في الثلاثينات جرت مصاهرة بين عبدالحسين بزي رئيس بلدية بنت جبيل وابنة عم لي، وقد ذهبت الى بنت جبيل لحضور حفلة عقد القران والزفاف فاستبقاني الصهر الجديد في ضيافته فمكثت فيها مدة اسبوعين، ثم اصبحت اتردد على بنت جبيل كثيراً بعدما تعرفت فيها الى علي بزي نسيب الصهر الجديد، وكذلك الى فريق من رفاق علي من شباب بنت جبيل. وأعجبتني الروح الوطنية التي وجدتها في الأخ علي ونشأت بيننا صداقة بل اخوة "والارواح جنود مجندة - كما يقال - ما تعارف منها ائتلف وماتنافر اختلف". وليست المصاهرة والقربى ما جمعنا، بل ما رأيت في علي بزي من رجولة ووطنية تلامس حد التهور والاندفاع الجارف في الشأن الوطني، وهذا ما كان يقربني من الشباب الذين هم في مثل سني وعلى شاكلتي في الاندفاع والمجازفة المحفوفة بالمخاطر. فليس في الوطنية اعتدال وسياسة عندما يكون الصراع مع المحتل المغتصب، وهكذا اكتشف كل منا الآخر وأصبح لبنت جبيل عندي تقدير خاص وأنا ارى اندفاع شبابها، ومنهم شاعر الشعب موسى الزين شرارة والشاعر المناضل والأديب عبداللطيف شرارة وحسن الحاج فياض شرارة ومحمد سليم بزي كاتب عدل بنت جبيل، وعبداللطيف بيضون والدكتور اسماعيل عباس وحسن وابراهيم شرارة والحاج علي بيضون العائد حديثاً من الاغتراب، وكان ينضم اليهم المؤرخ الشيخ علي الزين والشاعر الناقد والمبدع عبدالحسين عبدالله وغيرهم من الشباب العامل. ولعل بنت جبيل، بحكم موقعها وقربها من أرض فلسطين، كانت مرتكزاً اساسياً لثورة فلسطين وللثائرين في غدوهم ورواحهم ومحطة تموين للفداء والسلاح كلما اشتد الضيق على الثورة في الداخل. ولكم كانت لنا لقاءات مع هؤلاء الشباب واخوانهم شباب صور في دارة الأخ صفي الدين "ابو شوقي". وفي الحديث عن الحركات الوطنية والنضال القومي اذكر "ابو شوقي" رفيق العمر وجهوده في ميادين شتى منها دوره في النشاط ضد الانتداب الفرنسي في صور والتلاقي مع شباب بنت جبيل والتجاوب مع اخوانه في التظاهرات والاضرابات وكذلك يوم تولى الامانة العامة ل "جبهة المحافظة على الجنوب" والتنسيق بينها وبين "اللقاء الاسلامي" المؤلف من رؤساء الوزراء والوزراء والشخصيات الاسلامية، مع السلطات في دمشق لدعم المقاومة في الجنوب ووضع حد للتجاوزات الفلسطينية التي كانت تسيء الى القضية الفلسطينية والى لبنان، متعاوناً في ذلك مع رفاقه في الجبهة. وسبق ان تعرفت الى "النجاد" محمد صفي الدين في فجر الشباب، وتعاونت معه كعميد للحزب في صور من موقعي في بيروت كعميد للخارجية وقبل ان يرفعه نشاطه وخدماته في الجنوب الى البرلمان والوزارة التي شغلها ثماني مرات كما شغل النيابة عشرين عاماً. ثورة في الجنوب ذات يوم من عام 1936 جاء علي بزي من بنت جبيل وحل ضيفاً عليّ في منزلي في بيروت ودار الحديث في ذلك اللقاء على شركة "الريجي" التي كان يتولى الانتداب ادارتها واحتكارها، وعن سوء معاملتها للمزارعين الجنوبيين الذين يعيشون على هذه الزراعة، كأن هناك سياسة متعمدة لافقارهم واذلالهم. ثم عاد الأخ علي الى بنت جبيل وسط شعور عام معبأ بالكراهية للانتداب والاستعداد لمواجهته بالتظاهرات وبكل الوسائل المتاحة. وبعد ايام قليلة قامت تظاهرة كبرى في بنت جبيل تصدى لها جنود الانتداب بالقوة فسقط عدد من القتلى والجرحى ثم تبعتها بعد أيام تظاهرات اخرى في غالبية مدن الجنوب، بعدها قامت تظاهرة كبرى في بيروت استنكاراً لحوادث الجنوب، وشارك مؤيدون ومناصرون كثر، ورأيت والأخ علي بزي ان نزور جريدة "النهار" لشكر المؤسس جبران تويني على موقفه المؤيد للمتظاهرين وحقوقهم وعلى مواقفه ضد الانتداب بوجه عام. قصدنا "النهار" وطلبنا مقابلة الاستاذ جبران تويني فسئلنا عن الاسماء فقلت، وكنت اعرف صاحب "النهار" شخصياً: "زهير عسيران وعلي بزي ومعنا وفد يطلب ان يتقدم بالشكر لجريدة وطنية يحبونها ولا شيء غير ذلك". وعاد السائل من مكتب صاحب "النهار" يقول: "لحظات ويأتي الاستاذ لمقابلتكم"، فجاء الاستاذ جبران مرحباً وألقى كلمة وطنية رائعة وأعلن تأييده حق الجنوب وكل قضية وطنية في وجه الانتداب وزبانيته. وكنا نعرف جبران تويني من خلال قلمه في "الاحرار" قبل ان يستقل في "النهار" ويمضي في خطه الوطني بقوة وصلابة، حتى اننا كنا نحفظ لجريدته ابياتاً من قصيدة نشرت في تلك الأيام فأحدثت ضجة كبرى في الرأي العام ودوائر الانتداب ومن تلك الأبيات: "واحذر خلاعة من أتوك بجندهم ونسائهم للهتك والتبريج..." وزاد اعجابنا بالاستاذ تويني عندما كان وزيراً للمعارف في اوائل الثلاثينات بعدما اتخذ ذلك القرار التاريخي بانشاء البكالوريا اللبنانية، فذهبت مع وفد من الطلاب لتهنئته على هذا الموقف الوطني المشرّف الذي كان له اكبر صدى في انحاء الوطن، انما كانت من نتيجته احمرار عين الانتداب عليه والوقوف بوجهه في كل وزارة جديدة. وعيّن خليل كسيب وزيراً للمعارف في الحكومة الجديدة التي تألفت بعد استقالة الحكومة التي كان من اعضائها جبران تويني، وطلب الوزير الجديد من صديقه موسى مبارك ان يرشده الى عمل يقوم به ليحدث ضجة كبرى شبيهة بتلك التي احدثها زميله السابق جبران تويني عندما انشأ البكالوريا اللبنانية، فأجابه موسى مبارك: "بسيطة، ليس امامك سوى الغاء ما فعله زميلك السابق اي الغاء البكالوريا اللبنانية فيحدث هذا ضجة اكبر وتحوز ثقة المفوضية العليا التي ساءها عمل تويني"، فهزّ الوزير رأسه وكان جوابه: "نعمَ الاقتراح، ونعمَ الصديق". محمد حسين فضل الله... المعمم عندما كنت اتردد على منزل الصديق علي بزي في الستينات كنت اشاهد عنده شاباً يافعاً بعمامة خضراء صغيرة ولا يتجاوز عمره العشرين ربيعاً. فعرفني عليه بأنه ابن اخته واسمه محمد حسين فضل الله وزاد قائلاً: "انا اتوقع له مستقبلاً زاهراً لأنه متوقد الذكاء وفي منتهى الألمعية". وبعد مدة شاءة الظروف ان احضر اجتماعاً في احدى المناسبات فدعي محمد حسين فضل الله الى المنبر فلبى وصال وجال بكلام بليغ لم اكن اتوقعه لأني لم اتعود ان اسمع مثل هذا الكلام الجريء العميق الذي يدخل في عقول المثقفين والعامة من شاب معمم. ثم تابعته، وكنت اتعمد حضور اي اجتماع اعرف انه سيتكلم فيه سواء اكان تأبينياً، ام اجتماعياً، فاذا بي اتحقق مما قاله علي بزي الى ان وصل الى ما وصل اليه من فقه وعلم واجتهاد حتى اصبح صاحب مرجعية ويهتم بالفقراء والبؤساء، فأنشأ مؤسات خيرية وتربوية ترعى الايتام والفقراء ويصرف عليها من اموال الزكاة والتبرعات التي يتسابق الرجال المؤمنون لتسليمه اياها لثقتهم التامة بأنها ستنفق في مجال الخير. ولقد ارتفع السيد محمد حسين فضل الله بالاجتهاد الديني الى مستويات رفيعة لم نعرفها الا نادراً، فهو لم ينطلق من ردود الفعل ازاء الآخرين، سواء من غير المسلمين او المسلمين، وانما انطلق من جلاء موقف الاسلام بين قضايا هذه الأمة وهذا العالم. فالاسلام، كما انكشف من فكر السيد وفي فكره وسلوكه، هو الثورة الروحية الكبرى في تاريخ هذا العالم، ومقدّر لها ان تعيد صياغة العالم وانسانه، ولا سيما في هذه البقعة من الكرة الأرضية، فيرتفع الظلم عن الانسانية حيثما وجد، وتتحرر الاوطان العربية والاسلامية، ويتحرر قلب المسلم وضميره وطاقاته، بفعل دين ليس هو بعصبية بل هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن. ليس الاسلام هو احدى القبائل التي يتألف منها التكوين الوطني اللبناني، ولكن الاسلام رؤية لقضايا الكون والمصير والانسان المعاصر، وهي تطالب المسلم بالانحياز للحق والحقيقة في كل موقف. وعلى الرغم من عراقة بيته الديني، وعلاقات القربى التي كانت تحفر له موقعاً رئيسياً في طليعة الطائفة الشيعية في لبنان وغيره، الا انه آثر ان يكون ريحاً جديدة في العمل الديني والاسلامي والاجتماعي والسياسي في بلده، اهّله له تدريبه الفكري وعلمه ومواهبه وشاعريته وقدرته الخطابية. وهو اختار منذ البدء ان يكون حيث الحاجة اليه اكثر الحاحاً وضرورة، تاركاً الساحة السياسية الفوقية لغيره، فعاش اولاً في النبعة1 ليكون الاقرب الى الفئات المظلومة من المجتمع والمهمشين الذين يحتاجون الى كل شيء، لا الى مقومات العيش فقط، وهناك بدأت اطلالته بشكل اصيل ومؤثر على لبنان وعلى الاتجاه الذي يمثله. وانتقل الى الضاحية، عندما انتقلت به الضرورة الى ان يكون فيها2، ليكون في موقع قادر على الفعل. والى كونه المتمسك بالتراث والاصالة، المنطلق من مبدأ المقاومة لكل الاخطار على الوجود الاسلامي وأولها الصهيونية الغازية لفلسطين والجنوب والمناخ السياسي العام في لبنان، كان السيد محمد حسين رجل المؤسسات والعمل الخيري والتثقيفي الاسلامي الناشطة، كما كان صاحب النظريات والفتاوى التي تضع الدين في قلب العصر، وتجعله من رموز الجرأة الفكرية على الذات حين تقتضي مصلحة الاسلام ذلك. ولعله كان الاقدر في لبنان على المزج بين الصحوة الاسلامية الحديثة والفكر الاصلاحي النهضوي الذي مثله في زمانه السيد محسن الأمين، وقد كتب عنه بعض اجمل وأصفى ما انتج من تقييم لانتاج العلماء السابقين، اصحاب النفحات التجديدية الأنقى في زمانهم. وهكذا فان دعوة السيد محمد حسين فضل الله، باهتماماتها وتطلعاتها، الى مستقبل الاسلام كاسلام، وفي تعاطيها مع العصر، تناغمت مع خط السيد محسن الأمين. ورحم الله، من بعد، فتى شباب الجنوب في زمانه ورجل الطليعة المجددة فيهم علي بزي الذي كان في جرأته الفكرية والسياسية ونزعته الاصلاحية واحدا من مطلقي الموجات الوطنية الحرة في الجنوب، في الوقت الذي كان الجنوب متهماً بأنه لا يملك قضية، بل طغى الولاء للاشخاص والاصنام على كل شيء فيه. "غاندي الثاني" في السجن قبل ان أسجّل قصة طريفة بطلها صديق لي من أيام التلمذة طالت صحبته على مراحل العمر، هو عماد الصلح، ومكانها قصر العدل القديم، تعود بي الذاكرة الى بضعة عقود خلت التقيت فيها على خط النضال والمواجهة ضد الانتداب وفريقاً من الشباب نشارك في التظاهرات وندعو الى الاضرابات، وكان لولب هذه الحركة عماد الصلح الطالب في "اللاييك" المدرسة العلمانية الفرنسية حيث كان يقوم بدور نشط في اوساط الطلاب والشباب وبخاصة يوم كان رئيس اللجنة الطالبية التي كانت تحرّك الشارع ضد الشركات الاجنبية وفي مقدمها "شركة الجر والتنوير" اي شركة الكهرباء. وقبض عليه وسجن وتنادى الطلاب الى التظاهر احتجاجاً على سجنه، وكنا نطالب "شركة الجر والتنوير" بالرجوع عن رفع الاسعار التي فرضتها، ولما لم تستجب عقدنا اجتماعاً تقررت فيه مقاطعة الشركة والاستعاضة عن ضوء الكهرباء بضوء القناديل والشموع، واستجاب الاهالي دعوة المقاطعة وكان المحل او المنزل الذي يستعمل الكهرباء يضرب من الخارج بالحجارة و"النقيفات" لتحطيم المصباح المضيء. وما زلت اذكر ان مجلس النواب في ذلك الوقت عقد جلساته المسائية برئاسة المغفور له الشيخ محمد الجسر في ضوء الشموع فأحدث ذلك ضجة كبرى لدى سلطات الانتداب وكذلك في الرأي العام الذي اشتدت مقاطعته. وقد اعتقلت السلطات بعض الشباب، وكنت من بينهم، بحجة اننا نحضّ الشعب على المقاطعة ونعكّر صفو الأمن في البلاد. فكان الرد دعوة المدينة الى الاضراب والاستمرار فيه حتى الافراج عن عماد الصلح ورفاقه، فاستجابت المدينة الدعوة مما اضطر الشركة للاذعان، فعادت عن قرار رفع الاسعار وحدث مثل هذا مع شركة المياه ودور السينما ايضاً لخفض اسعارهما. وأذكر لهذه المناسبة ان محلات الحلوى والمطاعم في بيروت كانت ترسل الحلوى والطعام الى السجن برغم اضراب عماد الصلح عن الطعام، فاستفاد السجناء، طبعاً، وتمنوا له اقامة طويلة. وفي المناسبة لم يكن عماد "غاندي" دائماً، فسرعان ما ألبسته الظروف ثوب العنف ولم تعمّر غانديته كثيراً. وذات يوم من اعوام قصر العدل القديم وشجرته الشهيرة حدث ما أقام القصر وأقعده. بداية القصة من ذيول خلاف بين القاضي الفرد ثابت والقاضي ممتاز الصلح اللذين كان بينهما ما صنع الحداد... ويظهر ان الخلاف بينهما تطور الى ملاسنة قاسية فتفوه ممتاز الصلح بكلام عنيف اعتبره الفرد ثابت تحدياً كبيراً له ولعائلته، فنقل ذلك الى شقيقه القبضاي. وذات صباح بينما كان رياض الصلح يجلس تحت اغصان شجرة قصر العدل بين زملائه المحامين الكبار امثال اميل لحود وبهيج تقي الدين وحبيب ابو شهلا وجان جلخ وغيرهم يرتشفون قهوة الصباح في انتظار بدء الجلسات، مر على مقربة منهم القبضاي شقيق القاضي ويدعى الياس ثابت، وما ان شاهد الحلقة وفيها رياض حتى انبرى له بكلام عنيف: "نحن منكسّر أكبر راس بالبلد". ونظر شذرا الى رياض الصلح، فسأل رياض: "من يكون هذا الرجل؟" فقيل له انه شقيق الفرد ثابت. بدأت المحاكم جلساتها وتفرّق رواد الشجرة، كل الى شأنه، اما رياض الصلح فتوجه الى مكتب جريدة "النداء" الكائن في شارع المعرض على ساحة العبد قرب البرلمان، فالتقى اصحابها ابناء عمه الاخوة الأربعة عادل وكاظم وتقي الدين وعماد، وكانوا في هيئة تحرير واشراف على الجريدة، فروى لهم قصة "تكسير الرؤوس" وسألهم رأيهم في الامر، فأجمعوا على ان الحادث يجب الا يمر هكذا وبسهولة ويجب ان يكون الرد في مستواه. وكان الأخ الاصغر عماد الاكثر حماسة للقرار. وبوشر العمل على التنفيذ. ونودي على اصحاب الاختصاص المجربين في الفتوة ورد التحدي فحضر منهم عبدالرحيم مظلوم وسعد الدين غندور وثالث من آل اللبابيدي، ولكن الدهاء السياسي ارتأى الا يحدث ذلك بدون احد من آل الصلح، حفظاً لمقام القاضي الكبير. فتطوّع عماد وحسيب من شباب العائلة وتسلم عماد الصلح، المعروف بصلابته وحكمته، القيادة بحسب الاصول. ونزل الجميع الى ساحة العبد النجمة الآن وجعلوا ينتظرون الفرد ثابت صاحب العادة في التردد على مكتب المحامي الكبير اميل اده الكائن قرب البرلمان. وشاهدوهما يسيران معاً، فتقدم المظلوم منهما ووجه كلامه الى الفرد ثابت وسأل: "هل انت الفرد بك ثابت؟" فأجاب: "انا هو هل من خدمة؟" فكان الجواب والخدمة بضع صفعات انهالت على الفرد ثابت. ولما هم اميل اده في الدفاع عن رفيقه، انبرى له عماد الصلح قائلا: "انت لست المقصود". وحماه كي لا يصاب بأذى. وانتقلت القضية من الشارع الى قصر العدل وادعى الفرد ثابت على عماد الصلح ورفاقه بجرم الضرب والتحقير. وبدأت المحاكمة برئاسة القاضي فؤاد عمون الذي صادف وجود ود مفقود بينه وبين الفرد ثابت. وتطوع للدفاع عن الفرد ثابت محامون كبار فيما تطوع عن عماد ورفاقه بعض المحامين الكبار ايضاً من لبنان وسورية وتحولت المحاكمة حدثاً سياسياً كبيراً. كدت أصبح ماركسياً! ذات عام من ثلاثينات هذا القرن كدت اعلق في بيروت في شباك "المد الاحمر" بعدما استهوتني شعارات موسكو "نصيرة الشعوب الثائرة ضد الاحتلال والامبريالية والاستعمار"، الى ما هنالك من شعارات. وأذكر كيف نجوت وتبدل الاتجاه. فقد كانت بيني وبين اركان الحزب الشيوعي علاقات جيدة وخط نضالي متقارب. الشيوعيون ضد الاستعمار على طريقتهم، والعرب اعداء للاستعمار المسيطر على ديارهم ويطالبون بالحرية والاستقلال. وذات يوم تعرفت الى الشيوعي النشيط احمد زكي الافيوني محرراً في جريدة قومية عربية تدعى "النداء" لأصحابها عادل وكاظم وتقي الدين الصلح، ومراسلا لها في طرابلس والشمال. وكنا نتردد من وقت الى آخر على "مقهى فلسطين" بمحلة العسور، قبل ان تأخذ اسم "ساحة رياض الصلح". فجمعتنا مناسبة الى الزميل حسن اللاذقي يدخن الاركيلة كغيره من رواد المقهى الذين يتحلقون يومياً حول فنجان قهوة وأركيلة، يقرأون الصحف ويتحدثون في السياسة وغيرها لتقطيع الوقت. فأخبرنا حسن اللاذقي انه يملك امتياز مجلة باسم "الكوكب"، فاتفقنا على اصدارها نحن الثلاثة. وصدرت المجلة كصوت اضافي في وجه الانتداب. نحن نحررها وننضّد احرفها ونطبعها. وقد لاقت ترحيباً في الاوساط الوطنية واليسارية باعتبار ان الشريك الشيخ احمد الافيوني شيوعي بارز، فاندفع كبار المفكرين اليساريين والشيوعيين الى الكتابة فيها، اذكر منهم انطون تابت ورئيف خوري ونقولا شاوي وسليم خياطة، ومن النقابيين فؤاد الشمالي ومصطفى العريس وسعد الدين مومنة وغيرهم. وبحكم ملازمتي الشريك الافيوني، والتعاون في التحرير،تقدمت خطوة نحو الشيوعية وكدت انتسب رسمياً الى حزب ماركس ولينين، لولا ان تداركني تقي الدين الصلح قبل ان اصبح رفيقاً لستالين اذ دفع اليّ بپ"الكتاب الاحمر" على نحو ما ورد في مكان آخر. فكانت المرة الأولى اعرف فيها ان للقوميين العرب تشكيلاً بمثل هذا التنظيم ينتشر سراً من الخليج الى المحيط. تنادى فريق من القوميين العرب عام 1933 الى اجتماع في منزل محمد علي حماده حضره السادة كاظم وتقي الدين الصلح وفؤاد مفرج وقسطنطين زريق ورامز شوقي وانيس الصغير وعزالدين ورشاد الشوا وغيرهم. وتداول المجتمعون كيفية جمع الشباب وتنظيم طاقاتهم. وبعد اجتماعات عدة تم الاتفاق على تأسيس حركة سرية سميت "حركة القوميين العرب" وعهد الى كاظم الصلح في وضع المبادئ الأساسية لهذه الحركة ففعل، وعرضت على الدكتور زريق فوافق عليها مع بعض التعديلات. وهكذا خرج كتاب بغلاف احمر الى النور وسمي "الكتاب الاحمر" نسبة الى غلافه، وعهد في الرئاسة الى الدكتور زريق. وانطلق هذا الكتاب من بيروت الى سورية وفلسطين والأردن والعراق وشمال افريقيا والجزيرة العربية وامارات الخليج. وكان اكثر المنتسبين في البداية من فلسطين والأردن وسورية، ثم اتسع انتشاره في سائر الاقطار العربية، وأخذت الحركة طريقها الى العمل. وكان "الكتاب الاحمر" قد تسلل اولاً الى الجامعات فنشأت فيها خلايا وحلقات لا يعرف بعضها بعضاً. وبعد سنوات على انتشاره حصل لبنان وسورية على استقلالهما وكان العراق قد نال استقلاله هو الآخر مع بعض التحفظات ومثله وادي النيل. وبعدما اعتقل اكثر اعضاء الحزب اثناء الحرب العالمية الثانية وتشرّد من تشرّد وأعدم من اعدم تضعضعت اجهزة الحزب ثم اصبح كأنه لم يكن، انما تولدت على اثره احزاب عدة فقام "حزب النداء القومي" في لبنان و"حزب الاستقلال" في العراق والمغرب "والقمصان الحديدية" في سورية، وهو اختار هذا الاسم مراعاة للكتلة الوطنية وتلافياً للحساسيات. هذه الاحزاب جميعها خرجت من رحم "الكتاب الاحمر" الى العلن وبقي "حزب الاستقلال" في المغرب يعمل بزعامة علال الفاسي في كنف السرية بسبب طبيعة النظام الذي كان يمنع تأليف الاحزاب. باختصار كان "الكتاب الاحمر" وراء جميع الحركات التي قامت في الوطن العربي تطالب بالاستقلال ومنها حركة رشيد عالي الكيلاني في العراق ضد بريطانيا التي قام بها اربعة ضباط من الجيش ومعهم بعض شباب حزب الاستقلال ومنهم صدّيق شنشل ويونس السبعاوي الذي اعدم بعد فشل ثورة الكيلاني، وفائق السامرائي وغيرهم. يبقى السؤال: لماذا اختار مؤسسو الحزب اللون الاحمر لغلاف الكتاب؟ هل في الامر علاقة او تشبّه بعلم الثورة الشيوعية الاحمر، ام ماذا؟ قد يتبادر الى ذهن احد مثل هذا السؤال، لذلك لا بد من توضيح: عندما ارسل الكتاب الى الطبع كانت المطابع تعاني ازمة ورق حادة في تلك الأيام، ولم يكن في المطبعة سوى ورق احمر يصلح للغلاف. فكان ان ظهر الكتاب وأخذ اسمه من لون جلده "الكتاب الاحمر...". وذات يوم من عام 1938 فاجأني الأخ تقي الدين الصلح في الصباح الباكر، على غير عادته، بزيارة في بيتي فقلت: الله لطيف بعباده... فقد توقعت اي شيء الا ما فاتحني به تقي الدين يومئذ كان استاذاً في المدرسة العلمانية الفرنسية بمحلة الناصرة "اللاييك" وأحد اصحاب جريدة "النداء" التي كانت لسان حال القوميين العرب. بدأ تقي الدين حديثه بسؤال: "هل تود الانتساب الى حركة قومية في مجال طموحك؟" وقدم اليّ كتيباً صغيراً غلافه احمر. فقلت: "باختصار ماذا في هذا الكتاب؟" اجاب: "عليك ان تقسم اولاً انك لا تبوح بما تسمع في حال لم توافق". فأقسمت وهنا قال: "هذا الكتاب سري حتى الآن، وهو يحدّثك عن حركتنا الممتدة شبكتها في الوطن العربي مشرقاً ومغرباً، وهي وراء ما تسمع من اعمال ثورية في كل قطر يقاوم الاستعمار ويسعى الى التحرر والاستقلال. ولقد قام افراد من هذه الشبكة بأدوار بطولية وساهموا في ثورات سورية والعراق وتونس والجزائر والمغرب وفي ثورات فلسطين كذلك". وأضاف: "اما الكتاب الاحمر فألخصه بالآتي: 1 - يؤمن العربي بأن هدفه القومي، في اصله وطبعه، واحد لا يتجزأ ولو تنوعت اساليب الوصول اليه، وبأنه الى هذا الهدف يجب ان توجه كل الجهود الفردية والجماعية. 2 - العربي يرى ان المساعي القومية التحريرية التي يقوم بها العرب في هذا القطر أو ذاك من اقطارهم تؤدي ولا يجوز الا ان تؤدي الى التحرر والتوحيد الشاملين. 3 - على كل عربي ان يعمل في كل أرض عربية بما يعجّل في تحقيق هذه الغاية ويوطد اركانها ويكفل بقاءها. 4 - قعود الفرد واحجامه عن الانتظام في مواكب المجاهدين، عار وضلال يشبهان الخيانة ومثله الاخلال بالنظام بعد الانتظام. 5 - في ميسور كل عربي ان يجاهد بيده وبنانه، فان لم يستطع فبلسانه وبيانه، وان لم يستطع فبقلبه وجنانه، ولا سيما اذ تكون الأمة في ساعات البعث والنهوض". ولما كانت هذه المواصفات للعمل، كما يقدمها "الكتاب الاحمر"، هي في دمي وعلى هديها اعمل وأتحرك، فقد اقسمت على الكتاب "الدستور" الذي زادني ايماناً واندفاعاً بمستقبل امتي، وبأن ما هي عليه حتى الآن مجرد كبوة من كبوات الأمم في التاريخ لا بد من ان يكون بعدها بعث ونهوض والا زالت وانقرضت كما زالت امم وشعوب وحضارات سبقتها الى الوجود. بعد ايام دعاني تقي الدين الى اجتماع لم يكن فيه الا ثلاثة اشخاص هم صاحب الدعوة، اي تقي الدين والمحامي رامز شوقي والمحامي جميل مكاوي الذي اصبح رئيساً للنجادة في ما بعد. ورأيت على الطاولة امامهم الكتاب الاحمر، والى جانبه مسدس وقرآن كريم وكذلك الانجيل، الكتاب المقدس للمسيحيين. سألني الاستاذ تقي الدين: "هل قرأت الكتاب؟" فأجبت: "اجل وأنا اوافق على جميع ما جاء فيه". ثم طلبوا مني ان اقسم فأقسمت بأن انفّذ كل ما يطلب مني وأن احفظ سرية ما يدور في الاجتماعات او المهمات التي اكلف القيام بها. * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب"، عن دار النهار للنشر في بيروت الشهر المقبل.