"أحب أن أقود حياتي كأنها رواية". هذه العبارة التي كان الكاتب الفرنسي جيرار دو نرفال 1808 - 1855 يردّدها، تلخص لوحدها ربما، في صورة مضغوطة ومثلية بالطبع، معظم المناخ الذهني والثقافي، بما في ذلك الجانب التخييلي والحلمي، وهو المناخ أو العالم الذي يلف مادة كتابه الذائع الصيت "رحلة الى الشرق". والكتاب هذا بات أليفاً، حتى في نظر الذين لم يقرأوه، ربما لكثرة ما التقوا به في نصوص ودراسات وأبحاث تناولت صورة الشرق كما صنعها أو اصطنعها كتّاب ورحالة أوروبيون جعلوا من التشريق مدار رهانات وتوظيفات يصعب جمعها وضبطها في نسق واحد ومتجانس من دون القيام ببعض الاختزالات ناهيك عن التسرّع في اطلاق الأحكام. والحق أن جزءاً بارزاً من نقد الاستشراق، وهو نقد شرعي وجائز ومطلوب، لم يخل من المغالاة السجالية وما تستدعيه هذه المغالاة من التسرّع والإجمال في التقويم والتفسير. الرجوع الى كتاب نرفال المذكور، الذي صدرت منه طبعات عدّة، أبرزها تلك الواقعة في منشورات "البلياد" الفرنسية والمتضمنة أعمال نرفال الكاملة عام 1984، اضافة الى وجود ترجمة عربية منذ أكثر من عقدين من السنين، الرجوع الى "رحلة الى الشرق" له ما يبرّره اليوم ثقافياً ومهنياً إذا جازت الكلمة الأخيرة. فقد تشرت دار "غاليمار" أخيراً طبعة جديدة من كتاب "رحلة الى الشرق" ضمن مطبوعات الجيب الشعبية والواسعة الانتشار في فرنسا والمعروفة بسلسلة "فوليو". وقد تكون الاحتفالات بالمئوية الثانية للحملة الفرنسية على مصر، والتي تواصلت هذا العام في باريس وفي مدن أخرى، هي التي حضت دار النشر على اصدار الكتاب في حلّة منقحة ومزودة بهوامش وملاحظات وشروحات أدرجت في "ملفّ" مستقل في آخر الكتاب، ويقع الملف في حوالى 1400 صفحة، وإذا أضفنا الى ذلك مقدمة المستشرق الفرنسي المعروف أندريه ميكيل الواقعة في نيف وثلاثين صفحة والموضوعة خصيصاً لهذه الطبعة، يكون لدينا في مجلد واحد من 950 صفحة تقريباً، ما يمكن تسميته بمتن الكتاب، أي نص نرفال الطويل، وحواشيه وشروحاته المباشرة والضرورية. والتقديم الذي وضعه ميكيل المتخصص في الحضارة والأدب العربيين الإسلاميين، يغطي بذكاء وبتعاطف المحاور الأساسية لرواية نرفال وشواغله وهواجسه وصبواته. فهو يعتبر أن المتخصصين في نتاج نرفال يعلمون أن "الشرق" الذي تحدّث عنه كان حصيلة عملية توليف وتدبيج مونتاج مثلثة الأضلاع. العملية الأولى تدور بين رحلتين وسفرين: الى فيينا عاصمة النمسا ومغامراته العاطفية فيها والى الشرق، والعملية الثانية تدور بين ما هو مرئي عياناً وبين ما هو متخيل أو مقروء لدى كتّاب آخرين. والثالثة تدور بين نصوص متنوعة بعضها نشر من قبل في الصحف والمجلات وحتى في كتب. غير أن السفر كان في نظر نرفال نوعاً من التحدّي الموجه الى كتّاب ورحالة سابقين ومعروفين في الأوساط الأدبية في فرنسا، وفي مقدّمهم شاتوبريان ولامارتين. والحق، وهذا ما يلمح اليه أندريه ميكيل، أن جيرار دو نرفال واسمه الحقيقي جيرار لابروني سعى الى منافسة سابقيه في تشخيص الرحلة وفي "التشريق"، ورغب في أن يبزّهم شكلاً ومضموناً. وقد حرص نرفال بالفعل على إضفاء طابع مميز على رحلته، قد يكون أبرزها نزوعه واستساغته لبعض وجوه الحياة البوهيمية والتفاته الى تفاصيل يومية وشعبية في حياة الشرقيين بدون استسلام للأحكام المسبقة والجاهزة. وأندريه ميكيل محق في تحذيره القارىء من البحث في كتاب نرفال عن "شرق في ذاته"، إذ أن مثل هذا الشرق لهو من قبيل الأسطورة أو الفولكلور، كما يحذّرنا، بطبيعة الحال، من استخدام الكتاب للاستدلال على حالة الشرق اليوم. ذلك أن "شرق" نرفال هذا يرقى الى قرن ونصف من الزمن وفيه تختلط الحكايات التاريخية مثل حكاية أدونيرام والخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بالحوادث المعيوشة والمشاهدات والانطباعات التي رافقت الرحلة والرغبة في صياغتها صياغة روائية. وما يجدر الالتفات اليه هو أن نرفال قرأ من قبل هذه الحكايات في بعض الكتب لكنه بقي يردّها الى مرجعية حالمة أو حلمية لابست فكرة الرحلة نفسها ومنذ البداية. في كل الأحوال، يمكن القول أن نرفال قدّم لوحات عن الشرق تميزت عن لوحات وتوصيفات السابقين في أنها أعارت اهتماماً أكبر لمشاهد الحياة اليومية وان كان الكاتب قد استعان لهذا الغرض بأعمال ونصوص متخصصة، وفي مقدّمها كتاب المستشرق والباحث الإنكليزي ادوارد وليام لين الذي نشر عام 1837 واحداً من أهم كتب الأناسة الوصفية الأتنوغرافيا بعد إقامته بضع سنوات في القاهرة، ونعني بذلك كتابه المترجم الى العربية كما نعلم عن "عوائد المصريين المحدثين وشمائلهم". غير أن نرفال الذي استعان بالعديد من الكتب والدراسات المتفاوتة القيمة ظل يشفع عناصر مادته هذه بالتخييل الكتابي والشعري. ثمة شخصية أخرى تلقي بظلالها على نسيج عمل نرفال، وهي شخصية "الرائي" المفتون والمذهول، والذي يسقط في ركام المشاهد الماثلة أمام عينيه آثار حياة سابقة كانت تتسم، بحسب "الرائي" والمتأمل في شرقه، بالبراءة والطهارة الأصليتين. وغني عن القول أن هذه الحياة السابقة غير قائمة في زمن معلوم بل هي نسيج أو ديباجة من الصور والتمثيلات "المشعرنة" المأخوذة من أزمنة وأمكنة مختلفة ومتباعدة تطاول العالم التوراتي والإغريقي - الروماني - الإسلامي. والحال أن نرفال يتشوق الى العثور، وسط هذه العناصر المتباينة، عن وحدة أصلية وعن تناغم سالف لم يبق منهما سوى الأنقاض، بالأحرى الأطلال. وقد يكون من المفيد هنا أن نتذكر بأن والد نرفال كان طبيباً في الجيش الإمبراطوري أيام غزوة نابليون لمصر، وأنه حمل منذ الطفولة استيهامات وصوراً خيالية عن الشرق. أي أن رحلته لم تكن في الحقيقة سبراً لأغوار شيء مجهول، بل محاولة للتحقق من مادة لصور ناجزة وقائمة من قبل. وثمة عبارة كتبها أحد دارسي نرفال تختصر ما سبق عرضه: "كان نرفال يقرأ أكثر مما كان يرى ويلاحظ ويعاين". والعبارة هذه تذكّرنا بمثل أفريقي أسود يناسب المقام إذ يقول: "الأجنبي يرى ما يعرفه من قبل". لدى تناول كتاب متعدد ومتنوع المصادر الثقافية والتخييلية، كما هي حال "رحلة الى الشرق" يجدر بالنقد الأدبي الرصين أن يلتفت الى السماكة والثقل الشخصيين لطريقة الكاتب في اجتراح مكانه ومكانته الفرديين في عالم من العلاقات المتبدلة أو المرشحة للتبدل، أي علاقات الغرب بالشرق. ويجدر كذلك تجنب الاستسلام التى التعريفات العريضة والإجمالية والكلانية، ومعنى هذا أن السيرة الفردية خليقة بالتعهد والاهتمام. وسيرة نرفال تحفل بفقدانات ونكسات حاول الكاتب التعويض عنها بصياغة صورة عن مصر ولبنان جبل لبنان واسطنبول وفيينا تكون على قياس حرماناته وتطلعاته. ويكفي التذكير، ها هنا بأن نرفال فقد أمه في عام 1810، أي بعد عامين على ولادته، وأن محبوبته المغنّية جيني كولون تزوجت من عازف ناي ثم ماتت في عام 1842، وبعد بضعة أشهر على وفاة هذه الأخيرة سافر نرفال الى الشرق. وكان قبل ذلك أصيب بأول نوبة عصبية حادة وبقي عدة أشهر في مصح للعلاج النفسي. رحلته الشرقية حصلت إذاً عام 1843، وفي بداية عام 1846 راح ينشر مقاطع عن رحلته استهلّها بنشر "نساء القاهرة" ثم توالت المقاطع الأخرى الى أن نشر عام 1851 الصيغة النهائية لكتابه. وعندما سافر الى المانيا عام 1854 بعد مغادرته العيادة الطبية في باريس، عاد من هناك مصاباً باختلال وتشوش عقليين وعاش متسكعاً ومتشرّداً ومفلساً. الى أن وجدوه مشنوقاً في 26 كانون الثاني يناير من عام 1855، وذلك في شارع "لافيي لانترن"، والمدهش ان اسم الشارع هذا سيكون في ترجمته العربية "القنديل أو الفانوس العتيق". وهذا الإسم المعرّب يكفي لإضفاء طابع خرافي - شرقي على حياة كاتب ترجم "فاوست" لفوته عن الألمانية وقرأ حتى الثمالة حكايات ألف ليلة وليلة وفوانيسها السحرية. - من تقديم أندريه ميكيل للكتاب . الرحلة الشرقية بوصفها كناية عن قراءات وأحلام من بين قراءات نرفال نجد النصوص التي وضعها الرحّالة أو الذين سبقوا علماءنا المتخصصين في الأناسة الوصفية، وفي مقدمهم ادوارد وليام لين، والذين استعار نرفال منهم مقاطع عدّة، بل صفحات بكاملها. ولكن سواء قام بتسجيل ملاحظة من عندياته، أم استنسخ عن غيره أم تخيل، فإن المؤلّف هو أي شيء سوى كاتب تحقيق في المعنى الحصري، فهو يسافر مصطحباً شخصه بالذات، وهذه الرحلة ليست، في نهاية المطاف، سوى استعارة وكناية عن قراءاته أو أحلامه، شرقه يشكّل عالماً على حدة، مسكوناً بكائنات وأشياء تتحول، إرادياً، الى مخلوقات يبتكرها الشاعر. هل تكون مصر التي يتحدّث عنها نرفال مزيفة بالتالي؟ الجواب هو: كلا، انها حقيقية، ولكن بالنسبة الى نرفال. ما من أحد مثله أراد أن يكون مستعداً وجاهزاً الى هذا الحدّ، ومنفتحاً على حقائق غير التي يعرفها، تلك التي تخصّ انساناً أوروبياً، بل حتى باريسياً. وإذ تعب من اضطراره الاقتصار على بضع كلمات في محادثة أولية، فإنه قرّر أن يتعلّم العربية - للوصول الى أية نتيجة؟، وأن يرتدي الزيّ البلدي، ويستجيب هنا وهناك الى العوائد المحلية، بما في ذلك المطبخ. ولئن بقي يشعر بعدم الرضا، فإنه رغب في النفاذ الى داخل الروح، الى سرّ الحضارة. غير أن نهاية السباق لبلوغ الواقع الفعلي تقوده الى ذاته، دائماً. العرس المحتفى به على ضوء المشاعل، والذي يصفه نرفال بألوان صبيحة وباهرة، يحيل الى قراءة كتاب لين أو الى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، علماً بأن اسم بطل الحكاية بدرالدين " اسم الكتاب ذاته يظهران بعد ذلك في إطار آخر من حكايات الليالي الألف نفسها، في بداية مغامرة عاطفية بمناسبة زيارة لدى تاجر القماش. ولكن على رغم اضطراره الى الحديث عن مشروع لم يكتمل، كما هي حال هذه المغامرة، فإنّه يمكننا على الأقل تركها معلّقة داخل الحلم الحكائي. وتتمة القصة التي تقود نرفال، للأسف، الى "البيت الخطير" للزوج، تكشف عن أن هذا الأخير فرنسي، وجندي سابق في عهد الإمبراطورية، استقر في مصر واعتنق الإسلام. السخرية، والانفكاك، ليسا سوى أحد أشكال الإحباط، والرجوع الى حالة عدم الرضا الأساسية. النص كلّه، بالأحرى الرواية كلّها، حول الإقامة في القاهرة يقوم على هذا التنقل الدائم ذهاباً وإياباً بين الذات، الأفكار الثابتة عن الموت، عن عهد ذهبي مفقود، عن تفاهة المعيوش في المعنى القوي لكلمة تفاهة، والرغبة في نسيان الذات من خلال الغوص في الحياة الفعلية، في حياة الآخرين: الأعياد، المقاهي، النزهات، الحمامات، الصراخ، الأغاني، القصائد، وصول موكب الحجّاج من مكة، زيارة مدينة الأموات، والعديد من اللوحات الأخرى، كل هذه الأمور تحمل النبرة الأكثر صواباً ومعها، في صورة شعار، هذه الصداقة نحو الشعب المصري "المحتقر جداً من قبل الأوروبيين"، "المسكين والجاهل" بدون شك، "الحالم أكثر مما هو ناشط"، "أكثر ذكاء مما هو كادح ودؤوب"، ولكنه جوهرياً "طيّب". وما من كائن آخر يضاهي المرأة في نقل التمزق الذي يعيشه نرفال. وفضلاً عن ذلك، فإن الفصل الحكائي المصري كلّه، بل حتى السفر والرحلة عن طريق البحر والأيام الأولى من التوقف في لبنان، يجري تقديمها تحت عنوان "نساء القاهرة". والحال أن الكلمتين مترادفتان أو تكادان. وحول هذا الموضوع وفي معرض حديثه، الواضح أو الضمني، عن الحريم يتناول نرفال بالضبط الشرط الخاص بالمرأة، فيقول: "لنضع جيداً في رأسنا هذه الفكرة القائلة بأن المرأة المتزوجة، في سائر الإمبراطورية التركية، تتمتع بذات الامتيازات الشائعة في بلادنا أو بأنه يسعها أن تمنع زوجها من اتخاذ زوجة ثانية، وذلك من خلال تضمين هذا الشرط في عقد الزواج". ويقول بعد ذلك "ينبغي أن نعلم أيضاً بأنه لئن كان كل بيت ينقسم الى جزئين مفصولين تماماً الواحد عن الآخر، أحدهما مخصّص للرجال والآخر للنساء، فإن ثمة سيد رئيس من جهة، وثمة سيدة رئيسة من جهة ثانية ]...[. ليس في الشريعة الإسلامية إذاً أي شيء من شأنه أن يهبط بالنساء الى حالة العبودية أو الدناءة، كما يعتقد البعض". على هذا النحو تكون المرأة كائناً على حدة، في عالم على حدة، مثل القاهرة. والاثنتان تريان بعضهما البعض، تتسجلان، تعلنان وتحفظان سراً، أو عدداً من الأسرار، والتي لا يمكن لاكتشافها إلا أن يكون مستحيلاً أو مؤلماً. إذ يحيل، في الحالة الأخيرة هذه، الشاعر السادر في هواه الى عوارض الأرض وما يطرأ عليها أو الى حلمه غير المكتمل. هذا البحث عن المرأة وعن القاهرة يظهر ساطعاً في المدّة الزمنية، عبر الحياة العاطفية لنرفال، وفي بعض اللحظات القوية، مثل زيارة الأهرامات. كما في فيينا، تترجح الرغبة بين استغراق الإنسان الوحيد في التأمل وبين الاهتمام بالجنس الآخر. ونضيف القول بأن الشرق، مرّة أخرى، يعلي من شأن النازعين ويثيرهما الواحد والآخر. نادرة هي الصفحات التي لا تظهر فيها امرأة، في معرض البورترية أو في الخطاب. وقلب نرفال يظل على الدوام يواصل رحلته، لكن المسار يجد هنا، ضدّ العزلة، تبريره بل حتى جوهره في نظام المجتمع الذي لا يعجبه أن يرى رجلاً يعيش بدون صحبة سوى صحبة خدمه وخادماته. من هنا تأتي مغامرة الأمة الشابة المولودة في جاوا، والتي تم شراؤها بعد محادثات عديدة وكثيرة، وحصلت في شأنها ترددات عدّة، ناهيك عن الشكوك والصعوبات التي تلت لاحقاً: استحالة حصول زواج حقيقي، إذ يستدعي ذلك أن تبدّل الفتاة المسلمة ديانتها، غياب أو ما يشبه غياب التواصل بين لغتين غريبتين الواحدة عن الأخرى، رفض الرجل أن يترك الخادمة الى قدرها، وفي النهاية، حكاية السكن الداخلي للفتيات في بيروت، في لبنان الملائم لهذه الحكاية، حيث تترك الفتاة على أمل أن تتلقى تربية مسيحية.... على صعيد آخر وفي منظور آخر، الرهان يبقى هو نفسه لدى زيارة الأهرامات. فالنص الذي تمتزج فيه ذكريات السفر والقراءات يبدأ، بطريقة غير متوقعة، بحكاية الصعود والذكرى، والمشوبة بالسخرية، المتعلقة ببونابرت والمقصود هنا نابليون وعبارته العتيدة عن "الأربعين قرناً" التي تنظر الى الجنود الفرنسيين من أعلى الأهرامات .... هل ينبغي أن نتحدث عن الدين؟ من نافل القول أن نرفال يهتم به: بواسطة قلمه، وبواسطة لسانه أو لسان محاوريه نرى الألوهية والاأدرية المسيحية البروتستانتية أو الكاثوليكية وبالطبع الإسلام، نراها لا تكف عن التحادث مع بعضها البعض. والمسافر يظل في العمق إنساناً غربياً، ولا مجال للشك في هذا، لكنه يعرف كيف يجعل نفسه مراقباً متنوراً لإيمان الآخرين، وكيف يميز بين العقيدة وبين التقاليد، بين الرسالة وبين السلوكيات الاجتماعية التي تستلهمها، ويسجل بمحبة وعطف احترام الحياة، والتسامح، "التدفق المؤثّر جداً والعلني جداً" للصلاة، والتسامح في آخر المطاف - يبقى أن نرفال، القليل الميل الى تبديل الديانة، والفاتر جداً في ما يتعلق بديانة آبائه، يمتلك إيمانه الخاص به، "وهو إيمان الحالمين والشعراء، أي الافتتان بالطبيعة وحماسة الذكريات". عندما كتب هذه السطور، كان نرفال وسط البحر. لقد غادر "مدينة القاهرة الهرمة هذه"، حيث يقول عنها "عثرت من جديد على العلامات الأخيرة للعبقرية العربية، وهي عبقرية لا تكذب الأفكار التي جُبلت عليها وكوّنتها عن طريق القصص والتقاليد المتصلة بالشرق". فلنلحظ هذه النقطة الأخيرة: نرفال يعترف بنفسه لنا بأن السفر أقلّ قرباً من اكتشاف وتسجيل الحقيقة منه الى ارادة العثور على الذات، ذاته هو، كما قولبها المصير الى الأبد، لكن ما يقوله بعد ذلك ليس أقل إفصاحاً وكشفاً: "لقد رأيتها عديد المرات في أحلام الصبا، بحيث كان يبدو لي بأنني أقمت فيها في زمن من الأزمنة" كنت أتعرّف على مدينة القاهرة السالفة والتي تخصّني وسط الأحياء المهجورة والمنازل المتداعية! كان يبدو لي بأنني أضع قدميّ داخل آثار خطواتي القديمة" كنت أذهب وكنت أقول لنفسي: حين أنعطف عن هذا الحائط، وحين أجوز هذا الباب، سوف أرى هذا الشيء بعينه، وكان الشيء هذا موجوداً هنا، مهدّماً ولكنه حقيقي". الكلمات الثلاث الأخيرة تكشف عن أشياء، إذ كان من الأفضل لنرفال أن يقول "حقيقياً لكنه مهدّم". والدليل على ذلك هو الشرح الطويل الذي يعقب عبارته والدائر على موضوع مصر - القبر، وعلى الرمل بوصفه رمزاً وعلامة للموت الذي تشكّل عبادته "ملمحاً أبدياً لطباع مصر"