أكثر من صفة ارتبط بها لبنان الحديث، ويتم الكلام عنها من جديد. ولعل أهمها صفة "الفندق" ولا سيما في السنوات الجارية مع مشروعات النهوض والإعمار. وفي الحديث عن "لبنان - الفندق" تضمينات أو إحالات أو دلالات "تبخيسية" يراد منها الحط من شأن البلد أو من دوره، فيما عُين الدور هذا في جملة تعييناته شأناً تخالطياً وتمدنياً سبقت به بيروت غيرها من المدن اللبنانية والعربية، وانتقلت به من مجتمع الأهل والجماعات إلى مجتمع تخالطي وعمومي هو ما يرمز إلىه "الفندق" في صيغته العصرية. طبعاً عرفت بيروت وغيرها من المدن العربية والإسلامية، قبل القرن التاسع عشر، "الخان" أو "الواحة" أو "الدحل" كما تقول العربية القديمة لاستقبال الضيف في الخيام، أو محطة الاستراحة في قوافل الحج والسفر والتجارة وغيرها. إلا أنها لم تعرف صيغة "الفندق" قبل القرن التاسع عشر، وفي بيروت على رغم استعارة العربية لفظ "الفندق" من غيرها واستعمالها له بدليل وروده في "كتاب العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي منذ القرن الثاني للهجرة. فكيف نشأ "الفندق" في بيروت بصيغه العصرية؟ يؤكد الباحث اللبناني الراحل جورج برجي في دراسة لافتة وضعها في العام 1978، ولم تنشر إلا في العام 1995، أن بيروت عرفت قبل غيرها هذا النوع من الأمكنة المؤثثة والمخصصة للإقامة لقاء بدل مادي، وذلك منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر. هذا ما يؤكده إداور بلونديل في كتابه الموضوع بالفرنسية "سنتان في سورياوفلسطين" المطبوع في باريس العام 1840، بعد أن أمضى أسابيع عدة في بيروت خلال سنتي 1838 و1839: "منذ أن انتظم خط الإبحار في السفن ذات المحركات البخارية بين بيروت وغيرها، وزاد عدد المسافرين عليها، تبدت الحاجة في بيروت لإقامة فندق فيها. وبعد أن نجح أحد رجال الاعمال في ذلك، سارع آخر إلى الاقتداء به". قبل ذلك كانت الإقامات المتقطعة موقوفة على بعض الأديرة، كما يرد خبر ذلك في غير تقرير عند المسافرين الغربيين مثل الأميركي جوناس كينغ الذي يفيدنا عن رحلته في العامين 1826 و1827 أن الأديرة كانت المكان الأكثر "هناء" للإقامات هذه، إذا ما قورنت بخانات المسافرين التي كانت "غرفاً من دون أسرة أو كراس عدا اختلاط النيام بعضهم مع بعض ومع أسرجة الخيول. وكانت خانات المسافرين تقي المسافر من الشمس والريح والمطر، إلا أنها ما كانت توفر له هناءة العيش السلمية". هكذا اختار المسافرون الأوروبيون إلى بيروت الإقامة، على سبيل المثال، في دير الكبوشيين حتى ثلاثينات القرن الماضي، في ما كان المسافرون الآخرون يعتمدون على استقبال البعض لهم. أما السكان المحليون فيكتفون بالإقامة في الخانات بعد أن يصطحبوا معهم سجادة بمثابة سرير و"مشلحاً" مثل غطاء لهم. المدعو جوزيبي باراسيهيفا اليوناني المولود في مالطة هو الأول، حسب شهادات أكثر من رحالة أوروبي، الذي افتتح فندقاً أو نزلَ ضيافة مدفوعة الأجر وذلك منذ 1830، بعد أن استقبل غير واحد منهم مثل طبيب الليدي ستانهوب وغيره. ثم أقدم الإيطالي المدعو باتيستا على إقامة فندق ثان تبلغنا أخباره من تقارير عدد من الرحالة الأوروبيين. وفي ما خلا هاتين "اللوكندتين" لا يعثر المسافر على نزل سواء في سورية أو في فلسطين إلا في الأديرة، على ما يؤكد بلونديل. ومع إنشاء هذين الفندقين، فان التغير كبير ومفاجىء، وهو ما لا يعدم تسجيله غير رحالة أوروبي مثل البروفسور الإلماني فون شوبرت الذي يعبر عن فرحته إذ يجد نفسه في بيروت "من جديد في فندق مرتب وفق الطريقة الأوروبية". ثم تبلغنا بعد ذلك منذ أربعينات القرن الماضي أخبار فندق ثالث، فندق "بيانكي" الذي تعود ملكيته وإدارته لأنطونيو بيانكي، المالطي في تقرير والإيطالي في تقرير آخر، وهو يقع خارج سور المدينة من ناحيتها الغربية قرب "ميناء الحصن". ثم يقيم أحد الأوروبيين فندقاً رابعاً، قبل أن يقدم اللبناني حبيب رزق الله على إنشاء فندق بدوره، هو الذي عاشر الأوروبيين قبل ذلك وخبر عاداتهم، إذ أتقن الإنكليزية وتنقل بصحبة بعضهم في غير بلد أوروبي واحتذى حذوهم في تأسيس الفنادق. وهذا ما فعله بدوره اللبناني الآخر نقولا بسول، في خمسينات القرن الماضي، وبعد أن عرف مسار رزق الله عينه في معاشرة الأوروبيين والاعتياد على تقاليدهم. بات وجود الفندق ملازماً لبيروت، عدا أن سمعة هذه المؤسسات الجديدة بلغت الأوروبيين في مدنهم بعد أن تناقل الرحالة والقناصل أخبارها. وانتقلت عمليات تأسيسها منذ منتصف الأربعينات إلى مرحلة ثانية يمكن أن نرمز إليها بتسميات الفنادق نفسها، إذ أنها حازت على أسماء خاصة بها مثل "فندق بيلفي" المنظر الجميل، أو "فندق أوروبا"، أو "فندق الأونيفير" فندق الكون، بعد أن انتسبت إلى أسماء أصحابها في المرحلة الأولى. انتظمت الحركة، إذن، حتى أن مروجي الدعاية للفنادق المنشأة كانوا يستقبلون السياح بمجرد ركوبهم في القوارب الصغيرة التي كانت تقلهم من السفن ذات المحركات البخارية الراسية في مرفأ بيروت، على ما يؤكد غير تقرير أجنبي. كما انتظم مع هؤلاء المروجين خط الشراح ومرافقي السياح في تنقلاتهم واحتياجاتهم، وراجت بالتالي، مع ذلك، عادات تعلم اللغات الأجنبية كالإيطالية أو الفرنسية أو الإنكليزية. ومع انتشار الفنادق وكثرتها قام التنافس في ما بينها، وباتت العناية باستقبال الزبائن وتوفير أسباب الراحة لهم عناوين مختلفة لأشكال التنافس. وهو ما تمثل كذلك في تحسين الأثاث والزينة في غرف الفنادق، إذ باتت الحيطان، حسب أحد التقارير، مزدانة بالزخارف وأرض الغرف مكسوة بالسجاد والأسرة مغطاة بستائر "الموسلين"، عدا تمتع الغرف بشرفات مطلة على مناظر جميلة. تحسنت الفنادق، بل تحسنت الحياة خارجها كذلك حتى أن أحد المسافرين الأوروبيين لا يجد غضاضة من البقاء في بيروت لأيام مزيدة بعد أن أصاب سفينتهم المنتظرة ضرر ما أعاق وصولها إليهم في الوقت المحدد لها. وهو ما قاده إلى تذوق الحياة في بيروت أحسن تذوق بمباهجها العديدة وعاداتها المتمدنة والمترفة من سهر ورقص وغيرهما. وبات الأوروبي فيها يشعر، على ما يؤكد غير واحد منهم، كما لو أنه في مدينته لا خارجها، طالما أن الاعتيادات الأوروبية تكرست فيها ولا سيما في أوساط الجاليات الأوروبية التي تزايد عددها في بيروت منذ منتصف القرن الماضي. وهو ما دفع إميل جنيتل إلى الكتابة عنها في العام 1852 بوصفها "أجمل" مدن الشرق، وهو ما تسميه إحدى الأميرات الأوروبيات بقولها في العام نفسه إن بيروت هي "أقل" المدن آسيوية في مدن آسيا و"أكثر" المدن أوروبية بين مدن آسيا. ونتحقق في هذه الأخبار وغيرها من أن دخول بيروت في هذا المسار يعود في المقام الأول إلى مبادرات تجار أوروبيين نقلوا أعمالهم التجارية من عكا إلىها، إثر مضايقات من والي عكا ومن القيم على ماليته حاييم فرحي، حتى بدت بيروت في تقرير أحد القناصل منذ ثلاثينات القرن الماضي "جمهورية التجار"، كما يسميها. إلا أن دخولها هذا يبقى في تلك السنوات غير أكيد أو حاسم بالضرورة على تطورها اللاحق، إذ أن عدد السكان فيها لا يزيد على تسعة آلاف نسمة، ولا تعدو كونها بالتالي بلدة كبيرة أو مدينة صغيرة للغاية تحيط بها الأسوار المعززة ببرجين، ولا يزيد طول سورها من "باب السراي" إلى "باب إدريس" أي من شرقها إلى غربها على 370 متراً، ومن مرفئها القديم إلى "باب الدركة"، أي في الجهة الجنوبية منها، على 570 متراً. وكانت بيروت، بالتالي، مدينة عثمانية كغيرها من دون أية ميزة، ولا تُحسن أو تعتاد على استقبال الغرباء فيها، إذ يتم فيها مثل غيرها إقفال بواباتها عند غروب الشمس، ويمنع على المارة التجوال في أحيائها من دون قنديل، على ما ينقل أحد المستشرقين. وهو ما يدعو جيرار دي نرفال إلى الاستغراب عند زيارته لها "إذ أنها لا تناسب الفكرة الرائجة عنها في أوروبا وهي أنها عاصمة لبنان". الا أن استغراب دي نرفال لا يخفي، مع ذلك، سرعة التطور الذي يقتضيه دخول بيروت في خطوط المواصلات التجارية الأوروبية مع الشرق، وهو ما يجمع على وصفه وتأكيده غير رحالة، بأوجهه المختلفة. ان دخول بيروت في هذه الدورة التجارية، الأوروبية - المحلية، يتبعه ويؤكده تطور تجاري متعدد الأوجه مثل تعلم اللغات أو فتح البنوك أو استقبال الإرساليات التبشيرية ذات الدور التعليمي المنشط والقوي. وهو الدور الذي ستستكمله بيروت مع توسيع مرفئها وتحسن خطوط النقل فيها، منها وإليها. وهو ما يقوله جون ديربين مدير إحدى المدارس في بنسيلفينيا: "إن الوصول إلى بيروت يكاد يكون مشابهاً لعودتنا إلى بلادنا". دخلت بيروت مع الفندق وبواسطته عهداً مغايراً اتسم بالتفاعل والتخالط والخروج من عهد الانغلاق، حيث بات الاتصال بالأجنبي بل التعايش معه شأناً طبيعياً ومألوفاً، وهو ما جعل السفر من اعتيادات الإنسان الجديدة خصوصاً بعد تنامي وسائل النقل، وهي السفن ذات المحركات البخارية، على ما يقول الكونت دي برديو في مطلع تقريره عن رحلته: "كنا نقضي قبل هذا العهد ثلاثة أيام بين مرفأ الهافر في فرنسا وبين باريس، وكنا نعمد إلى كتابة وصيتنا إذا ما اضطررنا إلى عبور حدود المملكة الفرنسية. وكنا نعد أي رجل قدم إلينا من الشرق ووقع نظره على أحد الأتراك شخصاً نادراً، وما كنا ننظر إليه من دون شيء من التبجيل. أما اكتشاف السفن البخارية فقد سهل علينا الأسفار ... وبتنا، اليوم، نتحدث في صالونات باريس عن الشرق، سواء في الهند أو في الصين، مثلما كنا نتحدث في ما مضى عن المدينتين الفرنسيتين روان وأورليان. وبات المسافر الذي قام برحلات، باتت اعتيادية، إلى إيطاليا وسويسرا يمتنع تقريباً عن المشاركة في مثل هذه الأحاديث". وباتت بيروت، بفضل السفن البخارية كذلك، قريبة في خطوط السفر للأوروبيين، وتحتاج السفينة للوصول إليها ثمانية أيام فقط. حتى أن البعض من الفرنسيين، على ما يقول أحدهم، مستعد لتمضية أيام فيها "هي التي لا تعرف الشتاء أبداً"، بدلاً عن نيس أو عن مدن أخرى على المتوسط.