عقب التفجيرات التي نفذتها احدى خلايا المقاومة داخل اسرائيل، كرر ايهود باراك وعده بأن تؤدي مفاوضات المرحلة النهائية الى "فصل مادي" بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ولكي يضع الكنيست في صورة هذا التحول، فقد أتبع باراك هذا التصريح بخطاب اكد فيه تصميمه "على ضرورة اعلان الانفصال عن الفلسطينيين، والتوقف عن ممارسة الهيمنة عليهم، حفاظاً على امن اسرائيل ومستقبلها". وكان من الطبيعي ان يثير تكرار هذا الموقف، ردود فعل مختلفة، خصوصاً لدى السلطة الفلسطينية التي كلفت المستشار نبيل ابو ردينة باطلاق التعليق التالي: "ليس هناك اي معنى للفصل المادي. نحن نطالب بفصل سياسي تمهيداً لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة". ولقد عكس هذا التعليق بعض مخاوف ياسر عرفات من تنفيذ فكرة الفصل ومنع التداخل، الامر الذي يؤدي الى استفحال البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة… والى نمو الحركات الرافضة للحلول السلمية. والسبب ان تنفيذ هذا التعهد سيحرم اعداداً كبيرة من العمال الفلسطينيين من فرص العمل داخل اسرائيل نسبة 20 في المئة، ويؤدي بالتالي الى فتح باب الهجرة من جديد. وبما ان هذا الاختناق الاقتصادي المرتقب سيلحق الاذى بنمو المجتمع الفلسطيني، فان الخيار الوحيد امام عرفات هو المزيد من الالتصاق بالاردن، وتحريض عمان على القبول بكونفيديرالية ترتاح لها اسرائيل وتطالب بتحقيقها كشرط مسبق للاعتراف بالكيان الفلسطيني. يقول مستشارو باراك ممن اوكل اليهم مهمة هندسة عملية الفصل، ان تنفيذ هذا المشروع الضخم تأخر اكثر من اربع سنوات على اعتبار ان اسحق رابين كان مزمعاً على تحقيقه مطلع عام 1995. ولقد اتخذ القرار بعد ازدياد العمليات الانتحارية داخل المدن الاسرائيلية بواسطة رجال المقاومة الاسلامية. وبما ان جميع العمليات الانتحارية جرت خلف الخط الاخضر الفاصل، لذلك عهد رابين الى وزير الشرطة والى ايهود باراك بمسؤولية رسم خطة تفصيلية تحول دون عبور الانتحاريين. وقال ان الغاية تنحصر في منع كل احتمال لتسلل الفلسطينيين الى منطقة اسرائيل السيادية. واشترط ان يكون دخول العمال والسيارات عبر نقاط محددة خاضعة لاشراف الجيش ورقابة الشرطة. ومع ان وزير الشرطة قدم بعض الاقتراحات المفيدة، الا ان باراك تولى الجزء الاكبر من الخطة نظراً لتجاربه السابقة كقائد للمنطقة الوسطى، وكرئيس لشعبة الاستخبارات العسكرية، وكرئيس لاركان الجيش. ويستدل من التصاريح المتكررة حول فكرة الانفصال عن الفلسطينيين، ان باراك مقتنع بضرورة تنفيذ خطة رابين، تلك التي ساهم هو شخصياً في وضع خطوطها الرئيسية. وتتلخص توصيات الخطة بالامور التالية: اولاً - يبلغ مجمل التكلفة حوالى بليون شيكل، اي ما يساوي تقريباً 237 مليون دولار تصرف على شق الطرق وبناء ابراج المراقبة والجدران. وتقضي الخطة بانشاء جدران فاصلة مرتفعة يبلغ طولها ثلاثين كيلومتراً يقع 15 كيلومتراً منها في منطقة طولكرم وقلقيلية… و10 كيلومترات منها في منطقة القدس قرب القرى العربية… و4 كيلومترات منها في منطقة البريج. اما مساحة الطرق المطلوب شقها فتزيد على سبعين كيلومتراً وذلك بهدف تسهيل عملية الفصل واعمال الدوريات والمراقبة. ثانياً - ضرورة تعزيز مخافر الشرطة على طول خط التماس، ومضاعفة الرقابة والسيطرة على الوسط العربي، والحد من امكانات التسلل. ولتحقيق اكبر قدر من التعاون في هذا المجال اوصت وثيقة العمل بأهمية وجود نقاط عبور منظمة للتجارة والسيارات والاشخاص. كما اوصت بضرورة نشر وحدات امنية على طول خط التماس. وتتمركز قيادة هذه الوحدات في مخافر ثابتة ونقاط رقابة على ان تكون معززة بقوات محمولة جواً وخبراء متفجرات وكمائن. وللاشراف على مسالك عبور المشاة لا بد من تأمين اجهزة لفحص الهويات، وابواب ممغنطة، وآلات خاصة لأشعة اكس تستخدم لكشف حمولة السيارات. ثالثاً - يحتاج تنفيذ هذه الخطة الى 2200 جندي وشرطي والى 230 سيارة وسبع طائرات مروحية وخمسين حصاناً ومئة كلب مدرب على كشف رائحة المتفجرات. وتستعين هذه القوات باجهزة رادار وآلات تصوير "فيديو" واضواء متطورة للرؤية الليلية. رابعاً - بما انه من الصعب جداً ايجاد امكانية للفصل بين غرب مدينة القدس وشرقها، كما لا توجد امكانية لعزل القدس عن الضفة الغربية، فان مصلحة الامن العام "شاباك" ستتولى هي تعزيز دور رجال المخابرات السريين والدوريات الراجلة. من المتوقع ان يبدأ العمل بخطة الفصل هذه فور الانتهاء من مفاوضات المرحلة النهائية. والسبب ان باراك يريد التأكد من قدرته على احتلال اكبر مساحة اضافية من الضفة الغربية وضمها الى اسرائيل قبل الاعلان عن حدود الدولة العبرية. والمعروف ان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة كانت دائماً ترفض ترسيم حدود الدولة عملاً بتوصية بن غوريون الذي تجاوز قرار التقسيم بهدف الاستيلاء على اراض اضافية لم يحددها القرار 181. لذلك تم افتعال حرب 1948 بغية توسيع رقعة الدولة العبرية التي اخذت شرعيتها من قرار التقسيم ومن عضويتها في جميع المنظمات التابعة للامم المتحدة. واستغل بن غوريون في ذلك الحين دعم الرئيس الاميركي ترومن ليصدر باسم "مجلس الدولة الموقت" سلسلة تشريعات اهمها قانون مناطق الحكم والصلاحيات الصادر عام 1948. اي القانون الذي يعطي وزير الدفاع حق تطبيق القانون الاسرائيلي على جميع الاراضي المحتلة والتي تقع خارج حدود قرار التقسيم. ولقد استخدم هذا القانون لتبرير ضم مرتفعات الجولان والقدسالشرقية واجزاء كبرى من الضفة الغربية. وبما ان الاممالمتحدة والدول الكبرى عاجزة عن فرض القوة على اسرائيل لارغامها على تطبيق القرار 181، فان حدود اسرائيل النهائية لن تعلن قبل الاتفاق على الحلول النهائية لقضية الشرق الاوسط. عندئذ يصار الى رسم حدود الدولة العبرية والدولة الفلسطينية. وستكون هذه اهم معالم التغيير الجغرافي في المنطقة منذ اتفاقية سايكس - بيكو 9 ايار/ مايو 1916. السؤال الذي تطرحه فكرة الفصل بين الفلسطينيين والاسرائيليين يتعلق بماهية عملية الانفصال، وما اذا كانت هذه الخطوة ستستمر بعد اعلان السلام أم لا؟ يجمع مستشارو باراك على القول بأن رئيس الوزراء عازم على تطبيق القرار 181 كما صاغه ابا ايبان من دون الاخذ في الاعتبار الناحية الجغرافية المتعلقة بالحدود. والمعروف ان وزير الخارجية الاسبق أبا ايبان تولى عام 1947 مهمة صوغ قرار التقسيم بالتعاون مع ديفيد هورويتز، بناء على طلب لجنة خاصة تابعة للامم المتحدة اونسكوب. وبعد ان وضع الاثنان تصوراتهما حول فكرة انشاء دولتين فوق ارض واحدة، رفعا مذكرة مشتركة الى الاممالمتحدة، قدما لها بالنص التالي: "ان نزاعاً يصعب كبح جماحه انفجر بين شعبين داخل دولة صغيرة لا توجد بينهما علاقات مشتركة. فهما يختلفان في الدين واللغة والثقافة والسلوك الاجتماعي والطموحات الوطنية. وبسبب وجود هذا التباين فان التأسيس لبناء السلام لا يقوم الا عبر نظام عنصري قمعي غير عادل تحكم فيه الاكثرية الفلسطينية الاقلية الاسرائيلية. وعليه فان انهاء النزاع بين الشعبين لا يجد طريقه الا عبر التقسيم لبناء دولتين مستقلتين منفصلتين". ويعترف ابا ايبان في مذكراته بأنه استوحى العدالة القاسية خوفاً من تعريض 600 الف يهودي عام 1947 الى حكم الغالبية الفلسطينية. ولم يكن القرار الذي اتخذه بن غوريون بضرورة توسيع الحدود سوى خطوة مدروسة لتوسيع حركة الاستيطان بهدف استيعاب اعداد كبيرة من يهود الشتات وطرد اعداد كبيرة من السكان الفلسطينيين. وهذا ما حققته حرب 1967 استكمالاً لاهداف حرب 1948. بعد التغيير الديموغرافي الذي حصل خلال 47 سنة اصطدم منطق حزب العمل بمنطق نتانياهو الذي كان يرى انه من الافضل الاختناق في دولة كبيرة، على التنفس بحرية داخل دولة صغيرة. ورد اسحق رابين على هذا الطرح باعلان التنازل عن فكرة "اسرائيل الكبرى" مقابل تنازل ياسر عرفات عن فكرة "فلسطين الكبرى". وأيده في هذا التصور مؤسس فكرة التقسيم ايبان الذي تخوف من قيام دولة يهودية عنصرية على غرار الدولة التي قامت في جنوب افريقيا. وحذر من عواقب السقوط في عقدة "الماسادا" وكل ما تركته قبيلة "الزيلوت" من رواسب في الذاكرة التاريخية اليهودية. واوصى حزب العمل بضرورة العودة الى قرار التقسيم في سبيل انشاء دولتين منفصلتين مثل بلجيكا وهولندا لا يجوز ان يفسد تداخلهما الاجتماعي النقاء العرقي والتماسك الديموقراطي. وعملاً بهذه الوصية سيبدأ ايهود باراك بتطبيق خطة الفصل بين الشعبين، عند نهاية المفاوضات… على ان تستتبعها خطة ثانية في نهاية ولايته تقوم على تبادل السكان. وذلك يقتضي ترحيل 922 الف فلسطيني يعيشون داخل اسرائيل، مقابل استرداد 170 الف مستوطن اسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، اضافة الى 14 الف مستوطن في مرتفعات الجولان. وربما تكون عملية اقتلاع 140 الف فلسطيني من القدسالشرقية هي الاصعب في عمليات التبادل، لأنهم عازمون على البقاء ولو في اسوأ الظروف وأقساها. والمؤكد ان طغيان عدد الفلسطينيين داخل اسرائيل، وارتفاع اعداد مواطني الدول العربية الى 300 مليون عند نهاية هذا القرن، يشكلان الحجة التي يستند اليها باراك لتطهير الداخل من القنابل البشرية الموقوتة، ومنع الخارج من تشديد حصار الغالبية العربية بحيث تصبح اسرائيل جزيرة معزولة في محيط معاد. ولكي لا يصل باراك الى هذا المأزق، فقد قرر العودة الى تنفيذ قرار التقسيم من دون ان يفصل عن اسرائيل الاراضي المحتلة التي تم الاستيلاء عليها بغرض انشاء دولة تتسع لعشرة ملايين نسمة تكون خالية تماماً من اي عنصر غريب، ومن أي احتمال لقيام دولة ديموقراطية تعددية كما يطالب الفلسطينيون! * كاتب وصحافي لبناني.