صرحت فاطمة أوفقير - زوجة الجنرال أوفقير - التي قضت 19 سنة محرومة من حريتها لصحيفة فرنسية بعد اعلان وفاة العاهل المغربي الملك الحسن الثاني بأنها: "لم تنم وقضت ليلها كله تنتحب على العالم الذي قد هوى". وابنها رفيق اوفقير محا الحداد من ذاكرته كل الذكريات المؤلمة عن أبيه القتيل بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1972، فلم يذكر الا "المرحوم الملك"، الذي لن ينساه المغاربة أبد الدهر. ولا شك فإن الاحياء من مساجين سجن تازمامارت الرهيب شعروا هم ايضاً باليتم كأربعين مليون مغربي، لأن العلاقة التي تربطهم بالملك الحسن الثاني هي علاقة مماثلة لعلاقة الطفل بالأب المرهوب والمحبوب في الوقت نفسه، والذي يشكل فقدانه دائماً افتقاداً للحماية والرعاية. مئات الآلاف من المغاربة الذين شيعوا الملك الراحل الى مثواه الأخير، جددوا في الواقع البيعة للمؤسسة الملكية المغربية التي تجري في المغاربة مجرى الدم في العروق، والتي لا بديل لها والتي لا يوجد مغربي عاقل يشكك في لزومها لوحدة المغرب وبقائه واستقراره. بمجرد سماع رحيل ملكنا سألت نفسي ماذا يبقى من مآثره؟ يبقى انه ترك وراءه مغرباً موحداً ومحترماً اقليمياً ودولياً، ويبقى انه لم يربّ المغاربة على الحقد على المستعمر الفرنسي او الاسباني كما فعل آخرون، ويبقى انه حاول بشيء من التوفيق الملاءمة بين الأصالة والحداثة، وبين الثقافتين الاسلامية والحديثة الغربية، ويبقى انه كان رسول السلام بين العرب والاسرائيليين، اذ كان يتمتع بثقة الجانبين. فهو الذي مهد الطريق امام الاسرائيليين والمصريين للذهاب الى كامب ديفيد، عندما استقبل في الرباط سنة 1977 موفد الرئيس أنور السادات حسن التهامي وممثل الحكومة الاسرائيلية الجنرال موشي دايان، وهو صاحب مبادرة الاعتراف باسرائيل في قمة فاس عام 1982، مقابل إعادة الأراضي العربية المحتلة والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته، علماً انه طالب عندما كان ولياً للعهد عام 1958 إبّان زيارته للبنان بالاعتراف باسرائيل وإقامة السلام معها على اساس حل عادل للقضية الفلسطينية داعياً الى قبول اسرائيل عضواً في الجامعة العربية. وهو مهندس اتفاقات "اوسلو" بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية سنة 1993. وهو أيضاً الذي رفض خدمة للسلام استقبال بنيامين نتانياهو على رغم محاولته المتكررة بسبب تنكره لمسيرة السلام. وقد أعلن اليهود المغاربة في اسرائيل الحداد على وفاته، وضم الوفد الاسرائيلي للعزاء مئة شخصية يقودها رئيس الدولة عازر وايزمان، ورئيس الحكومة ايهود باراك. نعاه ثلاثة وزراء اسرائيليين بأنه كان "شريك وصديق اسرائيل"، واعتبر رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ان موته "كارثة للشعب الفلسطيني". وكأنما الملك الفقيد يترك وصية للملك الجديد محمد السادس لكي يواصل التقدم على الطريق التي دفع عليها الراحل العظيم قافلة السلام. ويبقى في الذاكرة المغربية الجماعية انه كان القلعة الحصينة امام المد الأصولي في المملكة، فعلى رغم ان الاسباب الموضوعية من فقر مدقع وبطالة كثيفة وتهميش جارف تستدعي نمو الظاهرة الاصولية على الطريقة المصرية او الجزائرية، فإن الحضور الكاسح لشخصية الملك الدينية بصفته أمير المؤمنين جعل الشعب المغربي يُعرِض عن سماع الصفارات الأصولية. والحسن الثاني هو صاحب نظرية ان المرأة المسلمة هي السد الذي ستتكسر على جدرانه أمواج الطوفان الأصولي، وقد أفصح عن هذه الفلسفة السياسية اكثر من مرة امام وسائل الإعلام الفرنسية خلال زيارته فرنسا سنة 1996، وعندما سأله صحافي عن عدم وقوف المرأة المسلمة الايرانية امام استيلاء الاصولية الايرانية على السلطة في ايران اجاب: لأن نساء ايران خنّ بنات جنسهن، فتواطأن مع الخميني بدلاً من مكافحته. ويبقى في الذاكرة المغربية الجماعية ايضاً ان الراحل حافظ في المغرب حتى في احلك السنوات على "هامش ليبرالي" ينفّس من خلاله شباب المغرب، وكنت احدهم، مكبوته السياسي في نشرات شبه سرية يختلط فيها الغضب المشروع بالطفولة اليسارية والأوهام التي لا تتحقق الا في الاحلام، لكن فضيلتها انها كانت تغنينا عن اللجوء الى متنفس آخر اخطر هو العنف والارهاب. ويبقى ايضاً انه وضع المملكة على طريق التناوب الديموقراطي، لا شك انه تناوب ممنوح من الملك، وان الانتخابات التي اسفرت عنه لم تكن نزيهة، لكنه كان بداية واعدة، فتجربة الجزائر 1990 - 1991، علمت المغاربة ملكاً ونخبة الحذر من "الفوضى الديموقراطية"، حيث أدت 120 صحيفة يومية و60 حزباً، الى الحرب الاهلية التي ما زالت تستنزف الجزائر اقتصادياً وبشرياً. قطعاً لن يكون مغرب ما بعد الحسن الثاني كما كان في عهده، فالتحديات الاقليمية والدولية والتناقضات السياسية والاجتماعية التي كان يغطيها الحسن الثاني بظله العملاق سوف تظهر على السطح متطلبة حلولاً عاجلة في ظروف داخلية وإقليمية صعبة بالنسبة الى المغرب. فالمهمات الملحة المطروحة كثيرة، من أكثرها إلحاحاً القيام بنقلة نوعية في التناوب الديموقراطي لجعله اكثر انسجاماً وتجذراً بتخليصه من شَلَله الحالي في الحكومة ذات الرأسين المتنافسين، والتي لا تشجع الاستثمارات الخارجية على دخول المغرب. وفي المدى الأبعد بتنظيم تشريعات اكثر نزاهة من سابقتها تسفر عن برلمان اكثر تمثيلاً للطيف السياسي المغربي، وترفع الضيم الذي أُلحق بحزب الاستقلال المغربي، وتحد من بيع الاصوات لمن يدفع اكثر، وتكون في الوقت نفسه فرصة لاعطاء الملكية الدستورية التي اقرها دستور 1996 ملامحها النهائية وتقاليدها الحضارية، وتمكن بذلك الفاعلين السياسيين من جرعة كافية من حرية التصرف في صنع واتخاذ القرار، لتكون المملكة قادرة على التصدي للتحديات الخطيرة التي تواجهها وفي مقدمها الازمة الاقتصادية الحادة، وخطر الانفجار الاجتماعي بسبب البطالة الكاسحة التي تشمل 40 في المئة من اليد العاملة النشطة، 80 في المئة منهم شبان دون الثلاثين، وخصوصاً بطالة الخريجين الجامعيين الذين لا يخرجون من اضراب الا ليدخلوا في آخر، لا سيما وان 75 في المئة منهم عاطلون. وهناك تحدي الأمية المذهلة، اذ يوجد في المغرب 60 في المئة اميون، كما ان نصف الأطفال محرومون من الدراسة، وأكثر من ثلث المغاربة يعيشون تحت حد الفقر بدخل شهري لا يزيد عن 40 دولاراً، كان الأمير سيدي محمد يجمع لهم التبرعات الخيرية للتخفيف من معاناتهم، وحبذا لو يُصار الآن في عهده الى تكوين مؤسسة وطنية لمكافحة الفقر مماثلة ل"صندوق التضامن" التونسي الذي قالت عنه الإيكونوميست البريطانية انه قلّص نسبة الذين يعيشون تحت حد الفقر خلال عشر سنوات من 20 في المئة الى 6 في المئة فقط. مهمة أخرى جليلة مات ملك المغرب قبل وضع توقيعه عليها هي "مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية"، الذي أعدته حكومة التناوب والمماثل في خطوطه العريضة لقوانين الاحوال الشخصية التونسية، يمنع تعدد الزوجات ويقنن الطلاق اذ ينقله من تعسف الزوج الى نزاهة القضاء ويعطي الجنسية للأطفال المولودين من ام مغربية وأب اجنبي، والتي لا شك في ان الملك محمد السادس لن يسمع اصوات الاسلاميين المتطرفين أعداء المرأة المطالبين بسحبه. هذه عناوين بعض المهام المطروحة على العاهل الجديد، وعلى مغرب ما بعد الملك الحسن الثاني، ومن شأنها تمكين عهد محمد السادس من التواصل مع أفضل ما في العهد السابق والانفتاح على الافكار والمؤسسات العصرية، خصوصاً ان الملك محمد السادس مثل أبيه الراحل متجذر في تراثه العربي - الاسلامي ومتشبع بالمثل العليا للحضارة الأوروبية. ويعتبر المغرب بلداً مسلماً وأوروبياً، وعلى هذا الأساس طلب الملك الراحل انضمامه الى الوحدة الأوروبية، والأمير سيدي محمد تمرن لمدة 8 شهور في مكتب دولور رئيس اللجنة الأوروبية في بروكسيل للتحكم في تفاصيل السوق الأوروبية الموحدة، التي سيصبح المغرب عضواً كاملاً فيها بمقتضى اتفاقية الشراكة الأوروبية سنة 2010، مثل باقي دول المغرب الكبير. هذا الانفتاح على اوروبا وتبني قيمها في الديموقراطية وحقوق الانسان والمساواة بين الجنسين وإلزامية التعليم وتحديثه هو الضمانة الأولى لجعل المغرب اكثر استقراراً وازدهاراً، وحجر الأساس في بناء المغرب الكبير الذي سيشكل سوقاً من 100 مليون مستهلك تثير لعاب المستثمرين الدوليين. * كاتب مغربي مقيم في فرنسا.