سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فيينا اسمهان وهافانا غيفارا وبندقية كازانوفا بين رحلات روحية وجسدية وغربية وشرقية في مدن العشق والأساطير محيي الدين اللاذقاني في كتابه الجديد "نورس بلا بوصلة"
منذ ورقة الاهداء في أول كتاب (نورس بلا بوصلة) الذي يسيح مع قارئه في مدن العشق والاسطورة تدرك ان المؤلف محيي الدين اللاذقاني يغريك بالرحلة الروحية قبل الابحار بالجسد فالمدن تحمل صفات النساء وتقبل كل أفعال الحب والكره والاهمال والهجران والمغازلة فهناك مدينة تحبها لأول نظرة وأخرى تقرر مقاطعتها وعدم العبور فوقها وثالثة تحب ان تنادمها وتمشط جدائلها الممتدة الى البحر وتداعب أناملها المستحمة بدفء على رمال الشاطئ فللمدن أرواح كالبشر حيث تجد مدينة سمجة الروح واخرى سمحة وثالثة طروب لعوب غنوج كمراهقة فاتنة. ومن خيارات اللاذقاني لمدنه ذات الخصوصية الرومانسية والاسطورية يتكشف منهجه في هذا الكتاب الذي يجدد روحانية الرحالة الكبار فهو يقف على جسر التنهدات في البندقية ويحاور ليالي الانس في فيينا بعد اسمهان ثم يحكي عن انس من نوع آخر في هافانا حيث يتلاقى كاسترو وغيفارا مع أرنست همنجواي وخوسيه مارتي في مدينة تنازع مدنا أخرى على تراث كولومبس ورفاته. وتوضيحا لرؤيته لذلك النوع من السفر الذي يصنع أدب الرحلات يقول الدكتور محيي الدين اللاذقاني في مقدمة كتابه الجديد: (لقد كنت أرى المدن من خلال قصص الحب وأشعاره أكثر مما أجدها في وثائق الحروب والكراهية فالسفر كالضياء يشرق داخل النفس لينير الزوايا المعتمة وبذا تتلاقى وتتلاقح في لحظة ما في مكان ما مشاهد البصر مع تجليات البصيرة). ولكتاب (نورس بلابوصلة) غير جاذبية مدنه المعجونة بالتاريخ والعابقة بالرومانسية والاساطير فتنة أخرى تأتي من الاسلوب الرشيق الأنيق الذي اشتهر به اللاذقاني فأثناء حديثه عن رودس جزيرة الفرسان والقراصنة يفاجئ الكاتب القارئ منذ السطور الاولى بقوله: (الحب ابن حرام، هكذا أصله في أساطير الاغريق فكيوبيد ثمرة شهوة محرمة نتجت عن لقاء مارس بفينوس زوجة شقيقه الحداد) وبعد هذا التبسيط الانيق لمحرك أساطير الحب الاغريقية يذكر اللاذقاني ان فينوس لهااسماء وصفات عديدة فهي أيضاافروديت المستحمة التي ولدت على رمال قبرص لكن رودس احتفظت في متحفها بأجمل تماثيلها. وحين يصف اللاذقاني مجددا تراث أدب الرحلة عند العرب المعاصرين تمثال رمز الحب افروديت تدب الحرارة في الكلمات وفي المرمر البارد الذي ينطق حين يلتقي بعين تحبه وعقل يفهمه. ومن مدن الأساطير العربية غير البصرة وبغداد والقدس مسرى النبوات يقف المؤلف عند مدينتين في شمال افريقيا تلخصان المجد العربي في تلك البقاع هما فاسوالقيروان والثانية يطلق عليها قيروان سيدي عقبة احتراما لبانيها ومجددها عقبة بن نافع الذي تدور حوله أساطير عديدة تدعم الصورة الروحانية لتلك المدينة العربية الاسلامية التي كانت موطنا لسحنون وابن الفرات وابي زمعة البلوي وعلي الحصري القيرواني صاحب الموشح الاشهر الذي يفتن به محمد عبدالوهاب الالباب منذ مضناك جفاه مرقده وصولا الى جميع أفانين العشق التي تسبق سؤال العارف:==1== يا ليل الصب متى غده==0== ==0==أقيام الساعة موعده==2== ومن روحانية القيروان الاولى قبل ان يخربها الهلاليون الذين شردهم الفاطميون الى شمال افريقيا ليتخلصوا من شرورهم في مصر وفلسطين الى دنيوية فاس المغربية يسافر الكاتب بقارئه الى تلك الاصقاع ليجعل من عاصمة المرينيين من خلال صراعها مع الاندلس نموذجا لفهم تركيبة السلطة العربية المثقلة بكوابيسها وكواليسها اما الشخصية التي تساعده على ذلك التحليل العميق فهي شخصية لسان الدين بن الخطيب وزير غرناطة وشاعرها الذي هرب من بني الاحمر في الاندلس وأقام في سلا ثم فاس التي لقي حتفه فيها بمؤامرة من تلميذه العاق ابن زمرك الذي تغطي الى اليوم قصائده جدران قصر الحمراء. ومع مكائد السياسة العربية في فاس يجد الدكتور اللاذقاني الوقت لتأملات روحية في عاصمة المرينيين في مدرسة البوعنانية وفي سوق الصفارين الذي يقول عن شجرته: (عبرنافاس الجديدة دون اكتراث وما هي الا دقائق حتى لاحت لنا فاس القديمة الاصلية كمحارة نصف مفتوحة في حضن جبل زالغ فاقتحمناها ورهبة التاريخ تملأ قلوبنا من باب سيدي العواد الذي اسلمنا الى ساحة الصفارين حيث وجدنا شجرة توحد الله على قرع النحاس منذ ألف عام فلا هي شبعت من التسبيح ولاالنحاس ذاب اجلالا لتقواها). ومن السهل ان تعرف المدينة التي لم يحبها الكاتب من اسلوبه فهو حين يتحدث عن نيويورك تحس بالضجر وعدم الارتياح لتلك المدينة منذ الصفحات الاولى اما حين يحكي عن فيينا فإن الحروف ترقص جذلة لتعكس حبه وارتياحه لتلك المدينة التي يخلط سيرتها بسيرة اسمهان لتكتمل ليالي الانس فيقول في ذلك المزج المتقن بين مدينة وامرأة: (ليالي الانس ليست في فيينا انما في ضواحيها حيث الحانات الألف والموسيقى التي تصدح من الحدائق، ولم تكذب اسمهان ولا خدعتنا فقد كانت تتجمل فقط وحين نكون مع من نحب تصبح كل ليلة أنى كانت قمة ليالي الانس وكانت اسمهان حين زارت فيينا مع أحمد سالم الحبيب الذي سرقته من تحية كاريوكا فلما اتهمته في ليالي الغم بالقاهرة انه حاول قتلها واستدعوا الست تحية للشهادة وسألوها ان كانت تحقد على اسمهان قالت: بالعكس لقد قدمت لي بتخليصي منه أكبر خدمة في حياتي). وفي فيينا كان لابد ان تظهر مع سيرة اسمهان حكايات شترواوس وموتسارت وبيتهوفن وغيرهم من اساطين الموسيقى الذين عبروا في تلك المدينة او أقاموا فيهاكذلك كان للامبراطور الفرنسي نابليون في تلك المدينة نصيب فقد تزوج احدى اميراتها ولا يزال المخدع الذي عاشرها فيه قبلة الزوار في قصر شونبرن في تلك المدينة الساحرة. ان خلط التاريخ القديم بالحديث طريقة يلجأ اليهااللاذقاني حين يحكي عن مدن العشق والاسطورة او يصفها ففي المكسيك مثلاوبعد وقفة فوق اهراماتها الشهيرة في تشتز انيتزا ينتقل المؤلف الى الحديث عن الرسامة المكسيكية فريدا كالو التي ربطتها قصة حب مع الثائر الروسي الاشهر تروتسكي وتحولت سيرتها الصاخبة مع عشاقها وعشيقاتها الى فيلم قامت ببطولته الفاتنة سلمى حايك. وفي هافانا حيث الاساطير تمتد من كولومبس الى غيفارا لا يتوقف اللاذقاني عند السياسة وحدها انما يعطي ايضا للتاريخ الثقافي حقه من تحول بيته في ضواحي العاصمة الكوبية الى متحف وفي ذلك المكان يسأل الكاتب العربي همنغواي بعد حديث عن الصيد ومصارعة الثيران ثم الاسماك في الشيخ والبحر: هل نحن صيادون أم فرائس مسيو همنغواي؟ ثم يتابع مخاطبا الكاتب الامريكي: يا من وزعت حبك بالتساوي بين باريس وهافانا وبامبلونة وبرشلونة فأثبت انك تفهم بالمدن ذات الارواح الحية الصاخبة أماالنساء وفهمك لهن ففي المسألة قولان وأكثر فكل ماكتبته وتركته لايدل على انك عرفت كيف تقترب من المرأة التي تلوح لك بالراية الحمراء أيها الثور المثخن بجراحه الداخلية). ولم ينس الكاتب السوري حيث سورية ولبنان مهد الفينيقيين اثناء عبوره في جزيرة كريت ان يذكر الاغريق بالدين الفينيقي الذي أقرضهم اياه قدموس حين نقل الابجدية الى تلك الاصقاع التي لم تكن تعرف الكتابة قبل رحلة قدموس المضنية بحثا عن اخته اوروبا التي خبأهازيوس في كريت قبل ان تعطي اسمها لتلك القارة الشاسعة. ومن الطبيعي ان تتبع استانبول كريت ورودس لفهم العلاقات المعقدة في بحر ايجة فاستانبول التي ولدت من اسطورة العميان الذين لم يبصروا جمالها تحكمت قرونا طويلة برودس وكريت لكنها لم تستطع ان تنقل لهما تقاليد "الحر ملك" التي ظلت حبيسة قصور سلاطين بني عثمان. ويختتم محيي الدين اللاذقاني كتابه بفصل عن مدن الاحلام والمخيلة كما ظهرت في كتب الرحالة والجغرافيين الأوائل كأبي حامد الغناطي وابن خرذاذبة والقزويني حيث تكثر في المخيلات المكبوتة أخبار جزر النساء وقراهن. الكتاب: نورس بلا بوصلة رحلات الى مدن العشق والاسطورة المؤلف: د. محيي الدين اللاذقاني الناشر: مدبولي القاهرة ايار 2004 عدد الصفحات: 164 من القطع الكبير