في مشهد مسرحي كوميدي عرضته القناء الثانية في التلفزة الاسرائيلية، تسأل المعلمة احد الطلبة "لماذا تبكي؟"، فيجيب "والدي يساري"، فما كان من المعلمة الا ان هدأت من روعه، وقالت "ان كان والدك يسارياً، فهذا لا يعني انه يساري". الكاتب الاسرائيلي ميخال كابرا يرى ان هذا المشهد يعكس حقيقة الدلالات التي بات يجسدها مصطلح "اليسار"، بالنسبة لمعظم الاسرائيليين، وهو يؤكد ان كلمة "يسار" تحولت الى شتيمة خلال السنوات الاخيرة الاولى من عمر الدولة اليهودية التي اقيمت بجهود "اليساريين الاشتراكيين"، فانقلبت الامور فاذا بهذه الدولة تقدس "اليمين الوطني" على رغم حمله بذور الفاشية. ايهود باراك مرشح حزب العمل لرئاسه الوزراء ادرك هذا الواقع وهو يعلم انه اذا اكتفى بتأييد جمهور اليسار التقليدي والمواطنين العرب فإن فرص نجاحه تؤول الى الصفر، لذلك انصبّت جهوده على محاولة استقطاب تأييد قطاعات من الجمهور الاسرائيلي تتواجد في الوسط وعلى يمين الوسط. ستكون هذه المهمة مستحيلة من دون تخلص باراك وحزبه من الطابع "اليساري" الذي ارتبط به سواء على صعيد المواقف من القضايا السياسية او الاجتماعية. وكما هو واضح حتى الان فإن استراتيجية باراك للفوز في الانتخابات تقوم على محاولة اقتحام الهامش الذي يناور فيه بنيامين نتانياهو عبر تسويق مواقفه بغلاف من التشدد السياسي والامني، وهو يحاول اقناع الجمهور الاسرائيلي بعدم وجود خلافات جوهرية بين حزب العمل والليكود في ما يتعلق بقضايا الحل الدائم مع الفلسطينيين. ويوضح قائلاً: "ان المرء يحتاج الى ميكروسكوب لكي يحدد الاختلافات في المواقف بين الحزبين بعد ان اعلن الليكود من ناحية مبدئية استعداده لتطبيق اتفاقات اوسلو". ويتعمد باراك ابقاء موقفه غامضاً من الدولة الفلسطينية على رغم ان برنامج حزب العمل السياسي لم يعد يعارض الاعلان عن مثل هذه الدولة. ومع ان احد قادة حزب العمل عوزي برعام يعتقد ان الدولة الفلسطينية كما يراها حزبه لن تتجاوز كونها كانتونات تفتقد التواصل الاقليمي، لم يتردد باراك في الحديث عن "الخيار الاردني" والكونفيديرالية مع المملكة الهاشمية. حاييم رامون احد رموز الحزب اكد اثناء لقاء جمع بين برلمانيين عرب واسرائيليين في اثينا العام الماضي ان الدولة الفلسطينية قائمة بالفعل في الاردن، وهذا الموقف المتطرف تخلى عنه حتى وزير الخارجية المتطرف ارييل شارون. وان كان باراك يهاجم بعض غلاة المتطرفين من المستوطنين الا انه يؤكد ان بقاء المستوطنات اليهودية لن يتاثر في اي تسوية مقبلة. ومحاكاة لنتانياهو يبدي باراك تعاطفه مع المستوطنين وانشطتهم. ففي مقابلة اجرتها معه صحيفة "هآرتس" يتحدث براك عن تعلقة الشديد بجبال الخليل ونابلس، ولا يخفي اعجابه بالمستوطنين، ويقول عنهم انهم يواصلون بناء المشروع الصهيوني. ويقول ان اقرب الناس الى قلبه هو الحاخام يوئيل بن نون احد قادة المستوطنين في الضفة الغربية. وتستفز هذه العبارة الكاتب اليساري بحبعام فايتس الذي يرد على باراك في "معاريف" قائلاً: "ان زعيم المعارضه يحابي اناساً لا يضمرون اي احترام للديموقراطية ويستخفون بالقضاء". ولاضفاء "طابع صقري" على قائمة حزب العمل التي ستخوض الانتخابات يحاول باراك ضم حركة "ميماد" وهي حركة صهيونية دينية جمهورها من المستوطنين. ومن اجل التخلص من "لعنة" اليسار قرر باراك عدم خوض الانتخابات تحت اسم حزب العمل، بل اطلق على قائمته "اسرائيل واحدة". وللتخلص من الطابع "الحمائمي" يجري باراك اتصالات لضم ديفيد ليفي، أحد مؤسسي حزب الليكود، الى قائمته، كما انه ضم الجنرال المتقاعد ماتان فلنائي مع انه يحمل افكاراً متطرفة سواء على صعيد المفاوضات مع السلطة الفلسطينية او سورية. ويبرر باراك ومساعدوه دعوتهم لمواصلة العملية التفاوضية مع الاطراف العربية من خلال ابراز الثمار التي تجنيها اسرائيل جراء تواصل هذه العملية. ويوضح عضو الكنيست عن حزب العمل افرايم سنيه ذلك عندما صرح "استثمرنا في الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية خلال عهد حكومة رابين - بيريز ضعف ما قام به الليكود ومن دون ان يحرك العالم ساكناً وذلك لأن العملية التفاوضية كانت على قدم وساق". بالاضافة الى مواقفه السياسية، يريد باراك بلورة انطباع عن نفسه كقائد "كريزماتي". وفي سبيل ذلك يكثر الحديث عن "سجله الضخم من الانجازات العسكرية" منذ ان كان جندياً حتى اصبح رئيساً لأركان الجيش الاسرائيلي. وغالباً ما يشير باراك الى قيامه شخصياً بتصفية القيادات الفلسطينية عندما كان قائد وحدة "سييرت متكال" افضل الوحدات الخاصه في الجيش الاسرائيلي. ويعيد الى الاذهان انه كان وصف اتفاقات اوسلو بأنها "مليئة بالثقوب كالجبنه السويسريه" وذلك عندما كان قائداً للجيش مشدداً على توخي اقصى درجات الحذر في التعامل معها. جملة هذه المواقف جعلت جدعون ليفي احد منظري مدرسة "ما بعد الصهيونية" يصب جام غضبه على باراك وحزبه ويقول: "اشك انه تبلور معسكر حقيقي للسلام في اسرائيل، باراك غير جدير بزعامة معسكر للسلام، فمنذ ان خلع زيه العسكري لم نسمع منه تصريحاً واحداً يؤهله لذلك" هآرتس 13/1/1999. وسبقه الصحافي شالوم يروشالمي الى الاستناج نفسه اذ يقول: "ان ازمة التسوية في الشرق الاوسط تنبع من حقيقة عدم وجود شخص واحد سواء في الليكود او حزب العمل يؤمن او يملك ارادة حقيقية في السلام مع العرب والفلسطينيين" معاريف 6/4/1998، ويسخر الكاتب الاسرائيلي ميرون بنفنسي من دعوة باراك للعرب بتأييده في الانتخابات مع كل ما يحمل من آراء قائلاً: "يعاملون العرب كعشيقة يجوز التمتع بها من دون الاعلان عن ذلك". من ناحية موضوعيه لا امل لباراك في الفوز من دون ابراز مثل هذه المواقف. ولعل هذا السبب جعل "حمائم" حزب العمل تغض الطرف عنها، حتى ان حركة "ميرتس" التي تمثل اقصى اليسار الصهيوني تعلن من دون تحفظ تأييدها لباراك وتتفهم قيادة هذه الحركة محاولات باراك التوجه لجمهور الوسط. المهم انه على رغم كل هذه المواقف والى جانب السيرة الذاتية لباراك الذي وصف في يوم من الايام أنه كان "افضل جندي خدم في الجيش الاسرائيلي" فإن فرصته في الفوز تبدو صعبة للغاية، ولعل هذا الاستنتاج تعكسه هذه المفارقة. فباراك قد شرع منذ بداية الحملة الانتخابية في التركيز على مساوئ سياسة نتانياهو التي ادت الى زيادة معدلات البطالة و"الفقر" وتراجع معدل الدخل القومي للفرد، وتراجع مستوى الخدمات المقدمة لاولئك الذين يقطنون في مناطق الضائقه الاقتصادية، الا ان استطلاعات الرأي العام تشير الى ان التأييد لنتانياهو زاد بالذات لدى الطبقات الاجتماعية التي تعيش الضائقة الاقتصادية. حتى لو فاز باراك فإن الشيء المؤكد ان أحزاب اليمين ويمين الوسط والاحزاب الدينية ستحصل على الغالبية في البرلمان وعندها لن يستطيع باراك تشكيل حكومة من دون الاعتماد على دعم بعضها. لذلك فهو يحاول ان تكون الخطوط العامة لبرنامجه الانتخابي غير متعارضة مع احزاب الوسط ويمين الوسط. او ما يسميه هو ب "قواسم الاجماع الوطني". * صحافي فلسطيني.