تنهمك وزارة الصناعة الإسرائيلية هذه الأيام بإعداد الخطط لإقامة مناطق صناعية جديدة خاصة بالمستوطنات، بينما يشدد وزير الصناعة ران كوهين، أحد قادة "ميرتس" اليسارية، على رفضه تخصيص أي موازنات إضافية للمستوطنات، علماً أن مدير مجلس المستوطنات اليهودية ابرهام دومب يؤكد ان إقامة المناطق الصناعية ضروري ل"اغراء" الآلاف من المهاجرين الجدد للاستقرار في المستوطنات. هذا التناقض في مواقف أقطاب اليسار داخل حكومة ايهود باراك يثير سخرية الباحث والكاتب الإسرائيلي ميرون بنفتس الذي يرى أنه دليل آخر على "النفاق" الذي يتميز به اليسار الصهيوني. من يمعن النظر في المواقف الصادرة عن حمائم حزب العمل وقادة حركة "ميرتس" الأعضاء في حكومة باراك، فإنه لا بد أن يرصد تغييراً كبيراً في هذه المواقف عما كانت الحال عليه أثناء جلوس "اليسار" في مقاعد المعارضة. كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية فشلوا في اخفاء شعورهم بالصدمة من موقف وزير العدل الإسرائيلي يوسي بيلين الذي يدافع بحماس كبير عن اقتراح باراك القاضي بتجاوز تنفيذ الاستحقاقات المهمة من مذكرة "واي" ودمجها بالمرحلة الدائمة. كان بيلين هو الذي بذل الجهود الكبيرة من أجل اقناع الجانب الفلسطيني بقبول ما يعرضه نتانياهو في "واي"، وبيلين، كأحد قادة المعارضة اليسارية، كان الأبرز في انتقاداته لحكومة نتانياهو بسبب ترددها في تنفيذ استحقاقات مذكرة "واي". لا يكتفي بيلين بدعوته للفلسطينيين لقبول اقتراح باراك، بل يهدد السلطة الفلسطينية بأنه في حال رفض هذا الاقتراح، فإن عليها تنفيذ مطالب تعجيزية تتراوح بين تخفيض عدد أفراد الشرطة بشكل كبير ومضاعفة الأجهزة الأمنية لجهودها في مجال مكافحة ما يسميه بيلين ب"قوى الارهاب" الفلسطيني، علماً أن قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يقررون ان السلطة الفلسطينية تقوم بجهود كبيرة في مجال محاربة الحركات الفلسطينية المعنية بمواصلة العمل المسلح ضد إسرائيل. إلى ذلك، طالب بيلين وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في زيارته الأخيرة إلى واشنطن بمضاعفة الضغوط على السلطة الفلسطينية من أجل إجبارها على قبول دمج "واي" بالمرحلة الدائمة. وتنسب الصحف الإسرائيلية إلى بيلين دعوته لإدارة الرئيس بيل كلينتون بالعمل على "خفض توقعات الجانب الفلسطيني" قبل الخوض في مفاوضات الحل الدائم. الوزير في مكتب رئيس الوزراء حاييم رامون الذي يوصف حتى وقت قريب بأنه "زعيم جناح الحمائم في حزب العمل"، يطمئن رئيس بلدية القدس والليكودي ايهود أولمرت بأنه سيعمل من خلال مسؤوليته عن ملف القدس في الحكومة على مساعدة البلدية على استكمال مشاريع التهويد، خصوصاً مشروع "جبل أبو غنيم". كما أن رامون يتفهم الاجراءات التعسفية التي تقوم بها وزارة الداخلية الإسرائيلية بحق المواطنين الفلسطينيين في القدس مثل مصادرة الهويات، والطرد، والتلكؤ في انجاز المعاملات الشخصية. وزير الأمن الداخلي شلومو بن عامي "اسر" قلوب معظم المسؤولين الفلسطينيين بحديثه الوديع واعترافه بمعاناة الشعب الفلسطيني. لكنه ومنذ اليوم الأول لتوليه منصبه الجديد، أعلن أنه بصدد تنفيذ أوامر نتانياهو بمنع الفلسطينيين من اجراء أي أنشطة سياسية في "بيت الشرق"، وإثر تهديداته وافق الجانب الفلسطيني على ذلك. الوزراء الثلاثة رامون وبيلين وابن عامي يؤيدون بحماس شديد التركيز على المسار التفاوضي الفلسطيني، ولكن رامون يفسر ذلك التوجه بقدرة إسرائيل على فرض مواقفها على الجانب الفلسطيني، بعكس ما هي عليه الحال على المسار السوري. وتأكد حديثاً بأن هؤلاء الوزراء يقفون وراء فكرة الزام السلطة الفلسطينية بالموافقة مسبقاً على مذكرة تقترحها إسرائيل حول مبادئ الحل الدائم على المسار التفاوضي الفلسطيني، وهذا ما لم يفكر به نتانياهو. لكن ما يثير الاستغراب هو تسليم ممثلي حركة "ميرتس" اليسارية بالأنشطة الاستيطانية التي يبادر إليها وزير الاسكان اسحق ليفي زعيم حزب "المفدال" الديني الذي يمثل المستوطنين اليهود. وتبدو احتجاجات زعماء "ميرتس" كما لو كانت من باب "رفع العتب"، ولم يتردد ليفي في الرد على هذه الاحتجاجات قائلاً إن حزبه لم يكن لينضم إلى الحكومة لولا قناعته بأن هذه الحكومة ستواصل البناء في المستوطنات. زعيم حركة "ميرتس" وزير التعليم يوسي سريد لم يمنعه موقفه الرافض لمواصلة الاستيطان من تحويل موازنات إضافية للتعليم في المستوطنات اليهودية. وهناك خطط لإقامة معاهد علمية وتقنية جديدة داخل المستوطنات. لكن ما الذي يدفع حركة "ميرتس" لقبول الوضع الحالي وغض الطرف عن سياسات باراك المتشددة التي تتناقض بشكل فج مع برنامج الحركة السياسي؟ يمكن هنا الإشارة إلى عوامل مهمة تدفع قوى اليسار الصهيوني خصوصاً إلى هذا التوجه: أولاً، اقتناع الهيئات القيادية في اليسار بضرورة نقل مركز اهتمامها من القضايا السياسية إلى القضايا الاجتماعية في اعتبار ان ذلك هو الضامن الأساسي للحفاظ على التأييد الجماهيري لقوى اليسار، بل ومضاعفته. ولعل هذا ما أدركته "ميرتس" في الانتخابات الأخيرة، إذ أن انشغال نوابها في البرلمان بتبني قضايا الطبقات الفقيرة كان له بالغ الأثر في زيادة تمثيلها في الكنيست، علماً أن التوقعات تشير قبل الانتخابات إلى تآكل في شعبية الحركة. لكن "ميرتس" ظهرت كمنافس قوي ل"شاس" في كثير من المناطق في إسرائيل. "ميرتس" تعلمت من تجربة "شاس" التي وظّفت هيمنتها على العديد من الوزارات المهمة من أجل دعم مؤسساتها الجماهيرية واغراء قطاعات واسعة بتأييدها، من هنا فإن قادة "ميرتس" مصممون على استغلال وجودهم في الحكومة من أجل مضاعفة رصيدها في الشارع الإسرائيلي، لذلك فإنهم لا يميلون إلى افتعال أزمة مع باراك بسبب التناقض بين سياساته وبرنامج "ميرتس" السياسي، سيما وأن باراك يؤكد لقادة "ميرتس" بأنه يستطيع اقناع الفلسطينيين في النهاية القبول ب"موضوعية" طرحه، لذلك فإن عليهم ألا يكونوا أكثر حرصاً من الفلسطينيين على أنفسهم. وهكذا كان وتم توقيع التعديلات في شرم الشيخ. ثانياً، تآكل الفروق الايديولوجية بين اليسار واليمين في إسرائيل أوجد محاور أخرى للاستقطاب داخل المجتمع الإسرائيلي مثل الخلافات الاثنية بين المجموعات العرقية المختلفة والصراع على طابع الدولة وشكل العلاقة بين الدين والدولة الذي يتفاقم بين المتدينين والعلمانيين. هذا الواقع أغرى قوى اليسار الانشغال باتخاذ مواقف من هذه المحاور الخلافية، وهذا أيضاً أثر على مدى اهتمامها بالقضايا السياسية، لحمائم في حزب العمل. فرامون وبيلين وبن عامي يدركون الآن ان مستقبلهم السياسي مرتبط في مدى انصياعهم لتوجهات باراك وخطه السياسي، وهم يعون ما قد ينجم عن تخلفهم عن تبني توجهات باراك، وما حدث لعوزي برعام ماثل أمام الجميع، حين استثناه باراك من التشكيلة الوزارية الحالية بسبب مواصلة انتقاداته لرئيس الوزراء. * صحافي فلسطيني.