باستثناء اخته التي اختارت الاستقرار في إحدى المستوطنات المحيطة ب "رام الله" فإن عوزي برعام عضو الكنيست عن حزب العمل وأحد أبرز قادته ينتمي الى عائلة حمائمية عريقة، فوالده كان وزيراً في حكومة بن غوريون وكان من أبرز المنادين بالتوصل لاتفاق مع العرب وكان يعتبر احتلال الضفة والقطاع أمراً سيضر كثيراً باستقرار الدولة اليهودية وأمنها، كما أن شقيقه من أنصار اليسار المتطرف غير الصهيوني الذي لا يعترف بوجود اسرائيل. أما برعام نفسه فكان من أوائل الذين دعوا الى ضرورة اعتراف اسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية واجراء الاتصالات مع قيادتها، كما أنه لا يخفي تأييده منذ زمن لقيام دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل، وكان يؤمن ان اتفاقية سلام بين اسرائيل والعرب لا يمكن التوصل اليها إلا في وجود حكومة يسارية برئاسة "العمل" وبمشاركة "ميرتز" و"شاس" ودعم الأحزاب العربية، ولذلك عارض برعام تشكيل حكومة "وحدة وطنية" تجمع "العمل" و"الليكود" إذ أن هذه الحكومة - حسب رأيه - ستكون وصفة لتجميد العملية السياسية مع العرب، واستقال في العام 88 من منصبه كسكرتير لحزب العمل احتجاجاً على تشكيل مثل هذه الحكومة. اعتقد برعام أنه لا التقاء بين اتباع مدرسة جابوتنسكي التصحيحية وبين المدرسة الواقعية التي ينتمي اليها "العمل"، لكن برعام حالياً يصرح بأنه من أشد المؤيدين لفكرة حكومة الوحدة الوطنية، ويعزي هذا التغيير المفاجئ في موقفه الى أنه لم يعد يلمس ان هناك فروقاً جوهرية بين مواقف "العمل" و"الليكود" في ما يتعلق بطبيعة الحل الدائم مع الفلسطينيين. كذلك فإن برعام على يقين أن "اليسار" لن يكون بمقدوره تشكيل حكومة بمفرده وأنه لا مناص من الاستعانة بالليكود وأحزاب يمين الوسط الأخرى "جيشر" و"اسرائيل بعليا" و"الطريق الثالث" معاريف 2/12/1997. والتحول الذي طرأ على موقف برعام وجد طريقه الى باقي الحمائم في "العمل" أمثال حجاي ميروم وابراهام شوحاط وحاييم رامون ويوسي بيلين. فمثلاً بيلين اتفق مع أبو مازن على أن الدولة الفلسطينية يجب أن تقام على 90 في المئة من مساحة الضفة الغربية، لكنه بعد أقل من عام على بلورة هذه الورقة توصل مع الوزير ميخائيل ايتان أحد قادة الليكود الى تصور مشترك بخصوص التسوية الدائمة مع الفلسطينيين حين نسف هذا التصور كل ما جاء في ورقة "بيلين - أبو مازن"، فالكيان الفلسطيني العتيد - كما اتضح من تفاهم "ايتان/ بيلين" - لن يحصل على أكثر من 50 في المئة من مساحة الضفة الغربية. ومن المفارقات ان ايتان يعتبر الآن من أكثر المتحمسين لخريطة "المصالح القومية" التي عرضها ارئيل شارون على حكومة نتانياهو حديثاً التي ترى ضرورة احتفاظ اسرائيل ب 70 في المئة من الضفة الغربية. أما بخصوص خطوط الحل الدائم الرئيسة التي يراها مرشح اليسار لرئاسة الوزراء ايهود براك فيصعب تمييزها عن تلك التي يطرحها خصمه نتانياهو. فعن المستوطنات والقدس يقول براك: "ويل لنا ان قمنا باقتلاع المستوطنات، وويل لنا ان قمنا بازالة الجيوب اليهودية من الخليل". وعن القدس يقول: "انه من الأهمية بمكان ان يتم توسيع القدس لكي تشمل كل المستوطنات المحيطة بها ويجب أن يسمح كل اتفاق سلام مستقبلي بتعاظم القدس الكبرى كعاصمة موحدة وأبدية للشعب اليهودي" ويكاد يقتبس نفس ما كتبه نتانياهو في "مكان تحت الشمس" عندما يتحدث عن أهمية الأرض وهو يرد على سلفه شمعون بيريز الذي قلل من أهمية الاحتفاظ بالأرض كوسيلة أمنية في زمن الصواريخ المتطورة. يقول براك: "هذا ليس صحيحاً، فالأراضي مهمة جداً حتى في زمن الصواريخ، فإذا منحنا الفلسطينيين أرضاً فإن كل صاروخ أرض - جو سينصبونه على تلال اللطرون وجنين سيجعل من المستحيل على طائرات سلاح الجو الاسرائيلي أن تحلق في سمائنا". معاريف ملحق 24 ساعة، 2/12/97، في حين يعتبر براك السيطرة على غور الأردن ومصادر المياه مسألة غير خاضعة للجدال والمناقشة. براك الذي يأمل بالتغلب على مرشح اليمين في الانتخابات المقبلة أقدم أخيراً على خطوة ذات مغزى في ما يتعلق بالبرنامج السياسي لكل حكومة سيشكلها مستقبلاً، حين أعلن مراراً وتكراراً انه لن يلجأ للائتلاف مع حركة "ميرتس" نظراً لبرنامجها السياسي "التفريطي" على حد تعبيره، في حين انه أعلن في أكثر من مناسبة أن أي ائتلاف برئاسته سيتشكل من حزبي "اسرائيل بعليا" الذي يؤيده المهاجرون الطريق الثالث بالاضافة للأحزاب الدينية الارثوذكسية "الحريدية" مع ان ممثلي "اسرائيل بعليا" في حكومة نتانياهو الحالية هم من أكثر الوزراء تطرفاً، أما "الطريق الثالث" فيؤيد التسوية الاقليمية مع الفلسطينيين لكن المناطق الأمنية التي يرى الحزب ضرورة احتفاظ اسرائيل بها تجعل 55 في المئة من مساحة الضفة تحت السيادة الاسرائيلية. براك يريد التخلص من الارتباط بپ"ميرتس" والاحزاب العربية لأنه يعتقد ان مثل هذا الارتباط سيقلل من هامش المناورة أمامه عندما يتفاوض مع الفلسطينيين أو السوريين بخصوص أي تسوية اقليمية، وسينظر الجمهور الاسرائيلي بعين الشك الى كل خطوة تتخذ في هذا المجال لذلك فهو معني بأن كل حكومة تحدد مصير الضفة الغربية يجب ان تستند الى أكبر غالبية ممكنة وألا تكون مركبات الائتلاف من الأحزاب التي يسهل اتهامها بپ"التفريط" بپ"أرض اسرائيل"، وهناك سبب آخر يدعو براك لاستثناء "ميرتز" وهو اصرارها على رفض اقرار كل قانون يمثل مساساً بالوضع القائم Status Quo الذي يمثل حال الاتزان في العلاقة بين المتدينين والعلمانيين، وهذا ما لا يمكن ان تسلم به الاحزاب الارثوذكسية التي لا يمكن لبراك ان يستغني عنها. حتى "ميرتز" اندفعت الى "الاجماع الوطني" في ما يتعلق بالقدس، حين رفضت ادارة الحركة العام الماضي اقتراحاً يقضي بتضمين برنامج الحركة السياسي بنداً يدعو لتقسيم القدس الى عاصمتين لدولة اسرائيل وللدولة الفلسطينية المستقلة. وبرر قادة ميرتز هذا القرار بالخوف ان يؤدي تبني هذا الاقتراح الى إلحاق ضربة قاسية بالحركة في الانتخابات المقبلة. وأعرب معظم قادة ومفكري اليسار الاسرائيلي عن رفضهم لفكرة اخلاء المستوطنات اليهودية المنتشرة في الضفة. ووصف رئيس اتحاد الكتّاب العبريين أ.ب يهشوع الذين ينادون بهذه الفكرة بالنازيين، لذلك فإن الأطراف العربية يجب ان تأخذ في الاعتبار ان صعود حزب العمل وتولي براك الحكم لن يؤدي بالضرورة الى انجاز التسوية السياسية بالشكل الذي يضمن الحد الأدنى من الحقوق العربية. فالفروق الايديولوجية بين اليمين واليسار تقلصت الى حد كبير. صحيح ان نتانياهو نظراً لتخبطه السياسي وولعه بالبقاء في الحكم يرى نفسه مضطراً للاستسلام لأكثر أحزاب ائتلافه تطرفاً الا انه في الوقت نفسه يجعل من الصعب على الولاياتالمتحدة وأوروبا التغاضي عن تصرفاته لذلك يبقى دائماً متهماً في نواياه في السلام. لكن الأمر سيكون مختلفاً بالنسبة لائتلاف براك، فواضح ان براك سيطرح مواقف سياسية لا يمكن للفلسطينيين والعرب ان يقبلوها، لكن في المقابل فإنه سيقوم بتسويقها بصورة يصعب على العالم انتقادها. لذلك فإنه يجدر بالاطراف العربية ألا تعول كثيراً على صعود براك وان تبحث بدلاً من ذلك عن استراتيجية عربية موحدة تتجاوز الاستفادة من الفروق الايديولوجية بين اليمين واليسار الاسرائيلي.