من المتوقع أن يصل إلى بيروت يوم الاثنين المقبل 13 الجاري العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، تلبية لدعوة رسمية تلقاها من الرئيس اميل لحود أثناء زيارته لعمّان. وكان من المنطقي أن تتعرض زيارة الملك عبدالله لتفسيرات مختلفة نظراً للظروف التي جمدت تواصل اللقاءات اللبنانية - الأردنية على مستوى القيادة، مدة تزيد على ثلاثة عقود تقريباً. أي منذ قام الملك الراحل حسين بآخر زيارة له للبنان في عهد الرئيس شارل حلو. ومع ان الناصريين في ذلك الوقت حاولوا التشويش على جولته لمنطقة الشمال، إلا أن العاهل الراحل تجاوز كل العراقيل، وأكمل البرنامج الذي أعده له زميل الدراسة في كلية فكتوريا ادي جورج عريضة. ولما فشلت محاولات تعكير الأجواء في بلدة البترون وعند مدخل طرابلس، قام أحد الناصريين بقطع السلك الكهربائي في مهرجان حديقة "المنشية" لكي يعطل عمل مكبر الصوت ويمنع الملك من إلقاء خطابه. ولكن هذا الحادث الاستفزازي لم يربك الحسين الذي ارتجل خطبته وسط تصفيق الجمهور. وكان واضحاً من كثافة برنامجه غير الرسمي أنه يريد تغيير نظرة الشعب اللبناني إلى أسباب القطيعة التي استمرت طوال عهد الرئيس شهاب. ويستنتج من حصيلة تلك الزيارة أن الملك حسين نجح في إستعادة مبادرة التواصل السياسي بعد قطيعة سببّها انقلاب الحزب القومي 31 كانون الأول/ ديسمبر 1960، وما تحمّله الأردن من وزر إثر لجوء بعض الملاحقين إلى عمّان بينهم: عصام المحايري وعلي غندور واميل رعد... أو عقب السماح للبعض الآخر باستخدام عمّان كمحطة عبور إلى الخارج كما فعل المحامي عبدالله القبرصي ويوسف الأشقر. عام 1970 عادت أجواء التوتر لتخيم على العلاقات اللبنانية - الأردنية، خصوصاً بعد حرب ياسر عرفات والجماعات الفلسطينية المسلحة في الأردن ولجوئهم إلى لبنان عبر سورية. ثم ازدادت هذه العلاقات تردياً في عهد الرئيس سليمان فرنجية بسبب الاتهامات التي وجهتها حكومة الرئيس صائب سلام إلى الملحق العسكري الأردني الجنرال شفيق جميعان. واستندت الحكومة في طلب استبعاد جميعان إلى تحقيقات جهاز الأمن الفلسطيني الذي اتهم الجنرال الأردني بالوقوف وراء بعض التفجيرات في بيروت، ثم تبين لاحقاً أن القيادة الفلسطينية انزعجت من نشاطه، وأنها زرعت القنابل في طريقه لكي تقصيه عن الساحة بعدما اكتشفت أنه يزود الأجهزة اللبنانية بكامل تفاصيل الأسلحة المهربة إلى المخيمات. عام 1976 لعب الملك حسين دور الوسيط بين دمشق وواشنطن من أجل تسهيل دخول القوات السورية إلى لبنان، ولقد شجع أصدقاءه من زعماء المسيحيين مثل الرئيس الراحل كميل شمعون على تأييد قرار تدخل دمشق في حرب شرسة لم يكن من السهل إخماد نيرانها من الداخل. وعندما تلكأت سورية في تحديد موعد تحرك قواتها، مشترطة موافقة كل زعماء المسيحيين، بمن فيهم بطريرك الموارنة وكميل شمعون وسليمان فرنجية وبيار الجميل... اضطر الملك حسين إلى إرسال مبعوث خاص لمقابلة شمعون في "الأشرفية". ولم يكن المبعوث يومها سوى السفير السابق عبدالهادي المجالي، رئيس مجلس النواب حالياً. وعاد بكتاب الموافقة، خصوصاً بعدما أكد الحسين في رسالته بأن القوات السورية ستنسحب بعد سنة. من وراء هذه الخلفية التاريخية المتقلقلة التي تحكمت بالعلاقات اللبنانية - الأردنية منذ بداية الستينات، يطل الملك عبدالله الثاني على بيروت الأسبوع المقبل ليرمم الخلل السياسي الذي تراكم على إمتداد عهود مختلفة. ومع أن الصحف العربية أعطت رئيس الديوان الملكي عبدالكريم الكباريتي دوراً مهماً لصالح هذا التوجه، إلا أن الانفتاح المفاجئ الذي أظهره الملك الشاب تجاه سورية… والزيارة الاستثنائية التي قام بها للكويت، قدّمتا المثال الواضح على نهج سياسته الخارجية. وهو نهج مميز قابله الرئيس حافظ الاسد بتوسيع قاعدة التعاون التجاري - الاقتصادي من خلال اللجنة العليا المشتركة التي اجتمعت برئاسة محمود الزعبي وعبدالرؤوف الروابدة. وانتجت اجتماعاتها في عمان سلسلة اتفاقات وبروتوكولات تجارية ادت في النتيجة الى تعديل الاتفاق الموقّع عام 1975 بطريقة تسمح بتبادل خطوات التكامل. كما تسمح في المستقبل بانشاء منطقة تجارة حرة بين الاردن وسورية يمكن ان تصبح القاعدة لتعاون عربي اوسع. وفي ضوء هذا التطور تعامل الملك عبدالله الثاني مع الازمة التي تركت آثارها السلبية على علاقات بلاده مع الكويت عقب الغزو العراقي. وهكذا اعتُبرت زيارته الاسبوع الماضي مقدمة لتغيير ملموس يمكن ان يمحو مشاعر الاستياء، ويلغي خلاف القياديين الكويتيين حول درجة التعاون بين البلدين. ومع قرار رفع التمثيل الديبلوماسي بينهما من قائم بالاعمال الى درجة سفير، ظهرت زيارة الملك وكأنها قفزة نوعية فوق ثماني سنوات من الجمود الاقتصادي والنفور السياسي. او على الاقل، هكذا ترجمها امير الكويت الشيخ جابر الاحمد الصباح، الذي رأى فيها اندفاعاً جديداً لمرحلة بالغة الاهمية يمكن ان تفتح صفحة جديدة من العلاقات الطيبة وتطوي صفحة قديمة من الخلافات العابرة. العلاقات السورية - الاردنية شهدت مرحلة انفراج عقب مشاركة الرئيس حافظ الاسد بتشييع الملك الراحل حسين بن طلال، واعلانه عن تزويد الاردن بمياه الشرب. وردّ الملك عبدالله على هذه التحية بتركيز جهوده على خلق شبكة من العلاقات الوثيقة كانت تتنامى من خلال الزيارات الهادفة التي قام بها لدمشق عبدالكريم الكباريتي والجنرال سميح البطيخي، رئيس جهاز المخابرات الاردني، وبعد لقاءات متكررة اخذ بعضها طابع الزيارة الرسمية والبعض الآخر طابع الصداقة الشخصية، وضع العاهل الاردني الشاب والدكتور بشّار الاسد رؤيتهما لمستقبل البلدين ضمن الامكانات المتوافرة. وقادهما هذا التصور الذي اشبعاه مراجعة وبحثاً طوال ثلاثة ايام حلّ فيها الدكتور الاسد ضيفاً على الملك، الى رسم صورة لوجهات النظر المتطابقة. ومن هذه الصورة برز التعاون في مختلف القطاعات كنوع من الشراكة والتكامل وكل ما تفرضه تحديات العولمة وشروط الدخول من بوابة القرن المقبل. ويبدو ان الدولتين اكتشفتا في هذا التطور جوانب استراتيجية مريحة يمكن ان تخدم مصالحهما في مشروع السلام. ذلك ان التنسيق الامني مع سورية يشكل حماية لأطول حدود اردنية مع اسرائيل… كما يعزز بالتالي موقع عمان التفاوضي خلال المرحلة النهائية، ان كان على صعيد حاجتها لحل مشكلة اللاجئين، أم على صعيد اهتماماتها بالمشاركة في بحث مستقبل القدس وموضوع الدولة الفلسطينية. ومع ان فكرة التكامل الثلاثي بين الاردن وسورية ولبنان لا تزيد عن كونها فكرة تجمع اقتصادي، الا ان ابعادها السياسية ذات دلالات مهمة. والسبب انها ستريح الملك عبدالله من خيار الكونفيدرالية مع الفلسطينيين، ومن الحاح اسرائيل بأن تكون هذه الخطوة مقدمة لاعترافها بالدولة الفلسطينية. وبما ان الملك الشاب لا يريد ربط مستقبل بلاده بأي متاعب قد تنشأ بعد بروز الكيان الفلسطيني المستقل، فان ارتباطه الاقتصادي والتجاري بسورية ولبنان سيبعد عنه وعن عرفات مشروع انتاج الوطن الفلسطيني البديل. أما بالنسبة لسورية فإن هذا الحزام الجغرافي الذي يحاصر اسرائيل على طول حدودها الشمالية والشرقية، يمنح دمشق عمقاً اقليمياً يزيد من اهمية دورها المتعاون مع السعودية وايران. وهو دور بالغ الاهمية لأنه يجعل من سورية حجر الزاوية في اهم مثلثين في المنطقة. ويقول الديبلوماسيون في دمشق ان الرئيس الاسد يسعى الى اقامة نظام امني بديل من النظام الذي عرضه شمعون بيريز في كتابه "شرق اوسط جديد". وكان وزير الخارجية الياباني يوكيهويتو ايكيدا آخر من سمع من الأسد هذا الطرح، وذلك عندما حدثه عن "مشروع نظام امني شامل في المنطقة يضمن امن جميع دولها بعد التوصل الى سلام شامل على اسس قراري مجلس الامن 242 و338 ومبدأ الارض مقابل السلام". السؤال الذي تحمله زيارة الملك عبدالله الثاني للبنان، يتناول العديد من التفاصيل المتعلقة بالتكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث، وما اذا كان بالمستطاع تنفيذ مشروع ترابطي بهذا الحجم؟! وسبب التساؤل ان الانظمة الثلاثة - ملكية وليبرالية واشتراكية متشددة - يصعب تحقيق تكاملها الاقتصادي من دون ازالة العوائق والقيود. ومثل هذه الخطوة تقتضي التنازل عن الحواجز القائمة، وخلق مجالات متعددة للتبادل التجاري والترتيبات المصرفية والتخفيضات الجمركية وكل ما يتعلق بتطوير عمليات النقل والاتصالات والطيران والمياه والري والزراعة والثروة. ويبدو ان هناك اختلافاً في الرأي حول الطريقة الواجب اتباعها لتحقيق مثل هذا التكامل. رئيس وزراء الاردن عبدالرؤوف الروابدة يفضل العمل بالعلاقات الثنائية لأن الاستعجال في نظره لا يؤمن خطوات التكامل. بينما يرى عبدالكريم الكباريتي ان الاردن يضاعف حجم دوره الدولي اذا استطاع ان يضاعف حجم دوره العربي والاقليمي. وعليه فهو يطالب بتوسيع قاعدة التعاون التكاملي بين الاردن وسورية ولبنان، كنواة لإحياء مشروع بلاد الشام. ومن المتوقع ان تزداد قناعته بهذا الطرح عندما يصل الى بيروت الاسبوع المقبل ويزور الجامعة الاميركية حيث بنى سمعته السياسية بين جموع الطلاب، الامر الذي اضطر الملك حسين لأن يتدخل من اجل سلامته وحمايته من غضب الفلسطينيين. ومع ان الرئيس الأسد والملك عبدالله والرئيس لحود لم يعرضوا تصوراتهم النهائية بشأن مشروع التكامل الاقتصادي، الا ان الدكتور بشار الاسد يفضل التطور البطيء والسليم حسب الطريقة الصينية… بدلاً من القفز السريع في خطوات متهورة غير محسوبة العواقب. ومعنى هذا ان الزيارة ستمهد لمرحلة جديدة من التعاون الاردني - اللبناني تكون فيها صيغة التكامل الاقتصادي متلازمة مع ايقاع عملية السلام، خصوصاً وان الاردن مرتبط باتفاقية "وادي عربة" وان انتقاله الى الوضع الذي ينادي به الكباريتي قد يخل بالأمن الذي تعتبره اسرائيل شرطاً لاستمرار وجودها… * كاتب وصحافي لبناني.