يبدو لي اننا سوف نواجه قريباً تحدياً فكرياً شديد الخطورة. واهمية هذا التحدي تتمثل في ان وزارة التعليم "الاسرائيلية" تعيد النظر في منهاج تدريس تاريخ قيام الدولة العبرية بحيث تتم مراجعة سرد الوقائع بما قد يبدو للوهلة الاولى انه اعتراف واضح بالغبن الذي الحقه المشروع الصهيوني بالشعب الفلسطيني. كما ان السياق التاريخي يتضمن اقراراً واضحاً بأن الحقائق التي كانت في صلب نصوص الهيئات التعليمية في "اسرائيل" كان فيها الكثير من التشويه المقصود، اذ ان الغاية كانت تبرر الوسيلة حتى ولو كان التبرير على حساب الحقائق الموضوعية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. تبدو هذه المراجعة التي تنطوي على نقد للذات بمثابة "صحوة ضمير" في المؤسسة الحاكمة الجديدة ل"اسرائيل"، على كل حال فان قسماً من المؤسسة التعليمية السائدة - وغير المرتبطة بالجهاز التعليمي الديني - هي القائمة على تسريع نشر الكتب المدرسية الجديدة والساعية لتبنيها من قبل المدارس الاعدادية والثانوية. هذا التطور يتم تسويقه وتبريره من خلال الدعوة الى ان هذه المراجعة دليل "النضج" في الحالة "الاسرائيلية" وان "اسرائيل" ترسخت واستقرت ولم يعد من ضرورة اعتماد التزوير الصارخ للوقائع التي لا تزال السمة الاساسية للخطاب الصهيوني. كما ان دعاة تصحيح الوقائع والتزام الدقة في السرد يقولون "ان تاريخ "اسرائيل" كان يعتبر منفصلاً عن تاريخ العالم، وحان الوقت الآن ان يدرس تاريخ "اسرائيل" من خلال الاطار العام والعالمي للتاريخ". وامعاناً بمحاولات المؤرخين الجدد، اقناع العناصر المحافظة والمتشددة التي تشير الى خطوة المراجعة النقدية وما قد تنطوي عليه من تشكيك بشرعية قيام "اسرائيل" يجيب المؤرخون "الجدد" ان ثقة "اسرائيل" بنفسها وبقوتها وبديمومة تفوقها، اضافة الى انتشار "ثقافة السلام"، خاصة بعد اتفاقيات اوسلو مع الفلسطينيين تجعل الوضع مشابهاً الى حد ما، وان لم يكن متطابقاً مع التجربة الاميركية، عندما استكملت قوتها في مجابهة ذاتها واعترافها بالظلم الذي الحقته بالسكان الاصليين الهنود!! وبرغم انه لا يجوز التقليل من اهمية هذا التطور الذي اقدم عليه "المؤرخون الجدد" لكن في الوقت نفسه علينا ان نتجنب المبالغة في اعتبار هذه الظاهرة بمثابة تراجع عن مقومات وأسانيد المشروع الصهيوني من هذا المنظور يتعين علينا ان نعي ونتدارس ما تنطوي عليه هذه المبادرة من احتمالات ومعان حتى نتمكن من التعامل معها بدقة، ونحرص على تأكيد ان هذه المراجعة تأتي ضمن اطار المفهوم الصهيوني وليس تمرداً عليه او انسلاخاً عنه. ان الحرص على ضرورة التحليل الدقيق يجيء على خلفية ما حصل من انبهار بعض النخب الثقافية والحاكمة بتطورات اكثر بهتاً وأقل مساءلة، مما تقوم به جماعة "المؤرخين الجدد". فمنذ معاهدة الصلح بين مصر و"اسرائيل"، اخذت وسائل الاعلام الغربية تروج لحث المثقفين العرب على القيام بنشر "ثقافة السلام" والاقتداء بما قام به الرئيس الراحل انور السادات من "اختراق" للحواجز النفسية في اعقاب الصراع العربي - الصهيوني والحرب العربية - "الاسرائيلية".وعلى أثر اغراءات جوائز نوبل التي منحت للسادات ومن ثم للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وقبلها للأديب المصري نجيب محفوظ، فقد نشأت قناعة بأن مفتاح الاقرار "بعالمية" اي مثقف او سياسي عربي تكمن اما في المصالحة مع المشروع الصهيوني او في التغاضي عنه، او بالاحرى عدم المساءلة بشكل جدي عما الحقه المشروع من ظلم بفلسطين وغير فلسطين وان هذا الاستعداد للتعايش بدون مساءلة - وان ترافق مع الاستناد الى "واقعية" وجود "اسرائيل" وانعدام الوزن والتنسيق في الحالة العربية الراهنة فهذا يشكّل عملية تخدير للذاكرة القومية، ناهيك عن الامعان بالتشكيك بوجود ارادة قومية. لذا وتحسباً لأي شريحة قد تقوم بالدعوة "للحوار مع المؤرخين "الاسرائيليين" الجدد" او قبيل ان يكتشف "مثقفو كوبنهاغن" ودعاة التطبيع ان ظاهرة المراجعة لتاريخ قيام "اسرائيل" هي دليل لمحاولتهم "نشر ثقافة السلام" وتسليف "اسرائيل" التطمين المسبق للتعايش المقبل، اجل قبل ان تحاول هذه "النخب" السياسية والثقافية تبرير دعواتها للتطبيع، ولا مفر لنا من مجابهة هذه الفئات المنقطعة عن مشاعر وحقوق ومصالح شعوبها بهدف ردع تماديها ووقف محاولة استئناف اختراقاتها وبالتالي العمل الدؤوب على ارضاء المضلَلين بفتح اللام الى اطار العمل الوطني والقومي وبالتالي عزل المضلِلين بكسر اللام الذين استهوتهم "عالمية" مبتورة. ضرورة التميز صحيح ان الذين يدعون الى حوار مع "المؤرخين الجدد" ليسوا تماماً مثل الذين استهوتهم وعود كوبنهاغن او من رضخوا لمنطق "الواقعية" التي سببتها وقيعة اتفاقات اوسلو وواي ريفر. توجد بالفعل فروقات قائمة ودوافع متباينة حتى في اغلب الاحيان متناقضة. لكن لا بد لنا من ان نشير بوضوح الى وجود اوجه شبه ما قد يشكل مطبات حتى اذا وقع احدنا في شركها تكون بقصد او بغير قصد، مساهمة في افقادنا المناعة المطلوبة التي بدونها لن نستطيع اخراج امتنا واوطاننا من المآزق الصعبة التي نجد انفسنا فيها. لا بد من الاشارة الى ان المؤرخين الجدد في "اسرائيل" ليسوا كلهم على توافق كما انه يوجد بينهم من قام بالمراجعة النقدية نتيجة قناعات مبدئية وعلى اثر صحوة ضمير امثال ايلي آمينوف واسرائيل شاحاك وعدد من كبار المفكرين اليهود امثال نعوم شومسكي وفي الماضي سيمحا فلابان وعدد غير قليل في السابق وفي الحاضر من الذين رفضوا كل المسلمات العقائدية للصهيونية وثاروا عليها من مواقع دينية او مبدئية. هؤلاء ما زالوا قلة وليس لدينا معهم اية مشكلة، على العكس فمعظمهم حلفاء في المعركة مع المشروع الصهيوني وبالتالي هم يقاومونه من خلال مقاومتهم للاستعمار وللعنصرية ومن زاوية ان الدعوة الصهيونية لاقامة كيان يهودي منسلخ من شأنه ان يفترض ان اللاسامية حالة طبيعية عند غير اليهود وبالتالي ملازمة للطبيعة البشرية، لذا على اليهود الآن ومستقبلاً ان يتكونوا في اطار قومي محض يهودي. هنا تبرز المفارقة. يعمل المؤرخون الجدد في "اسرائيل" على ايجاد مخرج للمأزق الاخلاقي الذي تجد "اسرائيل" نفسها فيه، ومن التناقضات الجوهرية والعديدة التي يولدها المشروع الصهيوني لمستقبل الكيان "الاسرائيلي" من جهة وليهود "اسرائيل" انفسهم من جهة ثانية، لذا يجدر ان نفرّق بين القلة التي سلخت نفسها عن الصهيونية، عقيدة ومشروعاً وسياسة، وبين معظم المؤرخين الجدد الذين يقومون بمراجعاتهم النقدية واعتماد الحقائق في السرد لما الحقه قيام "اسرائيل" من ظلم بحق الشعب الفلسطيني نتيجة لسياسات التمييز التي مارستها ولا تزال تمارسها"اسرائيل" والتي تشكّل الدافع الرئيسي لتوسعها وقيام مستعمراتها ولتهويدها للقدس ولانجاز اهدافها في الهيمنة والتحايل على الشرعية الدولية. عمق المراجعة اذاً، ان اي مشروع في التعامل مع هذاالتحدي الذي تشكله ظاهرة المؤرخين الجدد يجب ان ينفذ الى مدى عمق المراجعة واستعداد هؤلاء المؤرخين لأن ينفذوا بدورهم الى جذور الازمة وعدم الاكتفاء بدراسة بعض تجلياتها من تناقض في الخطط الخاصة بمستقبل "اسرائيل" ومن ثغرات مؤسسية في وجودها. ويجب في النهاية انتزاع اجابة المؤرخين الجدد عن السؤال الحقيقي والمغيّب منذ اكثر من خمسين عاماً اي: هل ان "اسرائيل" هي حقيقة حاجة يهودية؟ لكن هذا السؤال الاساسي لن يُجاب عنه في الحقبة التاريخية الراهنة على الاقل، ناهيك على انه لن يتاح لهذا السؤال بأن يطرح جدياً. اذاً، ان ما يقوم به المؤرخون الجدد في "اسرائيل" هو مجرد مراجعة نقدية واعترافات مضيئة للوقائع والاحداث بغية حماية المشروع الصهيوني وتطويره وجعله اكثر مقبولية للمجتمع الدولي ولكي تكون "اسرائيل" بمنأى عن المساءلة بالنسبة للاجيال "الاسرائيلية" القادمة. بمعنى آخر، فان التأريخ الذي يحدث الآن في اوساط اكاديمية وفكرية في "اسرائيل" انما هو عملية استباق وقائي كي لا تتحول التزويرات والتشويهات والاكاذيب التي رافقت قيام الكيان الصهيوني في فلسطين الى انتشار صيغ اللاانتماء مستقبلاً، ومن ثم التنصل من الولاء لمؤسسة قامت على انقاض كيان وطني فلسطيني موجود متمتع بشرعية تاريخية. ومن هذا المنطق يتبين لنا اهمية هذا التحدي وضرورة التحسب لما ينطوي عليه من مغزى ومن آثار على المرحلة المقبلة من الصراع العربي - الصهيوني. نفعل هذا ونحن ندرك ما تختزنه هذه المراجعة النقدية لتاريخ قيام "اسرائيل" من احتمالات جذب لمن يرون في هذه العملية فرصة لارساء معالم تسوية وتعايش بين "اسرائيل" ودولة فلسطين في القريب المنظور، وعلى أسس من المساواة كما يتمنون! ظاهرة غير فريدة ثم ان ظاهرة المؤرخين الجدد ليست فريدة من نوعها، كما ان الشعور بالحاجة الى الاقرار وحتى الاعتراف بما حصل من ارتكاب خروقات وتصفيات عرقية ومذهبية وغيرها صار لها رواج، بحيث ان استقامة الحالة الاخلاقية في بلد ما تستوجب طمساً او محواً للاقتراف الذي قامت به حكومات ونظم عنصرية واستعمارية للمواطنين وللسكان. كما نجد اليوم مثلاً في صربيا بعد مآسي كوسوفو كيف يواجه مثقفو الصرب وفنانوهم وشرائح كبيرة من الشعب ما اقترفه نظام ميلوسيفيتش بحق اهالي كوسوفو الألبان ومسلمي البوسنة من قبلهم. صحيح انهم لا يوافقون على التقييم الذي دفع حلف الاطلسي الى معاقبة بلادهم، الا انهم يدركون ان عليهم ان يقوموا بمحاولة فكرية - وسياسية اذا امكن - لمحو الخطايا الجسيمة التي ارتكبت باسمهم ولكنهم لم يرتكبوها بأنفسهم. لكن صربيا لم تقم مكان شعب آخر وان كانت حاولت باستمرار ممارسة التطهير العرقي والجرائم ضد اقليات داخل حدودها. من جهة اخرى وجدنا ان جنوب افريقيا تمكنت من تقويم العلاقة بأن اعادت من خلال حركة التحرر الرائعة والمقاومة المتواصلة للاكثرية موقعها الديموقراطي مع التأكيد على ضمان حقوق الاقلية البيضاء، بما جعل هذه التجربة النضالية الرائدة نموذجاً لكيف يمكن للنقمة المشروعة ان تحول دون اللجوء الى الانتقام كون حرمان الانسان الافريقي الاسود من حقوقه لا يجيز حرمان حقوق الانسان الابيض في جمهورية اسسها مانديلا وبلور انسانيتها. ولعل اوضح تجربة في التبرؤ من ممارسات اجرامية، والتزام عكسها هو ما حصل في المانيا بعد الحرب العالمية الثانية وكيف ان الحكومات الالمانية المتعاقبة قامت بنبذ كامل لحقبة النازية وما ترتب على هذا الموضوع من اعادة النظر بشكل جذري في قيم وأسس الحضارة الالمانية، لذا فان ظاهرة المراجعة النقدية وتصويب السرد التاريخي الذي رافق احداث قيام الدولة العبرية ليس فريداً من نوعه، لكن الامر يختلف بظروف قيامها وبطبيعة تركيبها. منطلقات المراجعة بادئ ذي بدء، تنطلق المراجعة التي يقوم بها المؤرخون الجدد من ان قيام "اسرائيل" حالة استثنائية. هذا التأكيد يحد من جذرية المراجعة ويجعل الاستنتاجات المنبثقة عنها محدودة، بحيث ان المساءلة لن تشمل نقطة الانطلاق لقيام الدولة العبرية. بمعنى آخر تنطلق المراجعة "للمؤرخين الجدد" من مسلمة ان ل"اسرائيل" "حقاً في الوجود". من اين ينبثق هذاالحق، وما هي مرجعيته وما هو المستند الشرعي لهذا الحق؟ كل هذه الاسئلة هي من المحرمات وبالتالي فان اية مراجعة للسرد التاريخي يجب ان تنطلق من فرضية ان ل"اسرائيل" حقاً في الوجود، عندئذ اذا حصلت اية محاولة للنفاذ الى صوابية هذه الفرضية تتغير قواعد المراجعة ويصبح السؤال هل "اسرائيل" حاجة يهودية وارداً وهذا من شأنه ان يجمّد اية مراجعة مطلوبة. لذا فالاطار محدد مسبقاً والتعامل معه يكون محدوداً، اذا اريد للحوار النجاعة كما يؤكد المؤرخون "الاسرائيليون" الجدد و"الواقعيون العرب الجدد" ايضاً!! ان "حق" "اسرائيل" في الوجود والذي يعتبر عدم الاعتراف به ممنوعاً ينبثق، كما اشرنا، في الظروف التي رافقت قيام الكيان الصهيوني ورافقت تبني الجعية العامة للامم المتحدة قرار تقسيم فلسطين. لقد كُتب الكثير في هذا الموضوع ومنعاً لتكرار المعروف والمتداول، نشير الى ان الحركة الصهيونية والغرب في اعقاب الحرب العالمية الثانية توصلاً الى صيغة غفران متبادل بحيث لا يسأل الغرب ماذا تفعل الصهيونية في فلسطين مقابل ألا تسأل "اسرائيل" ماذا فعل الغرب باليهود في فترة النازية والقوانين التي شرعت الممارسات اللاسامية. اما حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه ووطنه، فكانت الدعوة لها او النضال من اجلها بمثابة تشويش وتعطيل للمعادلة التي قامت بين الغرب والمشروع الصهيوني. كان قرار التقسيم وما تبعه من تطورات هو نتاج التساهل الغربي واحتضان الغرب للمشروع الصهيوني على كل المستويات والالتزام بمساندته تحت كل الظروف. لذا يتضح لنا كيف ان "اسرائيل" حالة استثنائية يفرضها الغرب بطرق مختلفة، كما يحاول ان يفرض على الفلسطينيين وعلى الامة العربية القبول - والرضى، اذا امكن عن هذا الاستثناء. يستتبع هذا "القبول" الذي يعبّر عنه بمستويات مختلفة، مطالبة العرب بالتطبيع مع "اسرائيل" حتى لا يحدث مستقبلاً اي تشكيك بشرعية وجودها. فشرعية وجود "اسرائيل" قائمة على اعتبار ان هذا "الحق" بديهي لأن التسليم ببديهية هذا الحق يؤدي الى نكران حق الفلسطينيين بالعودة - وحتى بالتعويض، فالاعتراف بحق "اسرائيل" في الوجود هو انكار لحق الفلسطينيين في العودة الى بيوتهم… والى وطنهم. من هذا المنظور تصبح المراجعة النقدية التي يقوم بها المؤرخون الجدد في "اسرائيل" محصورة في جعل نسيج الكيان "الاسرائيلي" اكثر استقامة، بحيث يبقى مستقبل "اسرائيل" صهيونياً، دون اي احتمال لالتحام او تكامل مع الاطار الأشمل الا على أسس ضمان هيمنتها وسيطرتها وتفوقها في المنطقة ككل. يدعو المؤرخون الجدد الى "عقلنة" النصوص ويؤكدون ضرورة اثبات الوقائع كما هي. وما يختزنه هذا المنهج من اعتراف بما اقترفته الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، مما ادى الى اقتلاعه من ارضه وتشريده ومحو قراه ودساكره وتأسيس التمييز العنصري ضد من بقوا في وطنهم، يفترض ان ما يقومون به من تصحيح هو رسالة تستهدف انتزاع اقرار - او بالاحرى اعتراف - فلسطيني وعربي "بحق" "اسرائيل" بمايؤدي الى تخل عربي وفلسطيني عن حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، اذا تم هذا التحول تزول حالة الاستثناء ل"اسرائيل" على اعتبار ان الاعتراف العربي "بحق" "اسرائيل" في الوجود يرسخ "شرعية" قيامها وشرعية ديمومتها. اذاً، المؤرخون الجدد لا يكتفون بأن يكون التعامل المستقبلي مع "اسرائيل" اقراراً واعترافاً بوجود "اسرائيل"، بل ان المطلوب في نهاية الامر هو الاقرار والاعتراف بحق "اسرائيل" في الوجود. لماذا؟ السبب يعود الى ان الاقرار بوجود "اسرائيل" هو اقرار بواقع، اما عدم الاقرار او الاعتراف بحق في الوجود فهو بمثابة تعليق للمجابهة وبالتالي امكانية استئنافها. ان الاعتراف بوجود يمهد لتسوية بينما الاعتراف بحق الوجود يمهد لحل. لذلك نجد ان اصرار "اسرائيل" بأن تشمل اية مفاوضات مع الدول العربية ومع الفلسطينيين انشاء العلاقات وانهاء حالة النزاع وتطبيع العلاقات وتنميتها على كافة المستويات وذلك كي لا تستأنف اية محاولات مستقبلية لمجابهات كبرى او صغرى وحتى يكون القبول العربي لوجود "اسرائيل" نهائياً وحاسماً وقاطعاً. لذا عندما يحدد المؤرخون الجدد الاطار الذي تتم فيه المراجعة النقدية والاعترافات بالظلم والغبن الذي الحقه قيام "اسرائيل". عندئذٍ يتوقع هؤلاء المؤرخون ان يدرك الفلسطينيون خاصة، والعرب عامة، حدود المساءلة وحدود ما يمكن ان توقعه. وينشأ عن هذا التضييق لأطر النقاش الاستفسار عن الامور التالية: - اولاً: هل يمكن للمؤرخين الجدد ان يطالبوا "اسرائيل" في ضوء الحقائق والوقائع التي اعترفوا بها بأن تعتذر للفلسطينيين وللعرب؟ او هل ستبادر "اسرائيل" الى تعويض مئات الآلاف من الفلسطينيين والعرب الذين تضرروا من جراء اعمال الارهاب المتعمد والتشريد المخطط والعدوان المتواصل والخروقات المتكررة لحقوق الانسان في مختلف الاراضي المحتلة؟ - ثانياً: هل سيلتزم المؤرخون الجدد بالدعوة لأن يتاح للسكان العرب في "اسرائيل" حق المساواة التامة، والا ما معنى المراجعة النقدية اذا استمر التمييز العرقي ضد المواطنين غير اليهود في الدولة العبرية؟ - ثالثاً: هل يطالب المؤرخون الجدد بمراجعة تاريخ الاعلام الصهيوني و"الاسرائيلي" والذي اتهم المقاومة بالارهاب واتهم الكثير من المفكرين والاعلاميين الفلسطينيين والعرب "بتزوير" الحقائق التاريخية عندما كانوا يفندون الادعاءات الصهيونية ونصوص السرد المشوّه الذي ساهمت المؤسسات الصهيونية والديبلوماسية "الاسرائيلية" بتعميمها؟ - رابعاً: هل تشمل المراجعة النقدية للمؤرخين اعترافاً بأن الحملة التي قامت بها "اسرائيل" وناصرتها فيها الادارات الاميركية المتعاقبة ضد قرار الاممالمتحدة عام 1976 بأن "الصهيونية وجه من اوجه العنصرية" كانت حملة قائمة على التزوير وان التشهير بالذين اقترعوا الى جانب القرار خطأ؟ وهل ان المراجعة النقدية لا تنطبق على ما تبع قيام الدولة العبرية من ممارسات وسياسات وحملات؟ بمعنى آخر هل ان المراجعة النقدية لقيام الدولة العبرية محصورة في حقبة التكوين؟ وبالتالي ألا يجوز لنا ملاحقة الآثار المترتبة على المنطقة التي استتبعت التزوير الكامن في منطق الصيرورة للمشروع الصهيوني؟ - خامساً: واذا اقتربنا من الاوضاع الراهنة، هل ان المؤرخين الجدد على استعداد لوصف الحالة في الاراضي المحتلة بأن "اسرائيل" هي سلطة الاحتلال وبالتالي عليها ان تلتزم باتفاقيات جنيف الرابعة بنفس القياس؟ وهل نستطيع ان نتوقع من هؤلاء المؤرخين الجدد التأكيد ان القدسالشرقية على الاقل هي "ارض محتلة"؟ واذا اعترف المؤرخون الجدد بأن الاراضي التي احتلتها "اسرائيل" بعد حزيران يونيو 1967 هي اراض محتلة هل يمكن لهم ان يدينوا وجود المستعمرات "الاسرائيلية" في هذه الاراضي وألا يتكرر في عام 1999 ما ارادوا تصحيحه في تاريخ "اسرائيل" عند قيامها؟ نشير الى هذه الاستفسارات المطلوبة قبل ان ينجذب بعض مثقفينا الى مثل هذه المراجعة النقدية مثلما انبهر بعض قياديينا عند انتخاب ايهود باراك. اذا كان من تسوية، فالاجابة عن هذه الاستفسارات مطلوبة حتى تستقيم المعادلة. اما اذا كان من حل.. فلا بد للمؤرخين الجدد ان يقولوا بوضوح ان المشروع الحضاري باقامة دولة ديموقراطية في كل فلسطين كان الدليل الصارخ على انسانية اصيلة في التراث العربي. اذا حصل مثل هذا الاعتراف يكون ما هو حاصل في مراجعة التاريخ اسهاماً في صناعته. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن.