"في ساحة دارة الآغا المقتول نهضت الأرواح تباعاً من انفلاق بذور الأجساد، التي أنضجها الموت، كنتش النبات: راميسان الفتاة، وأبوها، وأخواها، والغرباء الخمسة، والأعمى وابنه، وهوار حاجي، وسرعو، وحميد داهي، وأربعة عشر جليساً، اضافة الى البغال الثلاثة التي هزت أعرافها ممتنة للخيال الجديد الذي تقدر أن تتوسط به بين الغيب والمنظور، وأن بسطه الله حكماً يزن الضرورات بمثاقيله. أرواح الآدميين أخرجت ساعاتها المعدنية المتشابهة. نظرت الى عقاربها المتشعبة، المضيئة كبروق فوق الأرقام الزاحفة من موضع الى آخر، تتبادل الخصائص والكمَّ. أعادت الساعات الى جيوبها. تلفتت في هدوء رخي من حولها تستعرض جسارات الظاهر، ثم تقدمت على مهل صوب الدرب الملتف من وراء دارة كريم في اتجاه الهضبة". هكذا يودعنا سليم بركات بوتيرة نص يتصاعد نحو عبء المصاب، لنجابه مع رفقة تستجير "بالملا كريم بيرخان"، وكل من تواجد هناك، لنيل مهب الرصاص، كل أعزل إلا من الموت، لنواجه بفزع باغت، مصير الذبح المجاني، أزل النفي الدموي، الذي لم يستكن له تاريخ الدم الكردي. كل يستأصل منهم فداحة الأجساد، لا بل تداعوا "كإنفلاق البذور من الأجساد" "كنتش النبات" لتهيم الأرواح نحو سكنى الأبد: نحو الشمال، بوصلة الذاكرة، دليل الروح. "أنقاض الأزل الثاني" انسياق سردي نحو هاوية تجلو المحن، محروسة بمذهل الروي... كتابة، بالكاد نقوى على انحدارها العاصف، كونها تضيف مرارة لا تحتمل، لمبتغى السرد الذي يسعى لإنضاج حالة من القلق الذي يتبدل ولا ينتهي إلا بزناد لا يؤجل القتل. تدبير للروي يهدف الى تصعيد توتر وترقب القارئ وإلهائه بمتعة لا توصف، كمعادلة ضارية: توازن بين الهلع والهناء، بين الغبطة والغدر، لتخليق نبع يبعث غمر التوجس والهجس. يتبدى هذا الإنزياح نسقاً مصيرياً، يخترق النص الروائي كله، يعتمل بين طرفي الشحذ: القناصة، صحبة الحقد الثأري بزعامة "زاده بزربادي"، ورفقته الذين يقتفون ضحاياهم بعنف، وبين الطرائد من الغرباء، "شريف رندو"، "الملا نجدت"، "والي جناب، "جكر سيدا"، "زينو ميتفان" الشاردين من رجفة يأس طوح بأمل جنة "مهاباد"، نحو عراء رئيف بأحلامهم المهدورة. من هذا المشكل النصي تنبلج أحاسيس عتية تؤجج كل شيء: هلع التخفي، وساوس الهروب، نفاذ القيافة، عبثية الانتقام، حتى ننهل آخر النص: حكمة الأزل: 1- في كل نص روائي لسليم بركات لا بد من تأصيل ثيمة يرتكز على اندفاعها، عناصر الروي الفنية والرؤيوية الأخرى، هكذا، ما أن يبدأ تشكيل هذه الثيمة أو النزوع الحدثي المصيري، حتى تلتف حوله كل الاشكالات الأخرى، هذا النزوع يختلف بين نص وآخر، كما لو أن سليم بركات يخضع لمختبر إبداعي يعول على تصاعد - هذا المشكل المكمن في خفايا النص، لإشعال ثقل المتن، غزل رهافة حوافه، إتقان محترفاته التقنية الضارية، كذلك لتتضافر معه كل الاحتمالات الأخرى التي يدون مكابداتها، وانفلاتها لتأصيل العمل الابداعي، وتعميق طموح روحه التي تنحت تحدياتها، ليرسل إلينا تشكيلية فنية داغمة كل الأنواع والتجليات الابداعية الأخرى، لتتحول بين يديه الى معزوفة شديدة التناغم، شبه الهارموني، الذي يشعل كل عناصر المشكل، ويديم مرام الرؤى. 2- منذ بدء النظر الى أول حرف من "يقظة الأزل الثاني"، يتحقق الاستحواذ اللازم، النزع التام لذات القارئ، ذاك الغافل الذي ما كاد أن يصل أولى عتبات النص، حتى استهل ذاكرته، لمشارفة ما يجلو محنته، ما يدعه يقتفي خطى الغرباء الخمسة، وبغالهم التترية، المشرفة على كمين لن يتأخر عن الفتك بهم، وبصحبتهم الضالعين بغواية النجاة من حتم الشنق. الغرباء الخمسة المؤازرون للقاضي "محمد" المبجل بدمه المسفوك، الذين شهدوا اندحار جمهورية الكد الأولى "مهاباد"، مملكة العراء المغتال بدسيسة تحالف، تضامن فيه ولاة الخيانة، هكذا يحترب "سليم بركات" متقصياً ثقل إرثه، ليشعل بوطأة ذاكرته ما مضى من خسارات تعاصر دمه: "دويُّ انهيار جمهورية "مهاباد" التي ظلل تخومها السحاب بضع مئات من الأيام، أنضج الكمأ في مجاهيل التيه من بحيرة "وان" الى الخابور، ومن تبريز الى دجلة. دويُّ الدم رجَّ الأثداء الصخرية لمنابت الكرد". الأغراب الخمسة الذين مضوا متلفعين برعدة الروح، من أمام ظلال جثة "القاضي محمد" التي تتأرجح على رنيم الغدر، وهدير الخيانة، عندما "سلمت عنق القاضي الدمث الى مطحنة العصف الفارسي". منذ أول حبر تغطى بصراحة الحرف، تتعرض أنفاس المحاذي لوعر هذا النص، لقسوة قدرية لا مفر منها، غير الاندفاع الى مرافقة أحوالها المتبدلة، غير الارتهان لهذا الاستحواذ الذي أراقه، مهندس المكمن، سليم بركات، مطمئناً الى بلاغة حدوسه في شحذ مهاوي النص، مُشركاً ما يراه من شراك، مربتاً على مهاوي مسننة بغفير الاحتمالات، نكاية بقارئ لا يتعظ مما تعرض له، في سابق من النصوص الروائية التي أسرجها على مهل كمائن نحوه. 3- المنحى الأول الذي رافق الغرباء نحو صعب المفر: نرد النجاة، عبء يستمر بتوال طاغ الى آخر النص الروائي، لكنه يتحدر نحو مستهل آخر، أو منحى مبتدع لتصعيد الروي، والانثيال بسلاسة بالغة، تثيرها التياذ الغرباء بمناخ أقوام كردية، حلوة المعشر، لطيفة المأمن... المؤقت، قرب النهر - شرقي دجلة - الذي تقتسم ضفتيه، عشيرة "الملا كريم بيرخان" من جهة الشرق، وعشيرة "آل بابك" تجاه الغرب، عشيرتان مهدتا لتواتر سردي، تعرض لطبيعة المناكفات والتحديات بينهما، مما يؤشر - ببلاغة داوية - الى طبيعة المنازعات العشائرية، التي لم تزل، تفعل فعلها التدميري في تاريخ هذا الميراث، حيث تتنابذ الزعامات طوال المشاهدات، وتناوئ أقدارها المتشابهة - للأسف - تماماً، بكثير من المغالاة في عدم الثقة بالآخر، والحيطة التي تبلغ الغاء الآخر، ضمن منازعات لا تنتهي، تبدأ بطرافات يهيلها الراوي، وهم يتراشقون بصمت، من خلال مياه "دجلة"، نوادر تحدياتهم، ليبلغنا حجم مآلهم العبثي. 4- من دارة "الآغا كريم بيرخان" تنسل شخوص الرواية، تباعاً، في تعريف يشفف أقدارها، لا حلول ملامحها فقط، في تدبير بهيج، يستضيفنا والغرباء وبغالهم التترية، لنتعرف الى أهل "سيدروك" سلالة موهوبة لنسج سجاد، زرابيات، بُسط، لبُوّد، سلالة كتيمة في عزلتها البهية، لنتعرض ضمن غاية للسرد، لن يحيد عنها الراوي، فكاهة تتدحرج في كل منعطف، أثرى الضحك فيه. الأعمى "جميل فاركو" ومفارقات تتعدد لتعميد هذا المرام. لنشهد انسراح دفء لا وصف له، يعتري أماسيهم المصحوبة بسهرة الجمر، المعبأة بحوارات مختزلة، عليمة، فاضحة، بحب طاغ أسرف في تعقب كل شيء، حكي تعمد بوتيرة نبض يلهث، لتفخيم هبوط المشاهد ببراءة الحب، المنسرب من حرية الهواء هناك، الى أردية تعبأ بحدود أجسادهم، هؤلاء الناس اللاهون بصخبهم البالغ، المبتلون بآمالهم المتكسرة، المحتدون بطيوف أسلافهم، المحتكمون لوميض ذاكرة: لا تنسى ولا تغفل عن تراب كردهم، الموتورون بتضادات تسرجها مناكفات أبدية تعتري بعض الشخوص، ما أصاب "سرعو" والأعمى "جميل فاركو"، وغيرهما بمظاهر تتفشى في غالبية المشاهد التي تُقبل بحدة لاسعة. كل هذا الإنهمار الحدثي ينحفر عميقاً في بؤرة المشهد لنثق بإرتخاء مفصلي، ودعة باهظة على النفس، تؤجل قليلاً انسلاخ المشهد نحونا، حين ينفلج حضن الشظايا، عنف الخاتمة كلغم، لنشهد توالي الجثث، وهي تتردم بهوى قصاص الرصاص، ليصل رنينها الراعف آخر العراء، ويطوي آخر الشغاف، لمن ابتلى بمرافقة فرار الغرباء، من قراء لم ينتبهوا الى مرآى الانقاض... أزل المأساة الأول، من شظي وردة "مهاباد"، بل تمادوا ليصلوا أزلها الثاني المُعنف بأسى بالغ في بعث ليل الكرد الطويل. 4- لم يكتف سليم بركات بما أهاله من نعيم حكيم، ان تداولنا شأن الليل المغمور برائحة الشاي ولهو الدخان، محتمين بعشيرة "كريم بيرخان"، نتعلم من "سلالة من النساء أمام الأنوال" نسج السجاد، ونسامر أحاديث مساء، يستوي في محاورات السادة، حوار يتوصى بحتم بحلول الغناء، نكاية بجيران "دجلة" من جهة الغرب، من "آل بابك" الذين "يخيفون الأوز" بلهجة غناء يتصاعد. لم يغفل بركات، لكنه مضى بوداعة تلاهينا عن مصير الرصاص المحدق بغفلة القلب، ليودعنا درب المجاهيل، لنرحل مع "جكرو عمشة" و"مانو ساروخان" الى فصاحة "سورا" في مهمة لجمع الأغاني من أنحاء بحيرة "وان"، لنشهد حال المغيب في جبال الجودي، لنتعرف الى عشيرة أخرى، على "نديم": "إبن سلالة من اغوات الجودي، الذين نزح بهم كمال أتاتورك الى المدن الكبيرة ليأمن انقلابهم عليه في الحدود الجنوبية الشرقية - بوابة الكرد في الكرِّ والفرِّ الى كردستان فارس والعراق" الذين لا يقلون دعة عمن تركنا، بل يزدانون عليهم بمهب الشعر، آخر ما كنا نود المثول على راحتيه، في زخم هذا النص الروائي، ذلك لفعل السحر المكتنز به، وهو يتصاعد كل سهرة مفدوحة بالحوار المؤجل، بالذات كونه بدا يتهاطل من حنجرة "نينو سارين" تلك المفؤودة بالفقد، الوحيدة المعتزلة في ظلمة الروح، من يرسل آخر النشيج: "ما تفعله هنا، بقلبك المدثر بريش وسادتي، لا تفعله في مكان آخر، ما تضيئه جوارحك، هنا، من نقش روحك، لا تضيئه في مكان آخر. من يدي، لا من غيرهما، تأخذ النوم خفيفاً كخيال السوسن، وفي يدي، لا في غيرهما، يوقد حلمك اللذائذ التي لا تنتهي. إن بحثت عن قلبك لن تجده هناك، إنه في صدري، هنا، يا شريك سهري". ليل الشعر هذا، أضحى مختبراً روائياً فيه أدار سليم بركات للصمت شرفة تصغي لما تقاطر من بوح رشيف على الحب، ولوعة الأسى ونهضة الروح واستدراج بديع لسُّكر الحواس، لاستشراف مدى الثراء الفني الهائل في تراثه العصي، العنيد بإصراره على تدوين بلاغة الحياد فيه، خضوعه لمداولات شفاهية تعتني بصيانة نبضه، ضد كل غد عدو. ثمة متاه أليم يكتنز بحضور روح شعرية، تتلبس بطبيعة بساطة هؤلاء المحتمين بظلال جبالهم، شعرية ذات بداءة وعفوية بالغة في إهدار المشاعر، نتعرف الى مبتغاها السردي، كدليل دامغ، على مدى إلتهاء الضحية عن أقدار فاشية تتربص باندياحها الأعمى، بعيداً عن هول الدم، طريقها الى مبتغى الأزل. 5- "زاده بزربادي، الذي واكب كأمثاله من طلبة الثأر طلائع الجيش الايراني، العائد - بعد غياب - الى أرض كردستان، دوَّن قائمة بحبر من سم السيكران المخدر على شغافه. أقسم أمام أبيه، في خرم أباد أنه سيترك علامات من دم شريف رندو على كل حجر عرضه شبران، من مهاباد حتى باب البيت. وسيحمل في كيس عقبى قدمي شريف، مملحتين ليدفنهما أمام البوابة". هكذا يتقد المنحى المضاد لكل المناخ السابقة للقول، هكذا يبدأ زحف الانتقام الموغل في السفك، بقيادة "زاده بزربادي"، يتبعه حاصد الخطى "القياف شهبور" وثلة من هواة القنص، لننهل عبء مشاهدات تتصف بعنف المطاردة. 6- من خلال تدافع النص الروائي، حتى أوان تبدل الأمزجة السردية، لا يخفت أبداً، صوت ضالع بإنارة ماضي الجثث، ينهض من ذاكرة التاريخ الكردي. صوت صريح يتمهل بين مشهد وآخر، لكنه لا يتأخر ليكاشف كل مواضيهم. يؤسس هذا البوح السردي، في تجربة سليم بركات الشعرية والروائية، فضحاً يداوم على اعلان هتكه، تسريحه كل نص مثقلاً بالتواريخ، وصخر الشواهد، نهب الأدلة وحبر المواثيق، التي لا تتأخر عن الشهادة ضد شراسة التير الذي استبد، وفجج العراءات بجثث تتعالى كل قصف، كل حرب، لإنابة القذائف منصة النصر. في "أنقاض الأزل الثاني" يختار بركات إشكاله التاريخي، من واقعة مختلفة، كما تعود أن يفعل في كل عمل روائي أو شعري - مذ احترف تلاوة الذاكرة - ساعياً بقواه الى نيل فرادة تتحقق في مداولة ذات المشكل، ولكن من زاوية للتقصي التاريخي تختلف بين كل نص وآخر، هذا لزخم تاريخه الكردي المذبوح، القادر على تلبية نزوعه الروائي - كل حبر - لإدانة حاضر يسعى لسحل إرثه، وأيضاً لموهبته النادرة في تفعيل تنويعاتها وقدرتها على سبر خفايا الأحداث. من الصعب حصر الوقائع التاريخية التي توالت في النص في هذه المحاذاة القليلة الوقت، كونه اعتراها على مهل، ملوحاً بادئ الأمر، بتعريضنا لجمهورية "مهاباد" المؤودة، التي أدغمها في متخيل الحدوث الروائية، عبر إضرام النزاعات التي اشتعلت بين الروس والحلفاء، حتى عرج على الغرباء الهاربين من مصير الهزيمة، متناولاً مسيرة المستحيل التي سجلها "الملا مصطفى بارزاني": "ذلك الرجل القصير قليلاً، العابس من رصده الوقت العابس، الواقف وراء الميزان الحديدي، هو الذي سرح بالجمع الثاني في مغاليق الثلوج الكبرى على قمم زاغروس. تساقطت الأصابع المتجلدة، والتصق لحم الأقدام بالأحذية. التفاتات كهمَّة اليأس من تركيا الى ايران، ومن إيران الى أرمينيا، ومن أرمينيا الى تركيا. ومن تركيا الى مشارف اللامكان السحيق في عبث المصائر. كان على الجمع أن ينجو من قيِّافي الشاه، الذين لم يكونوا ليتوقفوا إلا على البوابة الروسية". متابعة تتلمس تداعيات اغتيال رحيق الحلم "مهاباد" من دون أن تنسى إيقاظ كل الوقائع، كل حرف طرز السطر لتدوين تاريخ يعبأ بتراث الكرد، حتى كل طيوف الهضبة، التي راودت بحلولها هذا المكان، حتى "أرواح الاغريق" لم تسلم من هذا الإشعال لكل ما مضى برفق لا ينسى، ليعاود الحصول بقسوة لا تقل. 7- كاليتامى، نتعرض، آخر "يقظة الأزل الثاني" لفصل موجع، يحتمل تصديراً يتصف ببلواه لينير "محاكاة العدم"، فعلاً، نرى أحداثاً تتماهى بعبثية العدم، ورماد الزوال، لكل ما أحببنا، وأدمَّنا رفقة روحه وجرأة هتفه وإبادة لكل الكائنات التي اعتدنا على شقاوة حضورها، وكل الضحكات التي طرزت ليل المكان الهامس على نهر دجلة، بانتظار الغناء الذي سيصدح من حنجرة "يوسف" وهو يتلو الشعر الذي سيحضر "مانو و"جكرو" رعدة كلماته من عطف "سورا". كل هذا الأمل المترقب تشظى بغتة، أن إتقاد "زاده بزربادي" ورفقته، معلنين نهب الرصاص، لنتعرف الى شلال مواجهة عمياء، لم توفره حموة الرصاص، طلقات شرذمت كل كائن تحرك في إطار أفق المناظرة، المفاجئة، غير العادلة، المتسمة ببغت الغدر: ليردم المنتهى بتساقط أجساد لم نكتف من حرية بوحها بعد: "ربت على رقبته فنفر من راحته الدم. أُثقبت الرقبة بطلقة خرقتها وخرقت يد زينو. تهاوى البغل أخرس كما أقعدته أثقال، فتدحرج المغني. ذهلت العقول، واختبلت الأقدام. نهض زينو فخرَّ فوقه والي جناب مهتوكاً بالطلقة الثانية. استدار الرجال معجلين من الهول أوبتهم الى المضافة قفزاً فانحشروا، وتصادموا". قتل لم يرأف حتى بأحياء لا حيلة لهم، كالبغال "مروا بالبغال الثلاثة المنطرحة: اثنان سلما المقادير آلة الحيلة، وواحد يحتضر". حتى الأوز المثقل بطيبة الريش... حراس النهر: "زلزل العويل ضفة دجلة الشرقية حين تجرأت النساء، أخيراً، على تفقد أعشاش الهول الملآى بفراخه العارية، سرب من الأوز الملتم من الأنحاء كلها بحيرة من بياض لم يشارك النساء صياح الندبش، حتى الأوز أودعها سليم بركات لأسراب تحلق نحو الشمال، ملجأ الريش، كل موت. مع كل ذلك السفك الذي داوى عذب "دجلة" بصريخ الأفئدة... لم ينجز القتل مأرب الثأر، الذي لم يكتف بتصفية ثأره من الغريب "شريف رندو" أحد الغرباء الخمسة، صاحب الثأر الوحيد و"زاده بزربادي"، بل جاوز ذلك ليطغى على كل ما هناك، لكن لاحتمالات سليم بركات الرؤيوية، وحواسه الحدسية شأناً آخر، لا يدعهم - ببساطة الزناد - ينجزون مبتغى الإبادة، هكذا... كما رأيناه في "معسكرات الأبد"، عندما نفض "سعيد آغا الدقوري" ورفقته من قتلى "ثورة عامودا" أوار دمهم، وانتضوا بسالة أرواحهم، مندفعين الى هوى الشمال برفقة كل ضحايا العراء الكردي. لذا عاود استنهاض أرواح الأفئدة المغدورة، لتحيا برفقة أرواح تتلو قسوة قتل أباح حمى الأنقاض، حيث معترك النزال الأبدي ويقظة الأزل، الذي تحقق لهم بعدما عانوا من أنقاض الأزل الأول، المتمثل في تصدع جمهورية "مهاباد" وتأرجح قتلاها على خشب المشانق، ليتعرضوا ولتردم أنقاض الأزل الثاني المدمر لأجسادهم، هكذا يتلو سليم بركات أبد المأساة الكردية وأزلها المدوي في آن. بعدما تلهت المجزرة بأهل "سيدروك"، نفض كل قتيل ما تبقى من دمه، ومضى الى الشمال، في حلول ترميزي بالغ الدلالة والادهاش: يتجلى في مزاولة هذا الشعب لمصيره العصي على الذبح، موصياً ذاكرته على حتم استمرار دمه، هواء رئته على تشبثه بحرية هواء لا ينازع عليها، لدوام حراسة روحه لأرض، لا قبر لجسده، دونها، هكذا ليحيا مشمولاً بطيوف عدة تحيط الأرض والسماء والهواء، رغماً عن كل صدّ يلغي خفقة القلب. هكذا "انقلب الوجود على اليقظة الدهرية، وأظهر باطن الأزل متقلباً من حال الى حال".