كان الامتحان الأول لقدرة الاستخبارات البولشفية، المؤسسة حديثاً، على القمع والارهاب. ويقيناً أنها اجتازت امتحانها بكل نجاح. في ذلك الحين كان لتلك الاستخبارات اسم موسيقي الرنة "التشيكا"، وكان لها سيد يصعب اسمه على اللفظ: فيلكس دزجنسكي. أما المناسبة فكانت المحاولة التي قامت بها العاملة فاني كابلان 28 سنة لاغتيال لينين. تلك المحاولة التي لم تقتل زعيم الثورة البلشفية في ذلك الحين، كما نعرف، لكنها أصابته اصابات خطيرة قضت عليه بالتدريج بعد ذلك. كانت محاولة فاني يوم 30 آب اغسطس 1918، حين كان لينين انتهى من إلقاء خطاب له واتجه نحو سيارته. في تلك اللحظة اقتربت منه فتاة بدا عليها وكأنها تريد أن تطرح عليه أسئلة ما. لكنها حين صارت في محاذاته أخرجت من حقيبتها مسدساً اطلقت منه على لينين ثلاث طلقات، أصابت اثنتان منها زعيم الثورة في كتفه وصدره، فسقط لينقل بسرعة إلى المستشفى. أما الفتاة فلم تحاول حتى الهرب، بل تركت رجال الشرطة يقتادونها إلى سجن لوبيانكا. وتبين ان اسمها فاني كابلان، وأنها عضو في الحزب الاشتراكي الثوري وان تلك المحاولة لم تكن محاولتها الأولى، إذ سبق لها، وهي في السادسة عشرة من عمرها، ان حاولت اغتيال حاكم لييف فسجنت ثم حررت ما ان قامت الثورة البولشفية. صرحت فاني حين حاولت اغتيال لينين انها تصرفت من تلقائها لأن لينين خان الثورة. وأكدت أن لا علاقة لمحاولتها بمحاولة أخرى قامت في صباح اليوم نفسه ضد مويس اورتيسكي، رئيس البوليس السري وعضو اللجنة المركزية للحزب هذه المحاولة الأخيرة نجحت على أي حال، وقام بها عضو آخر في الحزب الاشتراكي الثوري نفسه يدعى ليونيد كاتيغسر. وكان رأي السلطات البولشفية مختلفاً: رأت أن المحاولتين مترابطتان وأن في خلفيتهما يد بريطانيا التي لن تكف عن التآمر على الثورة. ومن هنا كانت موجة القمع التي قامت بها "التشيكا" بتوجيه من دزرجنسكي، بعد ان أصدر بتروفسكي، مفوض الشعب للشؤون الداخلية، الأمر بقتل أي شخص يشتبه بأن له علاقة ب "الجيش الأبيض" من دون محاكمة. انطلاقاً من تلك اللحظة - أي من يوم 17 أيلول سبتمبر 1918 الذي أصدر فيه بتروفسكي الأمر، راح الحرس الأحمر - أي جنود الثورة الروسية - يعتقلون "البورجوازيين" و"اعداء الثورة" دون هوادة فيجعلون بعضهم رهائن، ويعدمون البعض الآخر على الفور. ويقول المؤرخون إن أكثر من خمسمائة شخص قتلوا في بتروغراد على تلك الشاكلة في اليوم الأول لإصدار الأمر. أما فاني كابلان نفسها الصورة فلقد اعدمت في غابة من دون أية محاكمة علنية تقريباً، في الوقت الذي كانت فيه السلطات تصدر سلسلة من المراسم والقرارات التي تضفي شرعية كاملة على الممارسات الدموية ل "المفوضية الاستثنائية المكلفة النضال ضد أعداء الثورة والمتآمرين والمخربين"، وهو الاسم الكامل لجهاز "التشيكا" الذي سيكون الجهاز الأهم الذي منه تفرعت كافة أجهزة الاستخبارات الروسية والسوفياتية لاحقاً. وكان أول مرسوم ذاك الذي صدر يوم 5 من الشهر نفسه ويسمح للجنة بأن ترسل إلى معسكرات الاعتقال ومن دون محاكمة، كل أبناء "الطبقات المعادية"، وان تردي مناصري الجيش الأبيض فوراً. وهكذا اندلعت سلسلة من ضروب الارهاب الأحمر لم تتوقف أبداً ووقع ضحيتها آلاف الاشخاص. واشتهر فيلكس دزجنسكي يومها، بأنه كان يؤدي مهنته على خير ما يرام. وكان ذلك غريباً منه هو المعروف بأنه كان متحدراً من أسرة بولندية من النبلاء، وتلقى دراسة رفيعة المستوى، وكان مغرماً بموسيقى شوبان في شبابه. وهو دافع عن تصرفاته لاحقاً بالقول بأنه إنما كان يريد ان يحمي الثورة في وقت كانت تتعرض فيه للخطر من قبل أعداء أقوياء لم يكن أمامهم لتنفيذ "أعمالهم القذرة ضد الثورة"، إلا أن يستعينوا بأبناء الطبقات المتضررة وأيضاً بالثوريين المزعومين من أمثال "فاني كابلان التي، سواء عرفت هذا أم لم تعرفه، إنما كانت في نهاية الأمر تعمل لحساب الاستخبارات البريطانية".