لا تُقرأ رواية "أنقاض الأزل الثاني" لسليم بركات، بِنَهَم، هذا ما قلتُه للصديق ص.ح الذي أعارني الرواية. لا تُقرأ بنهم لأنك، كلما تقدمت فيها سطوراً أو صفحات، راودتك الرغبة بالعودة الى الوراء. كالعسل. لايليق به ألا تتذوقه بتؤدّة، على دفعات، وإلا دبقت روحُك وغابت عنها مدارج الحلاوة والطلاوة، طبقات اللون والنكهة والرائحة، مكامن الكثافة والخِفّة وما يتكاثر متنوعاً بينهما. تستند رواية "أنقاض الأزل الثاني" دار النهار للنشر، بيروت 1999 في خلفيتها الى واقعة تاريخية هي انهيار جمهورية مهاباد التي لم يُقدر لها أن تحيا أكثر من عام "حين تراجع ستالين عن حماية جمهورية أذربيجان الأولى، وأدرك القاضي محمد، رئيس جمهورية الكُرد الأولى، أن أرضه مشمولة بانحسار الحماية. زرَر جُبّته على هيكله النحيل وانتظر خيل الجيش الإيراني الذي رفعه بحبل نحيل ملتف على عنقه". غير أن الزمن الروائي لا يستخدم هذه الواقعة إلا كنبرة تحدد إيقاع الصوت، إذ أنه سيخلفها كي ينتقل الى تشكيل الحدث الروائي الذي سيقرر وحده بنية الحبكة الروائية، سيرها وتضاريسها. فولوج الفضاء الروائي في رواية أنقاض الأزل الثاني، يمر عبر بوابتين، بوابة التاريخ، ثم بوابة السرد والتأليف تشكّلان مدخلاً واحداً لفضاءين مندمجين متواكبين لا يدين الواحد منهما للآخر بشيء، بمعنى أنهما لا يتساندان ولا يتجاوران، بقدر ما ينصهران لدرجة غياب ماهية كل منهما وانصهارهما في جسم ثالث. وربما تعود براعة سليم بركات في مد جسد التاريخ الكردي بالحياة وتطويعه وترطيبه وامتلاكه لإعادة صوغه في ظل أمانة مطلقة له، الى غياب الصفة الرسمية عن هذا التاريخ كونه تاريخ أقليّة مضطهدة قادراً على الإفساح للجانب الإنساني والحياتي والثقافي احتلال الحيّز الأكبر منه. فوق خمسة بغال تترية، خمسة رجال "هم من بيوت تجاور في النسب، بيت القاضي محمد"، و"مسير تعضّ فيه الساعات الساعات"، يطلون من على هضبة كايي خودان شرق دجلة، على مغيب ماطر، يلمحون بيوتاً لا يقربونها على رغم العياء الشديد والبرد الضارب في عظامهم التي تحمل "عزيف الحذر منذ فروا من مهاباد ذات العويل المرتطم بسراج الغدر.... الخمسة نجوا برأفة القدر". على هذه العناصر السردية تنفتح رواية "أنقاض الأزل الثاني". وهي عناصر تنبىء عما مضى وتعد لما سيأتي، فيما هي تمعن في وصف اللحظات الفاصلة التي تشكل قلب العمل الروائي، أي تلك التي تفصل بين مجزرة انتهت وأخرى ستبدأ. وكأنما سليم بركات يختار الصوت الهادىء بدل العويل، الزمن المعلّق الطافي، بدل الحدث الفجائعي، الغزل الهادىء المنمنم بدل التصوير الصارخ، كي يعيد التأسيس للإيقاع الحياتي الأصلي، أي ايقاع الجماعة الكردية التي يروي عنها، منفصلة عن الفجيعة ومنوجدة قبل المأساة وبعدها. فزمن الرواية هو بالتحديد فترة الاستراحة تلك التي ستنعم بها الشخصيات الخمس في مضافة كريم بيرخان، المقيم في قرية سيدروك على الضفة الغربية من نهر دجلة. الهدنة هذه إذا صح التعبير، التي تفصل بين الما قبل والما بعد، أي بين حدثين مأساوين يفتتحان الرواية ويختتمانها كي يمنحا اللحظة المستكينة المؤقتة كل ثقلها ومعناها. "هذا غناء"، يردد الرجال الخمسة، فتنتقل بنا الرواية من الهضبة الى ضفة دجلة الشرقية وبيوت سيدروك، حيث يقف كريم بيرخان مستمعاً الى الغناء الصاعد من الضفة الغربية المأهولة منذ سنة بآل رستم بابك، عشيرة الرعاة. مهنة آل بيرخان جميعاً، هي صنع السجاجيد والبسط والزرابيات، فهم "سلكوا سبيل النقش واللون منفصلين عن جماعتهم الكبيرة من الميرسينيين في اقليم عين زالة المنصرفة الى الرعي وزراعة القمح والتبغ التركي"... هنا يقف الزمن الروائي ليرجع خطوات الى الوراء، فهو كما فعل حين قدّم الينا وصول الرجال الخمسة الى كايي خودان من بوابة التاريخ، يروي تاريخ العلاقة بين قاطني ضفتي دجلة والعداوة المستترة التي تفصل بينهما. كريم بيرخان من جهة، ورستم بابك من الجهة الأخرى. بعد مرور أيام على وصول جماعة رستم بَابِك، توجّه هذا الأخير من الضفة الشرقية الى الضفة الغربية الكلام معرّفاً بنفسه وملوّحاً، فرد عليه كريم بيرخان: لديكم كلاب كثيرة أيها السيد. عسى أنها لا تزعجكم، هتف رستم بَابِك: لا تزعجنا نحن، بل تزعج الإوز، سيفسد بيضه قبل الفقس، أجاب كريم بيرخان. فأردف سليم بابك: اسقوا إوزكم صمغ الجوز الرومي. ما هو صمغ الجوز الرومي؟ ذلك هو السؤال الذي سيقضّ مضجع كريم بيرخان، إذ لن يجد عليه إجابة، وهو بالتالي سيميل الى الاعتقاد بأن في كلام رستم بابك ذاك، نوعاً من التورية والتحدي المستتر الذي ينبغي الرد عليه. يغادر كريم بيرخان الضفة لدى سماعه الغناء مغتاظاً. وهو لدى جلسوه الى زائري مضافته، سيقول مهموماً: "أن يختار قوم ليلة كهذه للغناء في الوضح العاري، فإنما يخاطبون قوماً آخر بالتوريات... ألا ترون أنهم يتجاهلون عن عمد برد العراء"؟ ذلك هو الحدث الذي ستلحق الرواية به لتتشكل منه ومعها الشخصيات. كأنما الرواية سجادة عملاقة تعمل الشخصيات أهل سيدروك على نقش قلبها أو مركزها، فيما يعمل الراوي بمعية الشخصيات الأخرى الغربية عن سيدروك الرجال الخمسة والجماعة الفارسية التي تعمل على تقفي أثرهم على نسج أطرافها، كل على حدة، حتى إذا تمّ النسيج واكتمل الرسم، انتهى مدعى السرد أو الكلام. هكذا سيصير لأهل سيدروك أسماء وملامح وأطباع، وسنتعرف الى عائلة كريم بيرخان، الى جميل فاركو المغني الأعمى الذي يرى بعيني عماه ولا يتلفظ إلا بالبذاءات، الى حميد داهي ناظر أباريق الشاي والعالم بجوهر المذاق والأمزجة والنكهات، الى سَرْعو الممحو الحاجبين خصم جميل اللدود، الى مانو ساروخان المعلّم الأوحد لحروف القرآن والعالم بالشعر الكردي والنحو العربي ومعلّمهما الى الصبية والفتيان، الى جكرو عَمْشة الدليل و"ثعلب الأطلس من أصفهان حتى الخابور"، وسواها من الشخصيات الخارجية التي سيتقاطع قدرها مع قدر هذه القرية الآمنة الوادعة التي يحيا أهلوها من صناعة السجاد وتربية البط والإوز. ضمن الهدأة هذه وفي عمق بساطة حيوات أهل سيدروك التي تجري على ضفة دجلة جريان الماء في النهر، ينسج سليم بركات سجادة الحياة الكردية، فيحيي اللون والنبات والحيوان كي يقول أن الأصل قائم في الهامش والمعلن في الخفاء، أن الصمت يحمل كل الكلام، كما القليل الكثرة والمستتر المعنى. وهكذا يتخذ كل تفصيل موقع الكل، كي ينسحب من ثمة تاركاً المكان لتفصيل آخر. في لعبة بِناء تُولي الثانوي الأهمية نفسها التي تسبغها على الرئيسي، في لعبة لا تختلّ مقاديرها البتّة، كي يأتي المزيج صائباً، أصيلاًَ، مكتملاً لا تشوبه شائبة، سوى تلك التي تلازم ما يقترب في أصالته من الكمال. وكما يبرع سليم بركات في انتقاء المحتويات والمقادير والأوزان، يمتاز في جمعها وعرضها. فلا هي تنقشع متراكمةً كما في الروايات التي تعمد الى التوثيق والتوسيع فتبدو غارقة في مستنقعات المعلومات والأفكار، متعبة من حمولتها مهدودة الحيل والبناء، بل هي تتذرّر وتنذري كالبذار هنا وهناك، ثم تُنبت زهراً وثماراً وأغصاناً وتعريشات تتداخل في جسم الرواية الأصلي. فلا هي زينة ولا حشو ولا تنميق جمالي، بل هي اللفظة والحرف والجملة والإيقاع والصوت واللون والرائحة والمعنى، أي الماء والطحين والخمير الذي يصنع منه الخبز ولا يصير إلا به ومنه. يكتمل نصاب شخصيات أهل سيدروك، ويكتمل نصاب الغرباء الخمسة الذين حلّوا ضيوفاً على دار كريم بيرخان ومن بينهم شريف رندو المحرور وزينو ميفان، الأول كان "أمين الرسائل والرموز بين القاضي محمد والعشائر الكردية"، والثاني هو "مغني الأشعار الطاحنة عن مقام الكرد في سنن الخلق". شاي أحمر في الصباح، وشاي أسود في المساء، لأن حلقات المضافة تجري مرتين في النهار في دار كريم بيرخان، وخلالها المسألة التي تشغل بال الجميع، كيفية الرد على آل رستم بابك، إذ بينهم وبين كريم بيرخان "سطور من شعر غائب، ينبغي اعادة التوازن الى ضفتي دجلة كي ينعم القصب بسكينة الهواء الذي تمزّق - في خيال كريم - من توريات رستم"... جميل فاركو، المغني الأعمى، فقد ذاكرة الأغاني والصوت، لذلك فهو يقوم بتدريب ابنه علي ليحل مكانه في الغناء. وها هو علي يغني في المضافة أمام الجلساء والغرباء الخمسة لكي يُمتحن صوته ويُرى إذا ما كان أهلاً لمواجهة مغني آل بابك. غير أن زينو ميفان، محترف الغناء، يشير على كريم بضرورة جمع بعض الأشعار التي تناسب صوت علي الجميل. "لو أرسلت من يجمع شيئاً من أشعار الكرد في رشت، جنوب قزوين، هم أهل لوعة بلا إسراف ولحروف النداء عندهم أوجه لا تنتهي. ألا تبيعون السجّاد في تلك الأنحاء؟". يُرسل كريم في طلب مانو ساروحان المعلّم الذي لا يرتاد المضافة سوى نادراً لأنه منكبّ على تعليم بناته الست الشعر الكردي، ليكلّفه بهذه المهمة. يقبل مانو، لكن يلزمه دليل. جكرو عَمْشة سيرافقه الى رشت. في الفصل الثاني من رواية "أنقاض الأزل الثاني"، نتعرف الى الجماعة الثالثة: تسعة عشر رجلاً فارسياً يصحبهم زاهدان نوري المترجم من الفارسية الى الكردية، شهبور نظيمي القيّاف، ويرأسهم زاده بزربادي الذي "أقسم أمام أبيه، أنه سيترك علامات من دم شريف رندو على كل حجر ... وسيحمل في كيس عقبي قدمي شريف ... كي يهدأ بال عقبي أبيه المبتورتين". فبعد تفتت الجيش الإيراني، بقي جلال بزريادي، والد زاده، في مهاباد عقب إعلان الجمهورية، فسلّمه شريف رندو فرعاً من البريد المدني وختم الدولة. إلا أن جلال جعل يستخدم الختم الرسمي لبعث الرسائل المرسلة من "فروع الإدارات في الجيش الإيراني، الى الحاميات التائهة بانسداد الطرق عليها وانقطاع المسالك عن بعضها البعض"... تمّ اكتشاف الخديعة، فكان أن عاقب شريف جلال والد زاده بقطع عقبيه، كي يمتنع عليه ركوب الخيل وكي يسير سير السعدان. بعد سقوط الكيان الكردي وشنق القاضي محمد، عاد زاده الى مهاباد. ولما لم يجد شريف رندو وزينو ميفان بين الأجساد المتدلية على عواميد المصابيح، قرر اللحاق بهما والاقتصاص منهما. تلتقي الجماعة الفارسية التي حرصت على ألا تثير الشبهات، برسولي كريم بيرخان المتجهين الى رشت لجمع أشعار الأغاني، وإذ بنا نغادرها كي نتبع مانو وجكرو اللذين يقرران الذهاب الى بتلْيس لأنها أقرب. وبما أن لجكرو الدليل قريب في تلك الأنحاء يملك مسلخاً للضفادع النهرية ويعيش في قرية سورا، يتوجهان اليه للاستفسار والاستراحة، ومن ثمة يتابعان، غير أن قريب جكرو ينصحهما: "دونكم ودون تبليس مشقات. لدى نديم ابن الآغا صفوت ميرسين دفاتر أشعار وهو يحب المغنين. أخذكما غداً الى دارته". وبالفعل، يجل مانو لدى نديم دفتراً أحمر فيه ست وثمانون أغنية مدوّنة بحبر الذهب على الكتان. غير أن الأشعار هذه لا تعجب مانو، فيتقرح عليه شيخ صاحب لنديم، يدعى قاوون، أن يسمعه شعراً يقوم مانو بتدوينه لكثرة ما يعجبه. هكذا يقرر الرسولان، مانو وجكرو البقاء يومين اضافيين كي يسمعا المزيد من شعر قاوون. غير أن نديم يستنطق هذا الأخير فيجيبه: الشعر من ابنة أختي نينو سارين التي استحلفتني أن أسمع الضيفين بعضاً من شعرها على أن أكتم السر ولا أبوح بإسمها. نينو سارين هذه، الصبية المتزوجة من ابن خالتها الذي يغيب كل عام ستة أشهر عن سورا كي يصيد الوعول، ستخلع قلب نديم ابن الآغا الذي سيقع في غرامها مزيداً، كلما زادت في القاء شعرها على خالها قاوون الذي يلقيه أمام الرسولين جامعي الأشعار، على أنه له. يعود رجال سورا الصيادون الى بيوتهم، إلا أن زوج نينو ليس بينهم، تُذعر نينو وتنقطع أريحتها الشعرية، بينما يكتفي مانو بما جمعه من أشعار مقرراً الرحيل والعودة الى سيدروك. في الفصل الثالث والأخير من رواية أنقاض الأزل الثاني، تصل جماعة زاده بزربادي الفارسية الى هضبة كايي خودان، أي الى المكان المطلّ على بيوت سيدروك، ذلك الذي انبثقت منه الرواية في مطلعها، لدى وصول الرجال الخمسة الفارين من مهاباد، فوق بغالهم التترية. يذهب الترجمان للاستفسار عن قدوم غرباء، فيلتقي بنتي كريم بيرخان تملآن الماء من البئر. يسألهما فتطلعانه على وجود غرباء في مضافة أبيهما. يعود الترجمان بالخبر الى زاده، ثم يصدح صوت زينو ميفان المغنّي، فيتأكد للجماعة الفارسية أن الرجال الخمسة ومن بينهم شريف رندو، موجودن في مضافة كريم بيرخان. وتنتهي الرواية على مصرع معظم الشخصيات، إذ يهجم رجال زاده على المضافة فيقتلون الرجال والنساء والرجال الخمسة الأغراب، ثم ينسحبون عائدين، كي يلتقوا مجدداً على الطريق، برسولي كريم، مانو وجكرو العائدين وفي جعبتهما الأشعار. تنتهي الرواية ويبدأ "الأزل الثاني" إذ ستستفيق أرواح موتى سيدروك يرافقها الإوز روحاً إثر الأخرى، حتى مقام الهضبة لكي تختلط بأرواح الإغريق الذين كانوا قد قضوا محاصرين من قبل "الكوردخوي"، أولئك الكرد الذين استنجد بهم أمراء فارس، كي يقضوا على المحاربين الإغريق لقاء الذهب... لا تُقرأ رواية سليم بركات بنَهم. وهي كما لا تُقرأ بنهم، تود لو لم تكتب عنها. ذلك أنك بتّ على يقين من أن الكلام لهزاله، وصل منقوصاً، منهكاً، فاقداً كل حمولته من المتعة والغبطة والانتشاء. وها أنت بعد أن فعلت، قد انتهيت الى ندم عظيم، كيف أنك أمنت لبغلة الكلام فحمّلتَها ما اختزنته روحُك من كنوز التراكيب وتِبْر التعابير، فسارت موقعة ما رصفته فوق ظهرها بحب عظيم.