في التاسع من آذار مارس 1924، دخل مجموعة من رجال الشرطة يرافقهم عدد من الموظفين الرسميين الجناح الذي ينام فيه الخليفة عبدالمجيد الثاني، في قصر دولمابهجة في اسطنبول. دخلوا بشكل مباغت، أي دون إذن مسبق، وفي عز الليل. لكنهم لم يكونوا يحملون إلى الخليفة العجوز أخباراً طيبة، هو الذي لم يعتد خلال عامي "حكمه" على مثل تلك الأخبار. فهذان العامان، كانا آخر أعوام الخلافة والسلطنة في تلك الامبراطورية التي كانت شاسعة قوية ذات يوم، الامبراطورية العثمانية، وها هي اليوم بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى مفتتة ضعيفة، تحل محلها دولة تركية يقودها زعيم شاب هو مصطفى كمال. النبأ الذي جاء رجال الشرطة والموظفون يحملونه ليلاً إلى عبدالمجيد الثاني، كان قراراً بضرورة مغادرته الأراضي التركية قبل حلول الساعة الخامسة صباحاً. ما حدث تلك الليلة، كان آخر ما كان الخليفة عبدالمجيد الثاني يرويه إلى بعض المحيطين به وهو على فراش الموت بعد ذلك بعقدين من السنين، حين كان منفياً في العاصمة الفرنسية. فعبدالمجيد الثاني الذي لم يشهد من أبهة الامبراطورية سوى أعوام انحدارها، عاش السنوات العشرين الأخيرة في منافيه، متحسراً على قبوله العرش وهو عالم بأنه آيل إلى الزوال لا محالة، راوياً أحداث ليلة طرده من اسطنبول. تلك الأحداث التي أشرنا إلى عدم نسيانه اياها، حتى رحيله عجوزاً محطماً يوم الثالث والعشرين من آب اغسطس 1944. كان يحلو لعبدالمجيد أن يروي، كيف أنه، حين دخل رجال الشرطة والموظفون غضب وراح يصرخ في وجوههم أول الأمر، لكنه سرعان ما هدأ. وتذكر أنه إذا كانت الأمور قد وصلت به إلى ذلك المصير، فإنه كان هو المخطئ: كان يعرف أن السلطات الثورية الجديدة، التي وضعته على العرش، كانت مغتاظة منه، لأنه حين أصبح خليفة "قبض المسألة جدية" وراج يتصرف كسيد دولة حقيقي: راح يستقبل السفراء في القصر، ويصدر تصريحات يومية باسم مسلمي العالم قاطبة، وكأنه لا يزال حقاً خليفة، وكأن تركيا لا تزال حقاً حاضرة الإسلام في العالم. بل وصلت به الجرأة إلى أن يطلب من خطباء المساجد أن يدعوا له، وطلب من الحكومة الجديدة - المدنية والعلمانية - أن تزيد له الميزانية المخصصة لمصروفاته. عبدالمجيد كان قد نسي، إذن، ان الخلافة كانت زالت رسمياً قبل أسابيع. وإذ أتى زائروه الليليون ليذكروه بذلك، صحا فجأة من سباته وبدأ على الفور بجمع حوائجه، واتصل بالحكومة طالباً منها أن تؤمن معيشة محظياته وخادماته بعد رحيله. وكان من الواضح أن عبدالمجيد يحاول الآن أن يستفيد من الساعات الأخيرة لإحراج الحكومة التي كانت تستعجل رحيله قبل الفجر، أي قبل أن ينتشر الخبر، وغدت احتجاجات شعبية من قبل فئات كانت لا تزال تؤمن بالخلافة. في النهاية، وقبل الموعد المقرر كان عبدالمجيد قد ركب سيارته في موكب ضم خدمه ونساءه، وعند مساء ذلك اليوم نفسه كان الركب يستقل القطار في الطريق إلى سويسرا، المنفى الأول للسلطان. وكان عبدالمجيد قد وصل إلى الخلافة في خريف العام 1922، حين اختار وحيدالدين، آخر السلاطين الفعليين للامبراطورية العثمانية، الهرب بدلاً من مواجهة العسكر الانقلابيين بزعامة رفعت باشا. وهكذا حين علم رفعت بهرب السلطان، بعد أيام من إلغاء الانقلابيين للسلطة، واتخاذهم القرار بالابقاء - موقتاً - على منصب الخليفة، كان الانقلابيون يتجهون وجهة أخرى. ففي مجلس المبعوثين راح رؤوف باشا يعرض أمام النواب الضرر الذي الحقه وحيدالدين بالمسلمين والإسلام، ثم طلب منهم ان يعينوا خليفة جديداً مكانه. وذلك بعد ان تم خلع السلطان وحيدالدين، الذي لم يكن، هو، قد بادر إلى التنازل عن العرش من تلقائه. وعلى الفور راح يتداول اسم عبدالمجيد، المتنور المثقف الذي كان ابن عم السلطان عبدالحميد قد أبعده عن مراكز اتخاذ القرار بسبب أفكاره التحررية التقدمية، فانصرف إلى الرسم والموسيقى يمارسهما ويشجع ممارسيهما، إلى درجة أن واحدة من لوحاته حدث لها ان عرضت في إحدى التظاهرات الفنية الباريسية. في مجلس المبعوثين، وبعد سجال طويل حول الخلافة والسلطنة، وقف مصطفى كمال في نهاية الأمر وقال شيئاً اعتبر في ذلك الحين هرطقة ومفاجأة: قال إن الخلافة لم تعد تعني العالم الإسلامي كله، بل تعني تركيا وحدها الآن. اما الخليفة الجديد، فلم يكن من حقه ان يمارس أي نشاط سياسي، لأن النشاط السياسي من حق الأمة وحدها: الخليفة لن يكون أكثر من زعيم روحي للمسلمين الأتراك. بعد تأكيدات مصطفى كمال هذه، وافق النواب على اختيار عبدالمجيد الثاني خليفة جديداً الصورة. لكن عبدالمجيد لم "يصمد" في منصبه سوى شهور، نفي بعدها ليموت لاحقاً في المنفى بوصفه آخر الخلفاء، في الوقت الذي كان فيه وحيد الدين آخر السلاطين.