لم يكن قد مرّ عام، بعد، على نجاح الثورة البلشفية في روسيا، حين راحت "التشيكا"، أي جهاز المخابرات المكون حديثاً، تمارس أعتى آيات القمع ضد أنواع عديدة من المعارضين. وكما هي الحجة الدائمة لتبرير مثل تلك العمليات التي تصاحب عادة الثورات كافة حين تتحول الى دول، كانت الحجة تلك المرة ايضاً، عملية اغتيال، وبالتحديد عملية اغتيال فاشلة. لكن المحاولة لم تطل يومها شخصاً عادياً بل طاولت زعيم الثورة لينين. والأدهى من هذا ان من قام بالمحاولة يومها، فتاة تنتمي الى حزب ثوري اشتراكي، لا أشخاص ينتمون الى الرجعية والى القوى البائدة التي كان يمكن ان تكون متمسكة بعد بالقيصرية. ففي أواخر شهر آب اغسطس 1918، حاولت الثورية فاني كابلان اغتيال لينين، وعلى الفور، وطوال الأسابيع التالية راحت "التشيكا" ترتب سلسلة من أعمال القمع راح ضحيتها الكثيرون، وانتهى بها الأمر الى ان تثير ثائرة القيادات السياسية نفسها. ما اضطر فليكس دجرجنسكي، قائد "التشيكا" ومؤسسها الصورة الى الإدلاء بتصريح قال فيه انه مجبر على هذا لأن عليه ان يحمي الثورة، عبر سحق أعدائها "حتى وان أدى هذا الأمر الى سقوط ضحايا بريئة". كان كلام دجرجنسكي في ذلك الحين كلاماً صريحاً لا يخلو من ماكيافيلية واضحة. كما كان يتناقض بالطبع مع المبادئ الثورية التي انتصرت على اساسها الحركة البولشفية، التي كان من ضمن اتهاماتها للعهد القيصري السابق قمعه للناس، وعلى وجه الخصوص لأعدائه "حتى وإن اسقط ذلك في طريقه الكثير من الضحايا البريئة". هو إذن، المنطق نفسه الذي تبرر به "الثورات" ممارساتها حين تتحول الى دول. والذي تخفي وراءه رغبتها في التخلص من أصدقاء كانوا قد باتوا يمثلون حجر عثرة في وجه سيرها كما يحلو لها. وكان دجرجنسكي قد حصل يوم 5 ايلول على اذن - قرار سياسي بإرسال ابناء "الطبقات المعادية" الى معسكرات الاعتقال من دون محاكمة، وإعدام مناصري الجيش الأبيض فور اكتشاف أمرهم، وهذا القرار هو الذي بدأ دجرجنسكي بممارسته بصورة رسمية اعتباراً من السابع عشر من ايلول سبتمبر من ذلك العام، اي في اليوم نفسه الذي أدلى فيه بتصريحه الشهير الذي أتى في ذروة ما سوف يطلق عليه المؤرخون اسم "حقبة الارهاب الأحمر". وكان بتروفسكي "مفوض الشعب للشؤون الداخلية"، قد صرح غداة محاولة اغتيال لينين، بأنه من الضروري البدء على الفور بالقضاء على كل من يشتبه بأنه مناصر للجيش الأبيض دون تفريق. لكن تصريح بتروفسكي لقي انتقاداً واعتبر موقفاً متسرعاً وشخصياً. وطوال الفترة التالية ظل الأمر بين أخذ وردّ بين قيادات تعلن تأييدها لهذا، وقيادات أخرى ترى ان باب القمع، اذا فتح على تلك الشاكلة، سوف يعطي الثورة كلها صورة منفرة. من هنا، كان انتصار بتروفسكي ودجرجنسكي كبيراً يوم 17/9، حين أعطي ذلك كله طابعاً رسمياً، وصار له قرار سياسي يؤيده. مهما يكن في الأمر فإن رجال دجرجنسكي، لم ينتظروا صدور ذلك القرار، حتى يبدأوا في عمليات القمع العنيف، اذ خلال الأيام التالية لمحاولة اغتيال لينين، تم اعدام اكثر من خمسمئة شخص في مدينة بتروغراد سانت بطرسبرغ وحدها. كما تم اعدام فاني كابلان في غابة وسط تكتم شديد. وخارج بتروغراد تم اعدام الألوف، ودائماً بناء على أوامر دجرجنسكي الذي أدهش موقفه العالم كله، وهو المتحدر من اسرة نبلاء بولنديين، وها هو الآن يأمر شخصياً بإعدام المئات من النبلاء الروس بتهمة التآمر ضد الثورة والدولة... ومع قوة اجنبية هي بريطانيا، حيث من المعروف ان ليونيد كاتيغيسير 22 سنة، العضو، مثل فاني كابلان، في الحزب "الاشتراكي - الثوري" والذي ساهم في خطة اغتيال لينين، وتبين انه المسؤول عن اغتيال موريس اورينسكي، قائد الشرطة السرية وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي، حين هرب، توجه على دراجة - الى مبنى السفارة البريطانية حيث لجأ. وكان ذلك اللجوء سبباً لاعتبار البريطانيين في خلفية تلك المؤامرة وبالتالي التخلص من كل من له علاقة بالانكليز أو بالنبلاء من قريب أو من بعيد.