الكتاب: تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية المؤلف: جان مازيل المترجم: ربا الخش الناشر: دار الحوار - اللاذقية العنوان الأصلي للكتاب باللغة الفرنسية هو "مع الفينيقيين سعياً وراء الشمس على دروب الذهب والقصدير". وقد يوحي للوهلة الأولى بأن المضمون يتعلق بنشاط الفينيقيين في تجارة الذهب والقصدير فحسب، لكن يتبين لنا منذ قراءة مقدمة الكتاب للدكتور عبدالله الحلو، ان البحث أعمق من حرفية العنوان، فهو يمثل اختصاراً لحقبة حضارية عالمية مديدة بكل ما فيها من نشاطات ملاحية واسعة وتأسيس مدن ومراكز تجارية استمرت قروناً كثيرة على المدى الجغرافي لحوض المتوسط وما جاوره، وما تعداه الى بحار ومحيطات اخرى. والاختصار المكثف لحضارة الفينيقيين جاء نتيجة جولات الباحث جان مازيل، عبر خمسة وخمسين ألف كيلومتر بحرية وبرية، مر خلالها على معظم الأماكن التي وصله اليها الفينيقيون، محاولاً قراءة آثارهم وتحليل ما بقي منها سواء في الأبنية والنصب الحجرية، أو في العادات الاجتماعية. فكان اسلوبه وصفياً تحليلياً، يعرض المعلومة التاريخية ويفسرها بموضوعية ودقة اعتماداً على جملة معطيات ظاهرة في النقاط الحضارية الفينيقية، مستنداً الى مصادر متنوعة تبدأ بآثار المؤرخين والجغرافيين والشعراء الاغريق والرومان مروراً بالكتاب المقدس في سفري "الملوك" و"حزقيال" وصولاً الى أعمال اساتذة معاصرين نذروا حياتهم بكاملها للدراسة الواقعية لحلقات من الحضارة الفينيقية. يقسم المؤلف كتابه الى أربعة أجزاء تبدأ بأصل الفينيقيين بحسب الأسطورة التي تقول أنهم أتوا من شبه الجزيرة العربية في الألف الثاني قبل الميلاد، واستقروا فوق أرض ضيقة بين البحر المتوسط وجبال لبنان وعرفوا باسم "الشعب الأحمر" أو الحميريين. ويعتقد بعض الباحثين بأن التسمية هي نتيجة ابتكار الفينيقيين للصباغ الارجواني واقتران المهنة بهم، وليس مستبعداً ان يكونوا أعطوا اسمهم للبحر الاحمر باعتبارهم قصدوه كثيراً، وعبروه أثناء رحلتهم نحو الغرب. أما من الناحية الدينية فكان لدى الفينيقيين مجموعة اعتقادات وطقوس وعبادات تعكس في جوهرها اهتماماتهم الزراعية، اذ كانوا يتوسلون الى الآلهة لتمدهم بالخبز والماء والصوف والكتان... ووجدت عندهم أعياد تتفق مع تغيرات الفصول والحياة الزراعية كمواسم الزرع والربيع والحصاد والبيع. يتحدث المؤلف عن منجزات الفينيقيين في مختلف المجالات من خلال عرض تاريخ بعض المدن الفينيقيين مثل جبيل التي اعتبرت حاضرة الكتابة، وصيدون حاضرة الفكر التي تميزت ببحث أهلها عن المعرفة. ويقال ان النظرية الذرية اكتشفها عالم صيدوني يدعى موشيوس قبل 3000 سنة، وربما ابتكر جدول الضرب في صيدون اضافة لنظرية وتر المثلث، اذ أسس فيثاغورث فيها مدرسته الشهيرة القائمة على الرياضيات. يأتي الجزء الثاني من الكتاب تحت عنوان "مع فينيقيي الشرق على طريق القصدير" وفيه أحد عشر فصلاً تبحث بتوسع الفينيقيين انطلاقاً من اسطورتي اختطاف جوبيتر لأوروبا ومغامرات قدموس في بناء المدن على سواحل المتوسط. ويرى المؤلف ان القصص الميثولوجية ترسم لنا حقيقة طريق القصدير بما فيه من موانئ باتجاه الغرب أو غروب الشمس كقبرص ورودوس وكريت. ففي قبرص أنشأ تجار صور وصيدون مراكز تجارية على الساحل الجنوبي للجزيرة، وبنو مدينة "قرت حدشت" وتعني المدينة الجديدة بهدف تسهيل الحصول على خامات النحاس الضرورية لصنع البرونز. أما رودوس فهي أجمل وأكبر جزر الدوديكانيز، وتحوي في أرضها "كل شيء" وحقولها مغطاة بالورود البرية، وقد حمل اليها قدموس الأبجدية الفينيقية وتصاميم المعابد، وشيد معبداً ضمن رودوس وترك فيه بعض الفينيقيين ليخدموه. وما زالت دعائم هذا المعبد قائمة حتى الآن في مكان مرتفع من الجزيرة، وبجوارها أبنية دير أورثوذكسي عمل الايطاليون على ترميمه بعناية. الجزيرة الثالثة في رحلة الفينيقيين على طريق القصدير كانت كريت، وتعد النقطة الواصلة بين أوروبا والشرق الأدنى وافريقيا، ووصفها هوميروس بأنها "كانت منذ 3000 سنة أرضاً جميلة وغنية، منزوية في البحر وفيها كثافة لا تحصى من الرجال وتسعون مدينة". ويؤكد مؤلف الكتاب إقامة الفينيقيين علاقات تجارية مع حكام كريت من السلالة المينوسية، ومحافظتهم على الاتصال مع الجزيرة حتى في فترة انحطاطها، كما يبدو من محتويات متحف "هيراكليون" اذ نجد مزهريات تحمل اشارات شمسية ورسوماً ذات مواضيع عرف بها الفينيقيون ويحتمل أنهم أدخلوها الى كريت عبر نشاطاتهم التجارية. وبعد كريت يتابع الباحث مازيل رحلته مع محطات الفينيقيين في العالم، فيصل الى ساحل ايطاليا الغربي حيث استقر الفينيقيون شمال مدينة نابولي مكان مدينة بوزلي اليوم، ومنها انطلقوا الى الغرب في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وكانوا أول شعب متحضر يصل المحيط الاطلسي. وأسسو قاعدة قادس على ساحل اسبانيا الغربي كمركز تجاري حيوي لصناعتهم وتجارتهم، واستخرجوا هناك القصدير والرصاص من السلاسل الجبلية القريبة، بينما الذهب والعاج من افريقيا. لا توجد اكتشافات أثرية تثبت وصول الفينيقيين الى بريطانيا، وينفي علماء بريطانيون حضور الفينيقيين في بلادهم. لكن وجدت نصوص صريحة لكتاب قدماء تقول ان فينيقيي قادس كانوا يتبادلون التجارة مع مجموعة الجزر الجنوبية الغربية من انكلترا سيللي. ويرى المؤلف ان الفينيقيين وصلوا هذه الجزر واستخدموها لتخزين بضائعهم تبعاً للتقليد الفينيقي في التجارة، ولم يستثمروا المناجم بأنفسهم انما يرجح ان القصدير كان ينقل من بريطانيا عن طريق التجارة الساحلية. أما علاقة الفينيقيين بأميركا الشمالية فما زالت مسألة سجالية تتناقض حولها الآراء، فعلى رغم وجود نقوش على صخرة "دايتون"، الا ان تفسير تلك النقوش ومدى نسبتها الى الفينيقيين لم يحسما بعد، ويرجح المؤلف احتمال اكتشاف الفينيقيين أميركا. يضم الجزء الثالث من الكتاب ثلاثة عشر فصلاً تتناول حياة قرطاجة منذ أسستها "ديدون" المعروفة باسم "اليسار" أخت "بيغماليون" ملك صور. ويقال انها هربت من صور بعد ان قتل أخوها زوجها كاهن كنيسة عشتاروت، وفي سنة 814 ق.م حطت رحالها مع مرافقيها على شواطئ المغرب، حيث أسس قرطاجة التي أصبحت خلال خمسة قرون العاصمة الحقيقية للعالم آنذاك، وتطورت اسهاماتها الحضارية في معظم المجالات كالكتابة والصناعة والتعدين وفن بناء المنازل العالية متعددة الطوابق من 5 الى 8 طوابق تقريباً، وبلغ عدد سكانها في زمن ما حوالى 700 ألف نسمة. ينتقل المؤلف في الجزء الرابع الى الحديث عن طريق الذهب في ثمانية فصول تبدأ مع استيطان القرطاجيين في شمال افريقيا وبداية اتصالهم بجنوبها عبر النقاط المؤدية الى طريق الذهب المار عبر الصحراء، والمفترض ان عربات تجرها خيول كانت تعبر الطريق. ويعود ظهور العربات الى الألف الأول قبل الميلاد على يد شعب اسطوري يدعى أفراده "الجرميين"، وهم جماعات قبلية افريقية جاءت من جنوبي طرابلس واحتكرت وسائل النقل العابرة لإفريقيا. ويذكر المؤلف اخباراً عن رحلة حنون البحرية كما وردت في مصادر عدة، ويستنتج أنها كانت مأثرة دونت في سجلات الاستكشاف البحري وحدثت في القرن الخامس قبل الميلاد. وفي خاتمة الكتاب يقول المؤلف جان مازيل: "ان الفينيقيين حملوا للعالم رسالتين اساسيتين: فهم أوجدوا الروح التي نسميها تبعاً للأواسط والعصور: الواقعية أو الوصفية، الحس العملي، الذرائعية... وهذه الميزات نتج عنها ما نظنه خطأ "الفكر الغربي". والى جانب العقلانية نقل الفينيقيون الى العالم رسالة اخرى هي الأسبقية الممنوحة للروحانية، ولكن بشكل مبسط، وتركزت الروحانية على الشمس الإله المنيع القوي المشع الموجود في كل مكان. وهذه القوة العظيمة المرتبطة بالحنين الى الشرق مهدت سبيل الوحدانيات الكبيرة في المسيحية والاسلام بشكل خاص.