كانت عشرة أعوام قد مضت منذ استولى "الاتحاديون" أي عسكريو حزب الاتحاد والترقي التركي على السلطة في اسطنبول، بادئين بممارسات كانت هي التي انتهى بها الأمر الى فرط الامبراطورية العثمانية. وتلك السنوات العشر كانت الأقسى في تاريخ تلك الامبراطورية، بسبب العوامل الخارجية الحرب العالمية الأولى والثورات التي سبقتها وتسابق الدول الكبرى الى العمل لوراثة "رجل أوروبا المريض" بالتحريض أو العمل المباشر، ولكن ايضاً بسبب العوامل الداخلية الفساد الذي استشرى في عهد الاتحاديين، وخطواتهم التي سارت ضد تطلعات الرأي العام، والقمع الذي مارسوه ضد المعارضين الاتراك كما ضد الشعوب التي كانت استبشرت بمجيئهم خيراً للحصول على استقلالها ودخول درب التقدم، ومنها الشعوب العربية، بالطبع. وهكذا، لم يعرف النصف الثاني من العقد الذي أمضاه "الاتحاديون" في الحكم، إلا الهزائم، بحيث انه ما انتهت الحرب العالمية الأولى، الا وكانت الامبراطورية قد انفرطت تماماً، لتأتي هدنة مودروس معززة ذلك الانفراط، فارضة على الشارع التركي زعيماً جديداً، هو مصطفى كمال. ولئن كان الحلفاء كرسوا، بشكل موارب زعامة مصطفى كمال وحضوره، فإن القائد الألماني الجنرال ليمان فون ساندرز، عزز تلك الزعامة بدوره، اذ سلم سلطاته الى مصطفى كمال. وكان فون ساندرز قائداً للقوات التركية المتحالفة مع المانيا. وكان معنى ذلك التسليم ان مصطفى كمال صار معتمداً، للزعامة التركية، من الحلفاء كما من اعدائهم المهزومين المتحلقين من حول المانيا، في الوقت نفسه. إزاء ذلك الواقع الجديد كان على الثلاثي الحاكم في تركيا من قبل "الاتحاديين": أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، ان يستخلص الدرس. وكان الدرس واضحاً: هذا الثلاثي سوف يتهم على الفور بأنه المسؤول عن كافة الهزائم التي لحقت بالامبراطورية العثمانية وأذلت الشعب التركي، في الوقت الذي يعتبر فيه مصطفى كمال، بطل اعادة الاعتبار، ورجل المرحلة الذي سيعيد للشعب كرامته. وهكذا، في الوقت الذي تواصلت فيه طوال ليلة 3 تشرين الثاني نوفمبر 1918 جلسات المؤتمر الأخير لحزب "الاتحاد والترقي" الذي يتزعمه الثلاثي، في اسطنبول، وهو المؤتمر الذي كان من الواضح منذ البداية انه سوف يتخذ قراراً واحداً كبيراً، وهو حل الحزب واختفاؤه تكفيراً عن اخطائه وخطاياه، في ذلك الوقت بالذات، كان ثمانية من كبار قادة هذا الحزب يفرون هاربين مع أضواء الفجر الأولى، الى خارج البلاد، خوفاً مما كانوا يتوقعون ان يكون عليه مصيرهم خلال النهار. ولم يكن من قبيل الصدفة ان يكون هربهم على متن طراد ألماني وضعه في تصرفهم الجنرال فون ساوندرز نفسه، الذي سلم السلطات قبل يومين الى مصطفى كمال. وكان في مقدمة الفارين، بالطبع، الثلاثي انور باشا، طلعت باشا وجمال باشا. وكان منظرهم مدهشاً، هؤلاء الزعماء الثلاثة الذين حكموا الامبراطورية بالحديد والنار زمناً طويلاً وأثاروا رعب الكثيرين بعد ان كانوا أثاروا آمال الكثيرين ايضاً، وها هم الآن يفرون "ليلاً تحت جنح الظلام كأنهم لصوص يخافون ان يداهموا اذا طلع الفجر" على حد تعبير كاتب تركي في ذلك الحين. وهم على أية حال لم يكونوا مخطئين في هربهم. اذ ان تتالي الاحداث يقول ان خطراً حقيقياً كان يحف بهم بالفعل، وانهم كانوا في سبيلهم لأن يقدموا الى المحاكمة منذ اليوم التالي، هذا إذا قيض لهم ان يفلتوا من المتظاهرين، الذين كانوا يستعدون للانطلاق في ذلك اليوم في تظاهرات عنيفة تطالب برأسهم. فبالنسبة الى الشعب التركي، كانت كل الاخطاء الامبراطورية السابقة قد نسيت، وبات زعماء "الاتحاد والترقي" المسؤولين الوحيدين عن الكارثة. ويروى في هذا السياق ان أنور باشا الرجل الحديدي الذي كان يعتبر أقوى رجال الاتحاد، وزعيم البلاد الحقيقي منذ سنوات طويلة، و"الذي كانت نظرة منه ترعب جيشاً بأكمله" على ما كان يقول عنه عارفوه، كان الأكثر خوفاً بين الزعماء الهاربين، لذلك لم يتردد في ارتداء ثياب نسائية لافاً نفسه بعباءة سوداء طويلة، وهو في طريقه الى المرفأ ليستقبل الطراد الألماني. وحين سرى هذا الخبر لاحقاً بين الاتراك، اعتبروه عاراً لم يمحه إلا مقتل أنور باشا بعد ذلك وهو في المنفى. الصورة: أنور باشا والى جانبه الجنرال أحمد عزمت، الذي كان عين رئيساً للحكومة في منتصف تشرين الأول اكتوبر السابق. وهذه الصورة كانت آخر صورة التقطت لأنور قبل فراره.