالات ضخمة اشترك فيها عدد كبير من نجوم السينما والفرق الموسيقية الممثلة لمختلف الولايات. ولم تكن هناك مناسبة وطنية تتطلب مشاركة هذا الحشد من مشاهير اميركا، سوى الاحتفال ببداية العد العكسي قبل ألف يوم من نهاية الألفية الثانية. واعتُبر ذلك التجمع في حينه المؤشر الاقتصادي لإطلاق الحملات الاعلانية المرتبطة بهذا الحدث التاريخي. وباشرت شركات التلفزيون والراديو في انتاج مسلسلات وثائقية تتحدث فيها عن حروب هذا القرن والاكتشافات التي حققها علماؤه ونوابغه. وظهرت في الاسواق التجارية منتجات جديدة تحمل اسم الألفية، بدءاً بالعطور والأزياء وألعاب الاطفال... وانتهاء بمراكز الترفيه التي شيدت في لندنوباريسونيويورك وروما والتي بلغت تكاليفها أرقاماً خيالية. ولقد استولى هذا الهوس الجماعي على آلاف المغامرين بحيث شهدت مدينة "غيزبورن" في نيوزيلندا تدفقاً غير متوقع من سياح أرادوا مشاهدة أول شروق للشمس في الألفية الثالثة. ونافسها في تسويق المناسبة سكان "كيريباتي" الواقعة جنوب الباسيفيك مدّعين ان جزرهم أقرب المواقع الى خط التوقيت الدولي، الأمر الذي يساعد على رؤية بزوغ شمس الألفية الثالثة بوضوح. ومع ان شبكات التلفزيون ودور الصحف استغلت هذه المناسبة الاستثنائية لمضاعفة حجم الهرج والمرج، إلا ان هذا القرن لا يخلو من خصوصيات ومميزات لم تكن متوافرة في نهاية القرن الماضي. والسبب في ذلك ان وسائل العولمة أنبأت ملايين البشر بأن نهاية القرن قد أزفت، وبأن روزنامة جديدة ستكتب تاريخ هذه الحقبة على نحو يشبه نهاية الأزمنة. والسبب ان المنجمين ومفككي الرموز اتخذوا من سفر الرؤيا في التوراة علامة للتنبؤ بنهاية العالم... ولإشاعة أساطير خيالية مفادها ان الشيطان سيُعتق من سجنه في نهاية الألفية الثانية ليحكم على الانسان بالموت والهلاك! ولقد ازدادت مخاوف الموسوسين بعد صدور نشرات تؤكد ان العالم الكيماوي والمنجم الفرنسي نوسترداموس، تنبأ منذ القرن السادس عشر بالانفجار الكبير. وحدد أتباعه موعد الشؤم بتاريخ الرابع من تموز يوليو 1999، لأن كتابه "القرون" الصادر عام 1555 يشير الى أحداث الشهر السابع من عام 1999. وجاء في النص: "سيهبط من السماء ملك الرعب العظيم". واختار مصمم الأزياء الشهير "باكو رابان" تاريخ كسوف الشمس 11 آب - اغسطس 1999، ليزعم في كتابه الأكثر مبيعاً، ان ناراً من السماء ستهبط على باريس في هذا اليوم لتدمرها وتحرق معها أربع مدن اخرى. واستغل "باكو رابان" موعد الكسوف ليتحدث عن سقوط محطة الفضاء الروسية "مير" فوق العاصمة الفرنسية. وفي اليابان استغل أتباع المنجم الفرنسي نهاية العام ألفين ليضموا الى جماعتهم أعداداً كبيرة من المؤمنين بالخرافات. واستخدم دعاة "النوسترداموسيه" بعض تنبؤاته التي زعموا انها تحققت في اندلاع الثورة الفرنسية، وموت الملك هنري الثاني، وتاريخ وفاته هو، ومن المؤكد ان الاسلوب المبهم الذي كتب به المنجم الفرنسي رؤياه لأحداث المستقبل، يمكن ان يفتح باب الاجتهاد لخلق الهواجس التي تجيب على أسئلة القلقين والحالمين. ولقد فسر الناصريون مثلاً العبارة التي تتحدث عن ظهور مارد من الشرق يغزو الغرب، بأنها اشارة الى ظهور جمال عبدالناصر. ونقل مرة هذا التفسير الى عبدالناصر رئيس حزب "النجادة" في لبنان عدنان الحكيم، موحياً له بأنه هو المارد المعني. وبعد انتصار الخميني في ايران، جاء من يعيد النظر في تفسير هوية المارد الشرقي المنتظر. بعد اسبوع - أي بعد اعلان نهاية القرن العشرين والدخول في تقويم الألفية الثالثة - لن تصدق نبوءات المنجم الفرنسي، وستظل الكرة الأرضية بمنأى عن الدمار الشامل الذي يتخيله المنجمون، ولكن استحقاق الألفية سيكون المنطلق لإعادة النظر في عملية ترتيب الأولويات بالنسبة للقرن الواحد والعشرين. ذلك ان الاميركيين المنشغلين بانتخابات السابع من تشرين الثاني نوفمبر يتوقعون ظهور ممثلين في الكونغرس من نوع آخر أقرب في نهجهم من متطلبات العصر منهم الى تيار السياسيين. ويرى المراقبون ان الانتخابات العامة التي ستُجرى العام المقبل في ثلاثين دولة تشكل تغييراً جذرياً في 16 منها كانت منذ ربع قرن مصنفة في قائمة الديكتاتوريات. ويرى الديبلوماسيون في موسكو ان شعار الديموقراطية الذي يسوقه يلتسن لانتخابات تموز يوليو سيخيب الآمال باحتمال خروج هذه الامبراطورية المنهارة من أزمتها الاقتصادية الخانقة. ومن المؤكد ان بيل كلينتون سيحاول توظيف دوره في إنهاء أطول أزمتين شهدهما هذا القرن، أي أزمة الشرق الأوسط وأزمة ايرلندا. ويتخوف الفلسطينيون ان تصبح دولتهم الجديدة - بعاصمتها رام الله - مجرد مشروع لزرع قنبلة بشرية سريعة الانفجار لا تنفع في تعطيلها أموال المساعدات الخارجية. ويتطلع المحللون الى لبنان ايضاً كضحية محتملة من ضحايا السلام، تماماً كما كانت بولونيا الملقبة ب"كعكة الملوك" ضحية أطماع التوسع والهيمنة. بعيداً عن السياسة، يتطلع العلماء الى توسيع مجال الاكتشافات بحيث يستكملون برنامج رحلات الفضاء وما حققوه من تطور بعد مغامرة "ارمسترونغ" فوق سطح القمر. ويأمل هؤلاء في اطلاق مركبة فضائية باتجاه "المشتري" بعدما أظهرت الصور التي التقطتها المركبة "غاليليو" وجود صفائح من الجليد في منطقة سُميت "يوروبا". ومن المتوقع اطلاق مسبار جديد عام 2004 بهدف فحص نوعية الجليد الذي يغطي قشرة أحد الأقمار ال16 التي تدور حول "المشتري". ويحاول العلماء في "ناسا" تأمين المال الكافي لصنع مركبة يمكن ان تحط فوق سطح "يوروبا" خلال مدة لا تتجاوز عشر سنوات. والغرض من تحقيق هذه المغامرة العلمية في العوالم الأخرى، ينحصر في محاولة اكتشاف السّر الكبير لسؤال أزلي محير: هل نحن وحدنا في هذا الكون الوسيع المدى المتعدد الأجرام؟ وهل وجود الماء فوق سطح "يوروبا" يعني وجود الحياة لدى مخلوقات اخرى؟ وكما ارتبط تاريخ القرن المنصرم بأسماء السياسيين والعسكريين، فإن القرن المقبل سيشهد نماذج مختلفة لرموز من أمثال ألبرت اينشتاين وتشارز ليندبرغ وماري كوري، ولينوس بولينغ وادوين هابل، وهنري فورد، ووالت ديزني، واكيو موريتا، وفون براون، وسام والتون، وستيفن باكتل، وجوان تريب، ووليم لافيت، وليو بيرنيت، وتوماس وطسون، ويوري غاغارين، والكسندر فلامينغ. مثل هذه النماذج الرائدة في الحقول غير السياسية هي التي ستهيمن بأفكارها على القرن المقبل، لأن الحروب العظمى وثورات التحرير التي أطلعت امثال لينين وستالين وهتلر وموسوليني وتشرشل وديغول وهوشيه منه، وودرو ويلسون، وماوتسي تونغ، وشوان لاي، واروين رومل، وبرنارد مونتغومري، ودوايت ايزانهاور، ودوغلاس ماك ارثر، وجورج مارشل، ونيلسون مانديلا، وفيديل كاسترو، وتشي غيفارا... هذه النماذج لن تتكرر لأن الاحداث التي افرزتها لن تتكرر أيضاً، وبسبب طغيان الطابع المادي على مظاهر القرن الواحد والعشرين، فإن رجال المال والأعمال على شاكلة بيل غايتس، وستيف كايس، وجيم باركسديل، وروكفلر، ومورغان، وأماديو جانيني، وتشارلز ميريل... هذه النماذج ستتوالد كالفطر لأن صنع الثروات سيكون الهم الطاغي على انسان القرن الجديد. يبقى السؤال الأخير: هل نجحت حملات استقطاب السياح عبر التلفزيون ووسائل الاغراء والترفيه، في خلق الاجواء الملائمة لتوقعات الدول والشركات؟ النتائج المتوقعة لم تحقق نصف الآمال، على اعتبار ان الدولة البريطانية شيدت قبة الفية بلغت تكاليفها اكثر من بليون وثلاثمئة الف دولار لعلها تجذب 12 مليون زائر. وحتى الآن لم يصل عدد السياح الى ربع ما انتظرته بريطانيا. ولقد تميزت المشاريع الألمانية بالحذر والتأني، فاقتصرت اعمالها على مجمع ترفيهي شيد في "هانوفر" لم تزد تكاليفه على 55 مليون دولار. حتى توقعات الفاتيكان لم تنجح في رصد الرقم الصحيح لعدد الزوار. ففي نشراته السابقة ذكر بأن الساحات ستضيق بثلاثين مليون زائر. وعندما مرت الفترة المحددة من دون الوصول الى سدس هذا الرقم، صدرت النشرة الاخيرة عن الفاتيكان تقول انه سيتجمع اكثر من أربعين ألف طفل في ساحة القديس بطرس يوم الثاني من كانون الثاني يناير وذلك في مناسبة يوبيل الاطفال. يقول الخبراء والمنظّرون ان القرن العشرين يشبه في بعض جوانبه الايجابية القرن الخامس عشر الذي شهد عصر النهضة، اي العصر الذي نشر فيه كولومبوس الثقافة الأوروبية في اميركا... وسجل فيه العالم كوبرنيكس اول الملاحظات عن النظام الشمسي... ووضع فيه غوتنبرغ آلة الطباعة. ولهذا وصف بأنه عصر الانفتاح والنهضة وخروج الفكر الأوروبي من قوقعة التزمت الديني ومحاكم التفتيش في اسبانيا. وكما ان القرن الماضي عرف بأنه اكثر القرون وحشية ودماراً، كذلك عرف ايضاً بأنه قرن الانقلابات الاجتماعية والتطورات الصناعية وكل ما نتج عنهما من ثورات تكنولوجية يمكن ان تغير نظام الحياة وأسلوب العيش بطريقة تجعل الانسان شبيهاً في تفكيره بالآلات التي يخترعها... ومتماثلاً في الشكل مع نماذج المخلوقات القادمة من عوالم اخرى! * كاتب وصحافي لبناني