ربما لم يعرف تاريخ بولندا الحديث سياسيّاً أثار من السجالات وتناقض الآراء ما أثاره ليخ فاونسا، زعيم نقابات «التضامن» الذي قبل أن يضحي رئيساً للبلاد، ناضل طويلاً كي يلحق الهزيمة بالحكم الشيوعي فاتحاً الأبواب على مصاريعها أمام سقوط الأنظمة الشيوعية الستالينية الحاكمة في طول أوروبا الشرقية وعرضها... بما في ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه. عن كل هذا اعتبر فاونسا مسؤولاً... ومع ذلك، لا يزال كثر من البولنديين وغير البولنديين يعتبرون أن ذلك الزعيم النقابي إنما كان في حقيقة أمره عميلاً معتمداً من قبل البوليس السري البولندي أيام الحكم الشيوعي ومتعاوناً مع الاستخبارات السوفياتية. للوهلة الأولى يصعب تصديق هذا أصلاً... لكن ثمة من الأقاويل و «الوثائق» ما يؤكده. ومن هنا، يجيء اليوم تدخُّل المخرج السينمائي البولندي أندريه فايدا الذي، حاملاً سنيه الست والثمانين، يعمل على إنجاز فيلم روائي عن فاونسا أنجز حتى الآن تصوير نصف مشاهده، ويأمل في أن ينجز النصف الآخر خلال الشهور المقبلة كي يتسنّى عرض الفيلم قبل آخر كانون الأول (ديسمبر) المقبل. بالنسبة إلى فايدا، ليست هذه المرة الأولى بالطبع التي يضع فيها سينماه في خدمة تاريخ بلاده، وغالباً من موقع المشاكس إما على السلطات الحاكمة، شيوعية كانت أو غير ذلك، وإما على الأفكار المسبقة الرائجة في الشارع. وهنا، مرة جديدة بعد نصف قرن من مسار سينمائي حفل بأفلام مميزة مثل «كنال» و «ماس ورماد» و «رجل من مرمر» و «رجل من حديد» و «كاتين»، ها هو فايدا يستعيد في فيلمه الجديد «فاونسا»، نحو عشرين عاماً من تاريخ هذا العامل العصامي الذي انتخب أول رئيس لبولندا بعد انهيار الشيوعية. وهي الأعوام العشرون التي تقع بين 1970 و1990، وتبدأ من شروع فاونسا في النضال بعد مجزرة في حق العمال المضربين في مدينة غدانسك الصناعية أسفرت عن 40 قتيلاً وآلاف الجرحى، لتنتهي مع الشارع المنتفض وهو يطيح الحكومة المعينة من موسكو... ومن يعرف التاريخ البولندي يعرف بقية الحكاية وأن العشرين عاماً التي يتابعها الفيلم كانت حاسمة في تاريخ البلد، وكذلك في تاريخ الرجل... والفيلم يركّز على هذا التاريخ بدءاً من مشهد أوّلي يرينا البوليس السري محاولاً الإيقاع بالمناضل ودفعه إلى توقيع وثائق تدين الزعامات العمالية (وهي واقعة حقيقية)... ليؤكد لنا إثر ذلك أن فاونسا رفض التوقيع وبالتالي لم يتورّط في أي عمل استخباراتي. انطلاقاً من هنا، من المتوقع أن يثير الفيلم عند عرضه اهتماماً واسعاً وكذلك لغطاً أوسع... ولن يكون هذا جديداً على سينما فايدا التي غالباً ما أثارت سجالات لعل آخرها وأكثرها صخباً، كان ذاك الذي قابل فيلمه «كاتين» الذي عاد إلى مجزرة كانت القوات السوفياتية ارتكبتها خلال الحرب العالمية الثانية ولكن التاريخ الرسمي سكت عنها طويلاً.