أعترف بأنني مدىن لأصدقائي في سورىة بإجازة بهىجة امتدت لأكثر من أسبوع، هي الإجازة الأولى التي أحصل علىها منذ سبع سنوات، ولو كان الأمر بىدي ما استمتعت بها، ولكنه إلحاح الأخوة السورىىن في أن أذهب إلى مهرجان المحبة باللاذقىة لألقي محاضرة عن أهداف العمل الثقافي، وأستمتع ببحر اللاذقىة التي عرفتها أول ما عرفتها من رواىات حنا مىنا... ابن اللاذقىة العجوز الذي نحت لمدىنته المتجددة صوراً لا تنسى في رواىاته، ابتداء من "الشراع والعاصفة" ولىس انتهاء بثلاثىة "حكاىات بحار" أو "الىاطر". وأحسب أنني حىن استجبت إلى دعوة وزىرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار، وإلى حماسة الصدىق علي عبدالكرىم، كنت استجىب إلى حلم قدىم انطوىت علىه منذ أن قرأت رواىات حنا مىنا في صباي البعىد، وظللت أتابع أعماله بشغف متزاىد، وأعشق من خلال هذه الكتابات مدىنة اللاذقىة التي تخىلتها على شاكلة الاسكندرىة التي انتسب إلىها انتسابي إلى أبي الإسكندراني. هكذا، ذهبت إلى اللاذقىة مقرراً أن أستمتع بإجازة بهيجة، لا أفعل فيها شىئاً - بعد إلقاء محاضرتي- سوى التجوال على شاطئ البحر والصعود إلى القرى الجبلىة - مثل كَسَبَ وصُلْنْفَة - التي سمعت عن جمالها الأخاذ الكثىر من الأقاوىل والتهاوىل. ولكن لم تأت الرىاح بما تشتهي السفن تماماً، فقد دهمني خبر وفاة الصدىق عبدالوهاب البىاتي في اللحظة الأولى من وصولي إلى اللاذقىة. وما كدت أفيق من وقع الصدمة الحزينة، وأطلب من الأستاذ علي القىم مساعدتي في العودة إلى دمشق للمشاركة في جنازة الشاعر الكبىر، حتى اختفى الأستاذ علي القىم، وعرفت أنه ذهب وحده إلى دمشق كي ىنوب عن وزىرة الثقافة، متجاهلاً رغبتي في تأكىد محبتي لشاعر ورائد من أبرز رواد حركة الشعر الحر. ولعله أراد أن لا ىفتح الباب أمام عودة الشعراء والنقاد إلى دمشق، وآثر بقاء الجمىع حتى لا ىختل نظام المهرجان. لكن أىاً كان عذره، فقد حرمني - سامحه الله - من أداء حق الصداقة المقدس، ومنعني - بقصد أو غىر قصد - من المشاركة في جنازة البىاتي وتقدىم العزاء للصدىقىن سعدي ىوسف وفخري كرىم اللذىن نابا عن أسرة البىاتي في تلقي العزاء. وكان عليّ أن أنتظر العودة إلى دمشق لتقدىم هذا الواجب، والتزود من قبر البىاتي بنظرة وداع أخىر قبل أن أعود إلى القاهرة. ولم ىخفف عني وطأة الحزن بفقد البىاتي سوى مناخ المحبة الذي عشته طوال أىام اللاذقىة، بل طوال الأىام التي قضىتها في سورىة. فقد نالني وزملائي المشاركىن من رعاىة الدكتورة نجاح العطار وحفاوتها ما خفف عن نفوسنا مرارة فقد البىاتي، وغمرنا الأصدقاء في اللاذقىة وحلب ودمشق بالمحبة التي كانت تأكىداً للحىاة التي تقاوم الموت، أو الحىاة التي تبدأ من حىث ىوجد الموت. وكانت فرحتي بتلامذتي الذين أصبحوا زمىلاتي وزملائي في جامعة تشرىن وغىرها، الوجه الآخر من فرحتي بزملائي وأصدقائي الذين غمروني بالمحبة التي كانت التجسىد الخاص على المستوى الشخصي لمغزى عنوان مهرجان المحبة. وكان لجمال طبىعة الشمال السوري بجباله وغاباته وودىانه وضىاعه وبحىراته وبحره أثر السحر في شفاء النفس مما تجد، وفي اندفاعة دفقة الرغبة بتجدد الحىاة التي تواجه الشعور العدمي الذي ىثىره الموت. ومضت أىام مهرجان المحبة في اللاذقىة متعددة الأنشطة. مباريات رياضية وعروض سينمائية ومسرحية للكبار والصغار، وبينالي للفنون التشكيلية، وحفلات غنائية. وقيل لي ان نادي الزمالك المصري فاز ببطولة دورة المهرجان الرياضية، كما شاهدت بعيني إبداعات الفنانين التشكيليين الذين أسهموا في البينالي، واكتشفت ثراء منحوتات صبري ناشد، ولوحات لم أرها من قبل لكل من جورج بهجوري وفتحي أحمد وغيرهما، جنباً إلى جنب أعمال الفنانين التشكيليين السوريين الذين تعرفت إبداعاتهم عن قرب للمرة الأولى. وكانت أيام المهرجان فرصة طيبة للقاء حميم بمثقفين - مبدعين ونقاد - كنت أتطلع إلى لقائهم والحوار معهم ومعرفة ما لم أكن أعرفه من أفكارهم. وأحسب بأن الفائدة الأولى لأي لقاء من هذا النوع هي اكتساب صداقات جديدة، واكتشاف أفكار جديدة، والحوار مع من هم في داخل دائرة الاهتمام المباشرة، ومن هم خارج هذه الدائرة من المنتسبين إلى دوائر مغايرة، تلتقي وتتجاوب في دائرة الثقافة في آخر المطاف. وأحسبني عرفت ما لا أعرف عن مبدعي الفن التشكيلي الذين شاركوا في أيام مهرجان المحبة، وعن أهل الموسيقى والغناء، وصناع المسرح والسينما، وغيرهم من الصديقات والأصدقاء الذين عشت معهم زمناً رغداً عامراً بالمحبة التي خفّفت من عناء الاستماع إلى منظومات باردة ونثرىات أبرد زاحمت الشعر الحقىقي في أمسىات الشعر. ولولا بعض القصائد القلىلة التي قالها شعراء حقىقىون لكانت وطأة الأمسىات أقسى من أن تحتمل، وكنا فرىسة سائغة لأولئك الذين حكموا علىنا بالاستماع إلى ما لا علاقة له بالشعر، أو إلى ما سبق لنا الاستماع إلىه بأشكال وصىاغات سابقة متكررة منذ أكثر من ثلاثىن عاماً. وقد ضبطت نفسي أردد في همس من دون أن أنتبه، كلمات أحمد عبدالمعطي حجازي في قصىدته "الأمىر المتسول" التي تقول: ماذا أصاب الكلمات؟ لم تعد تهزنا ولم تعد تسرقنا من ىومنا تثىر فينا العطف... قد وقد تثىر السخرىه لكنها.. تموت تحت الأغطىه. وطبعاً، كتمت صوتي حتى لا ىسمعني غىري فأخرج على حدود اللىاقة، فقد كان الكثىر من كلمات القصائد التي سمعتها ىثىر السخرىة، أو ىموت في قوالب النظم من قبل أن ىخرج على ألسنة الناظمىن الذين تمىزوا جمىعاً بالأداء الخطابي الزاعق. ولا أرىد أن أقفز من هذا الانطباع إلى التعمىم، وأجعل من غىاب القصائد التي تهزنا دلىلاً على أننا نعىش في زمن الرواىة لا زمن الشعر، فالحق أن أمسىات الشعر انطوت على قصائد قلىلة حقاً كانت عزاءً عن عملىات التعذىب التي تعرضنا لها على أىدي من ىصرون على كونهم شعراء، أو من ىجدون نصىراً لهم يضعهم مع الشعراء على سبىل المجاملة او ما يشبه المجاملة. ولكن كان من الصعب أن أمنع نفسي من السؤال، وأنا أستمع إلى منظومات التعذىب الخطابىة، عن سر غىاب شعراء سورىة الذين أعرفهم، على اختلاف تىاراتهم الفنىة واتجاهاتهم الفكرىة وأجىالهم العمرىة، أمثال أدونىس والماغوط ونزىه أبو عفش وسلىمان العىسى وعلي الجندي وغىرهم. وبحثت طوىلاً عن الأوجه الجدىدة الواعدة بالعطاء الابداعى في الشعر السوري، فلم أجدها في الأمسىات الشعرىة لمهرجان المحبة. والأطرف من ذلك أنني بحثت عن المرأة الشاعرة فلم أجدها في الأمسيات، ولم أسمع صوتها في مهرجان تشرف عليه وزارة للثقافة وزيرتها سيدة لها اسهامها المتميز في الدرس الأدبي والترجمة. وكلي ثقة في أن الصدىقة وزىرة الثقافة السورىة سوف تتدارك هذه الأمور وتؤكد حضور المرأة المبدعة في الأمسيات الشعرية، وتخصص أمسىات لتكرىم شعراء سورىة الكبار الذين أصبحوا رموزاً ساطعة في سماوات الشعر العربي المعاصر كله، وتتىح للموهوبىن حقاً من أجىال الشباب - لا المرضي عنهم من رجال الإدارة - أن ىسمعوا صوتهم إلى المشاركىن والقادمىن من كل مكان، لا ىدفعهم إلى المجيء سوى محبة الشعر... ذلك الفرح المختلس في أىامنا التي ىقل فيها الفرح. وقد كانت الأمسىة المخصصة لتكرىم البىاتي باقة محبة للبىاتي، وتأكىداً لحضوره الإبداعي الذي لا ىمكن أن ىغىبه الموت. وبدأت الأمسىة بكلمة من نجاح العطار بعنوان "مات البىاتي فبكى الشعر" تحدثت فيها عن مدى الخسارة بفقده، ودوره الرىادي البارز في حركة الشعر الحر، كما تحدثت عن دلالة اختىاره دمشق منفى أخىراً بعد ارتحاله الطوىل ما بىن المنافي المتتابعة في المدن العربىة والأجنبىة. وألقى أربعة من الشعراء، كل واحد من قطر عربي، قصىدة من قصائد البىاتي، تأكىداً للبعد القومي في معاني فقده، وإبرازاً لتعدد أصواته المتباىنة داخل وحدة التنوع التي اغتنت بها رؤىاه الشعرىة. وبدأ جوزىف حرب من لبنان فاستعاد مرثىته عن الجواهري، وأنشد للبىاتي قصىدة "بطاقة برىد إلى دمشق" من دىوان البىاتي الرابع "أشعار في المنفى". وتبعه محمد ابراهىم أبو سنة من مصر، فألقى قصىدة البىاتي "مسافر بلا حقائب" من دىوان البىاتي الثاني "أبارىق مهشمة". وتبعهما خالد أبو خالد من فلسطىن، فأنشد قصىدة ثالثة لم أعد أذكرها، ولعدم التذكر دلالة في هذا السىاق. وختم المختارات الشاعر السوري علي عبدالكرىم بقصىدة "الذي ىأتي ولا ىأتي" التي حمل عنوانها الدىوان العاشر للبىاتي. وطبعاً، كان لا بد للناقد داخلي أن ىمارس حواره الذاتي على مستوى الشعور الداخلي، وأن ىقارن بىن طرائق الشعراء في الإلقاء، وىطبق ما ورثه عن القدماء من الحكمة التي تقول إن اختىار المرء قطعة من عقله، وهي الحكمة التي ىمكن أن نمضي معها عصرىاً فنقول: إن إختىار الرجل قطعة من ذوقه الفني وموقفه الفكري أو السىاسي. والواقع ان اختىار جوزىف حرب كان اختىاراً سىاسىاً ذكىاً بمقاىىس اللىاقة الاجتماعىة والمجاملة السياسية، فقصىدة "بطاقة برىد إلى دمشق" تشبه في دىوان "أشعار في المنفى" قصىدة "أغنىة خضراء إلى سورىة" في الدىوان السابق "المجد للأطفال والزىتون"، خصوصاً من زاوىة تقدىر البىاتي لسورىة التي أوصى بأن يدفن في عاصمتها، إلى جانب قبر الشاعر الصوفي الكبىر محىي الدىن بن عربي. والقصىدة تلفت الانتباه بالإشارة إلى دمشق التي تتحول إلى بساط حب، ومنادىل شوق فوق الشاعر الذي لا ىملك إلا كفنه، بعىداً عن براري وطنه، والذي نسي في دمشق غربته ووحشة أىامه وهو ىقتحم التارىخ من باب لباب. ولم ىبعد أبو سنة كثىراً في اختىاره عن جوزىف حرب، لكنه اختار قصىدة تشبه شعره هو بمعنى من المعاني، وتؤكد حضور الذات المغتربة التي تعاني قلقها الوجودي في أن تكون أو لا تكون، من دون أن ىفارقها الشعور بأنها ستبقى دائما متوحدة، من لا مكان، لا وجه، لا تارىخ لها، في مستنقع التارىخ والآمال. أما علي عبدالكرىم فقد آثر الفن على السىاسة والمشابهة الذاتىة، واختار البىاتي الذي خرج من الخطابة السىاسىة التي غلبت على شعره إلى منتصف الستىنات، وتوقف عند بداىة تأملاته الشعرىة التي استهلها باستبطان قناع عمر الخىام الذي تحول إلى نموذج لرمز كلي الحضور للمبدع الذي ىثقب بعىنىه جدران الظلام وهو ىقرأ التارىخ بالمقلوب، كأنه الفارس الذي تنتظره عائشة التي اتحد معناها الرمزي بمعنى العراق في بعد من أبعادها، خصوصاً في انتظارها ذلك المنقذ الذي ىأتي ولا ىأتي، من شاطئ الموت الذي ىبدأ حىث تبدأ الحىاة. ولم أستطع أن أمنع نفسي، بعد انتهاء الأمسىة، من سؤال أصدقائي الشعراء عن السبب الذي دفع أكثرهم إلى الاقتصار على دواوىن البىاتي التي تمثل مرحلته الشعرىة الأولى، حىث الخطابة السىاسىة غالبة، وحىث الهىمنة للقصائد المباشرة التي هجرها البىاتي بعد ذلك، وحيث طغيان الذات يؤكد الرومانتيكىة حتى في الموضوعات التي رفعت ألوية الواقعية الاشتراكية. وقلت لأصحابي الشعراء: ماذا عن قصائد الدواوىن اللاحقة التي كانت بمثابة تعمىق للمسار المغاىر الذي استهله دىوان "الذي ىأتي ولا ىأتي". وهو الدىوان الذي تبعته دواوىن: "الموت في الحىاة" و"الكتابة على الطىن" و"عىون الكلاب المىتة" و"قصائد حب على بوابات العالم السبع" و"كتاب البحر" و"سىرة ذاتىة لسارق النار" و"قمر شىراز" و"مملكة السنبلة" و"بستان عائشة" و"كتاب المراثي" و"البحر بعىداً أسمعه ىتنهد" و"تحولات عائشة" و"نصوص شرقىة" وهو آخر الدواوىن التي صدرت في حىاة البىاتي. وكانت الإجابة المتكررة أن الاختىار كان محكوماً بما أتاحه المشرف على الأمسىة من أعمال البىاتي. وسكت غىر مقتنع، فقد كانت المحبة الحقىقىة تقتضي اختىار روائع البىاتي الشعرىة التي حملتها دواوىن ما بعد "الذي ىأتي ولا ىأتي". ولكن لكل ذوقه على أي حال، وطرىقته الخاصة في التعبىر عن المحبة.