المندوبة النقابية الشابة التي طردتها احواض غدانسك، في صيف العام 1980 من عملها بسبب نشاطها ضمن اطار تحرك نقابات "التضامن" التي كانت محظورة في ذلك الحين، هل تراها شعرت في اليوم الذي تبلغت فيه الطرد، ان مشكلتها تلك سوف تقلب بولندا كلها رأساً على عقب، وستكون اشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير؟ الحقيقة انها لا هي، ولا اي شخص او مراقب غيرها كان في امكانه، في ذلك اليوم الصيفي ان يخمن ان طرد نقابية من عملها سيشعل لهيباً يحرق في طريقه كل شيء. في ذلك الحين كانت نقابات "التضامن" مجرد قوة مزعجة مرتبطة بالكنيسة يتزعمها كهربائي يدعى ليخ فاوينسا الصورة، علامته الفارقة انه يعلّق صورة للسيد المسيح في سترته. وكانت فروع التضامن تتحرك كلما وجدت ثقباً في الرقابة الادارية الشيوعية يمكنها ان تنفذ منه. وهكذا، حين طردت النقابية الشابة، اعلن عمال احواض "لينين" في غدانسك الاضراب. في البداية حاولت السلطات الالتفاف على الامر، وعاملت المضربين بالعنف، غير راغبة في الاعتراف ب"نقابتهم" وكبر الاضراب بسرعة ليشمل عمالاً آخرين في مواقع اخرى. وبدأت صحافة العالم تتحدث عن الموضوع. وكان من الجلي ان الاحداث تتخذ مساراً غريباً. في لحظة من اللحظات، احست السلطات الحاكمة ان الامور قد تفلت من بين ايديها إن لم تلن بعض الشيء. وبالنسبة الى الشيوعيين المتشددين، كما بالنسبة الى الذين يحنّون اليوم الى تلك الازمان، كانت تلك هي الغلطة الكبرى، الغلطة التي حملت اسم "اتفاق غدانسك" وهو اتفاق عقدته السلطات مع ممثلي "التضامن" - دون ان تعترف بهم في اول الامر - في اليوم الاخير من شهر آب اغسطس من ذلك العام. كان الاتفاق، في الاساس، يقضي بوقف الاضراب، مقابل تراجع السلطات عن طرد المندوبة النقابية، اضافة الى افراجها عن نقابيين كانوا اعتقلوا اثناء ذلك. غير ان الجانب الاهم في ذلك الاتفاق، الذي سيصبح تاريخياً منذ ذلك الحين، لم يكن التسوية التقنية، بل الدلالة السياسية: كانت تلك هي المرة الاولى التي تتفاوض فيها السلطات مع اعضاء "التضامن" بصفتهم كذلك، ما عنى ان السلطات تعترف، للمرة الاولى، بوجود تلك "المجموعة"، وبتمثيلها للعمال. وهذا الاعتراف الذي بدا موارباً، وغير رسمي في ذلك اليوم، سرعان ما تجسد بعد ذلك بأسابيع قليلة، ليصبح اعترافاً رسمياً. وظهر امام العالم كله العامل الكهربائي، فاوينسا، بابتسامته وسذاجة نظراته، كقوة تجابه قوة السلطة. على الفور ساد الارتباك صفوف السلطة والحزب، وبدأت ضغوط الشقيق السوفياتي الاكبر، على "الرفاق البولنديين" لدفعهم الى تسوية الامور بشكل لا يزيد من تضخم ظاهرة "التضامن". غير ان هذا كله لم يجد، خصوصاً وان جماعة التضامن بعد لقاء عاصف وصاخب جرى بين زعيمهم وبين بابا الفاتيكان البولندي الاصل كما نعرف احسوا انهم باتوا من القوة بما يكفي ليس فقط لازعاج السلطة ودفعها الى تحقيق بعض مطالبهم، بل لارباكها حقاً، ومقارعتها في لعبة شد وجذب كانت استراتجيتها بدأت تتضح. هنا مرة اخرى لم تفهم السلطات الشيوعية حقيقة ما يحدث، وحقيقة ان الغضب الداخلي واهتراء الاوضاع الاقتصادية، والكراهية التاريخية للروس، ووجود بابا بولندي في الفاتيكان، ناهيك باستنفار الرأي العام العالمي كله الى جانب "التضامن" التي تحلّق من حولها عدد من كبار المثقفين البولنديين الذين تربطهم علاقات واسعة بعالم الثقافة والفكر الاوروبيين، ناهيك عن تحرك وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية داخل بولندا - كما سوف يتضح لاحقاً -، حقيقة ان هذا كله جعل المعركة محسومة سلفاً. وهكذا حين جيء الى السلطة بالجنرال ياروزلسكي، وبدا وكأن الجيش هو المهيمن الحقيقي على السلطة، كان من الواضح ان شيئاً ما سوف يحدث في هذا البلد، شيئاً ما عميقاً وجذرياً. وياروزلسكي نفسه تحرك في لعبة شديدة الدقة: كان عليه ان يفتح حواراً دائماً مع الغاضبين المتكاثرين، على رأسهم "التضامن" وكان عليه في الوقت نفسه ان يقبض على الامور بيد من حديد، وبلده عرضة للتهديد الدائم، بأنه، في حال استرخاء السلطات، سوف تتدخل قوات حلف وارسو، لاعادة الامور الى نصابها. وكانت بالتالي الاحداث التي نعرف، واهتراء الوضع اكثر، ثم انهارت الشيوعية في بولندا، قبل ان تنهار في بلدان اخرى كانت تحكمها، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، وطبعاً تبدلت الاحوال الى درجة ان الكثيرين ينسون اليوم ان اتفاق غدانسك الذي عُقد في مثل هذا اليوم قبل 19 سنة كان الثقب الاول والاساسي في سور المقاومة الشيوعية لأي تغيير.